تعدّ المطارحات الفكرية سبباً في إنضاج فكرةٍ ما واعدادها اعداداً مهماً لجعلها في عداد البحوث التي تساهم في رفد الثقافة ودفعها نحو الابداع الدائم..
والمقالان اللذان بين يدي القارئ الكريم احدى المطارحات المهمة في شأن القضية المهدوية، اذ كان لمسألة الجزيرة الخضراء أثرها في النقاش المحتدم بين المحققين، بل على المستوى العام كذلك، وقد قدّم الأستاذ رحيم مبارك عرضاً موجزاً عن التأمل في قضية الجزيرة الخضراء وكون ما لديه من أدلة لم تنهض في الاعتماد عليها والأخذ بها على محمل الجد واليقين. وكان لاطلاع السيد عبد الستار الجابري على موضوع الأستاذ مبارك داعياً لمناقشته من نواحٍ عدة ذهب فيها إلى امكانية التعاطي مع مسألة الجزيرة الخضراء وكون مقال الأستاذ مبارك لا يعدّ سبباً في قبوله للنفي أو التردد.
ويأتي دور القراء الأعزاء في تأسيس رؤيةٍ ثالثة أو الوقوف إلى جانب إحدى الرؤيتين ليتسنى لنا أن نرفد الثقافة المهدوية برؤية جديدة تساهم في إثْرائها وذلك بالأخذ بأحد الآراء محل النقاش..
هيئة التحرير
تأملات في الجزيرة الخضراء
رحيم حسين مبارك/ باحث ومحرر في مجلة الانتظار
احتلّت الجزيرة الخضراء مساحة غير يسيرة من الاهتمام لدى عشّاق الإمام المهدي المنتظَر ـ أرواحنا فداه ـ والمتلهّفين لظهوره المبارك، المستشرفين لبزوغ نوره وإشراقة فجــره بعــد أن ادلـهّم ليلُ المحنة وجثم بكلكله على الصدور المؤمنة، دون أن يتمكّن مـن سلبها إيمانها العميق بقُرب الفرج، أوَليس موعدهم الصبح؟ أليس الصبح بقريب؟!
ولعلّ الاهتمام الكبير الذي أولاه البعض لموضوع الجزيرة الخضراء التي عدّها الشيخ كاشف الغطاء الكبير قدس سره من حكايات الاخباريين(١) راجع إلى دعوى أنّ علماء الشيعة قد تلقّوا هذا الخبر بالقبول، مع أنّ مجرد إيراد العلماء لها لا يدلّ على قبولهم إيّاها.(٢)
وقد تحمّس البعض لفكرة الجزيرة الخضراء فدافع عنها بكلّ ما أوتي من قوّة، وحاول التعامل معها على أنّها واقع لا سبيل لتجاهله، فأضفى عليها ثوباً من العلمية والواقعية.(٣)
ورفضها البعض الآخر واحتكم فيها إلى العقل والمنطق، فناقش سندها ومدى وثاقته، وأشكل على التناقضات الموجودة فيها، خاصة وأنّها تشتمل على مواضيع لا يمكن أن تصحّ، مثل مسألة تحريف القرآن، ومسألة نزول القرآن على سبعة أحرف ومسائل أخرى غيرها.(٤)
ولسنا ـ في هذه المقالة المختصرة ـ في صدد مناقشة رواية الجزيرة الخضراء بلحاظ مدى صحة سندها أو مدى انسجام ما ورد فيها مع الفكر الشيعي، بل نحاول النظر إليها من خلال انسجامها مع الروايات الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السلام في خصوص تواجد الإمام المهدي عليه السلام في غيبته الكبرى، وإلى تقييم حكاية الجزيرة الخضراء من خلال التأمّل في مدى انسجام ما جاء فيها عن تواجد الإمام المنتظر عليه السلام مع مضامين روايات المعصومين عليهم السلام .
تواجد الإمام المهدي عليه السلام في الجزيرة الخضراء:
جاء في حكاية الجزيرة الخضراء تصريح بأنّ الإمام المهدي عليه السلام يتواجد ـ ولو بصورة متقطعة ـ في الجزيرة المذكورة، فردّاً على سؤال الشيخ علي بن فاضل المازندراني ـ وهو ناقل الحكاية ـ (هل يحجّ الإمام عليه السلام في كلّ مدّة بعد مدّة)؟
قال السيد شمس الدين محمد العالم ـ الذي وُصف في الحكاية بأنّه من أحفاد الإمام المهدي عليه السلام وأنه نائبه الخاص بأمرٍ صدر عنه عليه السلام :
(يا ابن فاضل، الدنيا خطوة مؤمن، فكيف بمن لم تقم الدنيا الاّ بوجوده ووجود آبائه عليهم السلام ؟ نعم، يحجّ في كلّ عام ويزور آباءه فيه المدينة والعراق وطوس على مشرّفيها السلام ويرجع إلى أرضنا هذه.(٥)
وفيه تصريح بأنّ الإمام المنتظر عليه السلام يرجع إلى الجزيرة الخضراء بعد زيارة مشاهد آبائه الكرام عليهم السلام ، وتلميح إلى أن الجزيرة هي مستقرّه صلوات الله وسلامه عليه.
وجاء في الحكاية أنّ الجزيرة الخضراء تقع في بحر أبيض يستدير حولها من جميع الجهات، وأنّ مراكب الأعداء إذا دخلت البحر غرقت ـ وإن كانت محكمةً ـ ببركة مولانا وإمامنا صاحب العصر عليه السلام .(٦)
كما جاء في حكاية الجزيرة كلام للسيد شمس الدين المذكور يقول فيه بأنّه يمضي إلى موضع يقع وسط جبل شاهق في كلّ صباح يوم جمعة فيزور الإمام عليه السلام منها ويصلّي ركعتين ويجد هناك ورقة مكتوب فيها ما يحتاج إليه من المحاكمة بين المؤمنين، فيعمل بكلّ ما تضمّنته الورقة.(٧)
وجاء في الحكاية أيضاً أنّ الشيخ علي بن فاضل ـ ناقل الحكاية ـ رأى في الجزيرة جمعاً كثيراً يسبّحون الله ويحمدونه ويهلّلونه ويدعون بالفرج للإمام القائم بأمر الله: الحجّة بن الحسن عليه السلام ، وأن عدد أمراء ذلك العسكر ثلاثمائة شخص.(٨)
الإمام المهدي عليه السلام في روايات المعصومين عليهم السلام:
وفي المقابل نجد روايات متكاثرة منقولة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تؤيد أمر حضور الإمام عليه السلام كلّ عام في موسم الحج، لكنّ هذه الروايات تسوقنا إلى الاعتقاد بأن الإمام المنتظر عليه السلام يتواجد بين شيعته ومواليه، وأنه يرعاهم برعايته، ولو لا دعاؤه لهم لنزل بهم اللأواء واصطلمهم الأعداء.(٩)
روى الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي عن محمد بن عثمان العمري، قال:
واللهِ إنّ صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه.(١٠)
وروى الصدوق عن عبيد بن زرارة قال: سمعتُ أبا عبد الله يقول: يفقد الناس إمامهم، فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه.(١١)
وروى الشيخ الصدوق عن الحميري قال: سألت محمد بن عثمان العمري، فقلت له: أرأيتَ صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: اللهم أنجِزْ لي ما وعدتَني.(١٢)
وروى الشيخ الصدوق عن الحميري قال: سمعتُ محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه يقول: رأيتُه صلوات الله عليه متعلّقاً بأستار الكعبة في المستجار، وهو يقول: اللهم انتقِم لي من أعدائي.(١٣)
وروى صاحب دلائل الإمامة عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: العام الذي لا يشهد صاحبُ هذا الأمر الموسمَ لا يُقبل من الناس حجّهم.(١٤)
وروى الشيخ الصدوق عن سدير، عن الإمام الصادق عليه السلام ـ في حديث ـ أنه قال: (... فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله عز وجل يفعل بحجّته ما فعل بيوسف: أن يكون يسير فيما بينهم ويمشي في أسواقهم ويطأ بُسطهم وهم لا يعرفونه حتّى يأذن الله عز وجل له أن يعرّفهم بنفسه كما أذن ليوسف عليه السلام حين قال لهم: (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ * قالُوا أَ إِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي).(١٥)،(١٦)
ونلاحظ في هذه الطائفة من الروايات وغيرها أنّها تتحدّث عن حضور حسّي للإمام عليه السلام بين شيعته ومواليه، فهو يشهد الموسم كلّ سنة فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه، وأنّه يدعو للمؤمنين بالفرج وأنه يدخل بيوت شيعته ويطأ بُسطهم كما رأينا في رواية الشيخ الكليني والشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام .
ويرى الشيخ الصدوق رحمه الله ـ وفقاً لهذه الروايات ـ أنّ الإمام المنتظر عليه السلام يجوز أن يعيش بين ظهرانينا، دون أن يكون في ذلك موضع إشكال في لزوم حجّته على الناس، فيقول رحمه الله:
وكما جاز أن يكون موسى عليه السلام في حِجر فرعون يربّيه وهو لا يعرفه، ويقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه، فكذلك جائز أن يكون صاحب زماننا موجوداً بشخصه بين الناس، يدخل مجالسهم ويطأ بُسطهم ويمشي في أسواقهم وهم لا يعرفونه، إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فقد روي عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام أنّه قال:
(في القائم سُنّة من موسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من عيسى، وسنّة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فأمّا سنّة موسى فخائف يترقّب، وأمّا سنّة يوسف فإن اخوته كانوا يُبايعونه ويُخاطبونه ولا يعرفونه...).(١٧)
وروى الكليني في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
(... فما تُنكر هذه الأمّة أن يفعل الله بحجّته كما فعل بيوسف: أن يمشي في أسواقهم ويطأ بُسطهم حتى يأذن الله في ذلك له كما أذن ليوسف، قالوا (أَ إِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ).(١٨)،(١٩)
وإن التأمل في عبارة الإمام الصادق عليه السلام واستنكاره على الأمة يوحي بوضوح أنّ صادق أهل البيت عليهم السلام يعجب من أن يغيب مثل هذا المعنى عن أذهان الأمّة. أفلا توحي عباراته عليه السلام أنّ الإمام المهدي عليه السلام يعيش بين ظهرانيّ شيعته، فيمشي في أسواقهم ويطأ بُسطهم دون أن يعرفوه بشخصه؟
قال المازندراني في شرح أصول الكافي:
(... حتّى يغيب هو عن أقربائه وعشيرته، ويعتزل عن أوليائه وشيعته ظاهراً، وهو معهم باطناً، حتّى أنه يُصاحبهم ويصاحبونه، ويراهم ويرونه، ولكن لا يعرفونه بشخصه ونسبه وهو يعرفهم. وقد روي أنه بعد ظهوره يقول كثير من الناس: رأيناه كثير).(٢٠)
وقال الشيخ المفيد في (المسائل العشر في الغيبة):
(وكم وليٍّ لله تعالى يقطع الأرض بعبادة ربّه تعالى والتفرّد عن الظالمين بعمله، ونأى بذلك عن دار الظالمين، وتبعّد بدينه عن محلّ الفاسقين، لا يعرف أحد من الخلق له مكاناً، ولا يدّعي إنسان له لقاءً ولا معه اجتماعاً... وكان من قصّة يوسف بن يعقوب عليهما السلام ما جاءت به سورة كاملة بمعناه، وتضمّنت ذكر استتار خبره عن أبيه وهو نبي الله يأتيه الوحي منه سبحانه صباحاً ومساءً، وأمره مطوي عنه وعن اخوته، وهم يعاملونه ويبايعونه ويبتاعون منه ويلقونه ويشاهدونه فيعرفهم ولا يعرفونه، حزن أبيه عليه السلام عليه ـ لفقده ويأسه من لقائه وظنّه خروجه من الدنيا بوفاته ـ ما انحنى له ظهره، وأنهك به جسمه، وذهب لبكائه عليه بصره...).(٢١)
ونلاحظ في رواية الشيخ الصدوق والشيخ الكليني وفي كلام الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ المازندراني الاستشهاد بقصّة يوسف عليه السلام في بيانٍ لكيفيّة حياة الإمام المنتظر عليه السلام في غيبته، وأنّه عليه السلام يصاحب شيعته ويصاحبونه، ويراهم ويرونه ولكن لا يعرفونه بشخصه ونسبه؛ حتّى إذا أذن الله تبارك وتعالى له بالظهور قال كثير من الناس: رأيناه كثيراً.
وقد وردت روايات كثيرة في أن الإمام المهدي عليه السلام يعيش في غيبته خائفاً يترقّب، وأنّه مُجبر على تغيير محلّ تواجده نتيجة الخوف من الظلمة وسطوتهم، فقد كتب عليه السلام إلى الشيخ المفيد رحمه الله يقول: (... شفعنا ذلك الآن من مستقرٍّ لنا يُنصب في شمراخ (وهو رأس الجبل) من بَهماء صِرنا إليه من غَماليل (وهو البطن الغامض من الأرض ذو شجر) ألجأنا إليه السّباريت (أي المُفلسون) من الإيمان.(٢٢)
وجاء في الروايات وصفه عليه السلام بتعابير (الفريد) و(الشريد) و(الطريد) وهي تعابير تموج بالغُربة والوحدة، وهذه الأوصاف لا تنسجم مع ما جاء في حكاية الجزيرة الخضراء من أنّ المهديّ المنتظر يعيش آمناً، إذا قصده أعداؤه غرقت مراكبهم في البحر الأبيض وإن كانت مُحكمة، وأنّه عليه السلام يعيش بين أصحابه، وأنّ عدد أمراء عسكره ثلاثمائة. ولاحظنا أن السيد شمس الدين الذي وصفته حكاية الجزيرة الخضراء بأنّه النائب الخاص للإمام المهدي عليه السلام ، وأنّه من أحفاده يصرّح بأنّ الإمام المنتظر عليه السلام يرجع إلى الجزيرة بعد أن يذهب إلى موسم الحجّ وإلى زيارة آبائه الكرام عليهم السلام ، كنايةً عن أن الجزيرة هي مركزه ومستقرّه الذي يأوي إليه ويرجع إليه، وهو ما يتعارض مع مفاهيم التشرّد والغُربة والوحدة من الأهل، والتفرّد من الأصحاب والأنصار والترقّب من الأعداء، التي سنورد فيما يلي نماذج من الروايات التي تتحدّث عنها.
روى الراوندي عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
(إنّ في صاحب هذا الأمر سنناً من الأنبياء؛ سنّة من نوح وهي طول عمره وظهور دولته وبسط يده في هلاك أعدائه، وسنّة من موسى كما كان خائفاً يترقّب، وسنّة من عيسى، فإنّه يُقال فيه ما يُقال في عيسى، وسنّة من يوسف بالستر، يجعل الله سبحانه بينه وبين الخلق حجاباً، يرونه ولا يعرفونه، وسنّة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهتدي بهداه ويسير بسيرته...).(٢٣)
ويدعم هذا التوجّه رواية في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال عنها الكليني: (أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تكلّم بهذا الكلام وحُفظ عنه وخطب به على منبر الكوفة: اللهم إنه لابد لك من حُجج في أرضك، حجّة بعد حجّة على خلقك، يهدونهم إلى دينك، ويعلّمونهم علمك، كيلا يتفرّق أولياؤك، ظاهر غير مُطاع، أو مُكتتم يترقّب، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة فهم بها عاملون...).(٢٤)
وماذا يستوحي الشيعي من الروايات الكثيرة التي تصف الإمام المنتظر عليه السلام بالطريد الشريد الفريد الوحيد المنفرد عن أهله؟
يروي صاحب دلائل الإمامة عن داود المرقي قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن صاحب هذا الأمر، فقال: هو الطريد الشريد الفريد الوحيد المنفرد عن أهله، المكنّى بعمّه، الموتور بأبيه.(٢٥)
وروى النعماني في الغيبة عن عبد الأعلى بن حصين الثعلبي عن أبيه قال: لقيت أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام في حج أو عمرة.... (وجاء فيه أنّه سأله عن الفَرَج) فقال عليه السلام : إنّ الشريد الطريد الفريد الوحيد، المفرد من أهله، الموتور بوالده، المكنّى بعمّه، هو صاحب الرايات، واسمه اسم نبي.(٢٦)
وروى الكليني في الكافي عن الإمام الرضا عليه السلام ـ في حديث طويل ـ قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بأبي ابن خيرة الإماء.... وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه وجدّه، صاحب الغيبة.(٢٧)
وروى الصدوق عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعتُ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: صاحب هذا الأمر الشريد الطريد الفريد الوحيد.(٢٨)
قال المازندراني في شرح أصول الكافي:
الشريد: فعيل بمعنى فاعل، من شرد فلاناً إذا نفر عن الخلق وذهب في الأرض وسار في البلاد خوفاً وخزعاً، فهو شارد وشريد.(٢٩)
ولا يرتاب أحد بأنّ إحساس المؤمن بأن إمامه يُعاني كما تعاني شيعته ـ وإن اختلفت درجة المعاناة باعتبار مقام الإمامة الذي لا يُقاس به أحد ـ سيمنح شيعة الإمام وجماهيره صلابة وصموداً، ويزيدهم ثباتاً واستبسالاً في مواجهة كلّ قوى الشرّ والطغيان. كما أنّ وصف الإمام المهدي عليه السلام بالمضطّر الشريد المفرد من أهله لا ينسجم مع تصوّر حياته في جزيرة آمنة لا يهدّده فيها أحد.
وأين يقع الأمان من وصف الخائف المترقّب الشبيه في خوفه وترقّبه بموسى عليه السلام لمّا خرج هارباً من بطش فرعون؟!
أو لم ينوّه صادق أهل البيت عليهم السلام بأنّ المهدي المنتظر عليه السلام سيفعل الله تعالى به ما فعله بيوسف عليه السلام : أن يمشي في أسواقهم ويطأ بُسطهم حتّى يأذن الله في ذلك له كما أذن ليوسف؟
ومع أنّ معاناة الإمام عليه السلام يمكن تأويلها بعِلمه عليه السلام بحال شيعته، لأنّه عليه السلام يقول: (نحن وإن كنّا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين... فإنّا نُحيط بأنبائكم، ولا يغزب عنّا شيء من أخباركم).(٣٠)
فهو عليه السلام يرى ـ بعلمه اللدني ـ شيعته دون أن يحجبهم عنه شيء ويتألّم لما يُصيبهم، لكنّنا نتحدّث عن تأثير الحضور الحسّي للإمام عليه السلام بين ظهراني شيعته وجماهيره ومشاطرته إيّاهم محنهم وآلامهم، وهو أمر لا يمكن إنكار تأثيره العميق الفاعل في نفوس جماهير الإمام المهدي عليه السلام المؤمنة المنتظرة لفرجه، إذ بفرجه فرجها.
ومن هذا كلّه فإنّنا نرى أنّ حكاية الجزيرة الخضراء ـ بصرف النظر عن مدى صحّة سندها وعن نقاط الضعف الكثيرة الموجودة فيها ـ لا تنسجم مع مضامين ما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام في خصوص حركة الإمام المنتظر عليه السلام في غيبته وتواصله مع شيعته وتواجده بينهم تواجداً حسّياً ملموساً بحيث أنّه يراهم ويرونه، ويعاملهم ويعاملونه، شأنه في ذلك شأن يوسف النبيّ عليه السلام ، ولا تنسجم كذلك مع ما ورد من خوف الإمام عليه السلام في غيبته وترقّبه وتنقّله وتشرّده وانفراده عن أهله.
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــ
(١) مقدّمة كتاب كشف الأستار للنوري، نقلاً عن (الجزيرة الخضراء ومثلث برمود): ٤٤.
(٢) (الجزيرة الخضراء ومثلث برمود) للسيد جعفر مرتضى: ٤٤٤٥.
(٣) أنظر: الجزيرة الخضراء لناجي النجار.
(٤) أنظر آراء السيد جعفر مرتضى في (الجزيرة الخضراء ومثلث برمود).
(٥) بحار الأنوار: ٥٢: ١٧٣.
(٦) نفس المصدر: ١٦٦.
(٧) نفس المصدر: ١٦٨.
(٨) بحار الأنوار ٥٢: ١٧١.
(٩) كما صرّح بذلك الإمام المهدي عليه السلام ، أنظر رسالته للشيخ المفيد.
(١٠) كمال الدين ٢: ٤٤٠، ح٨؛ الغيبة للطوسي: ٢٢١.
(١١) كمال الدين٢: ٤٤٠، ح٧.
(١٢) كمال الدين٢: ٤٤٠، ح٩.
(١٣) كمال الدين٢: ٤٤٠، ح١٠.
(١٤) دلائل الإمامة ٤٨٧، ح ٤٨٥/ ٨٩؛ حلية الأبرار٢: ٦٠٧.
(١٥) يوسف: ٨٩٩٠.
(١٦) كمال الدين١: ١٤٤١٤٥، ح١١، باب في غيبة يوسف عليه السلام .
(١٧) كمال الدين١: ٢٨، مقدّمة المصنّف.
(١٨) يوسف:٨٩ ٩٠.
(١٩) الكافي ١: ٣٣٧، ح٤.
(٢٠) شرح أصول الكافي للمازندراني٦: ٢٥٣.
(٢١) المسائل العشر في الغيبة: ٧٧ ٧٨.
(٢٢) الاحتجاج ٢: ٣٢٣.
(٢٣) الخرائج والجرائح للراوندي ٢: ٩٣٧.
(٢٤) الكافي ١: ٣٣٩، ح١٣.
(٢٥) دلائل الإمامة ٥٣١/ ٥٠٧/ ١١١.
(٢٦) الغيبة للنعماني ١٧٨، ح٢٢.
(٢٧) الكافي ١: ٣٢٣/ ح١٤.
(٢٨) كمال الدين١: ٣٠٣، ح١٣.
(٢٩) شرح أصول الكافي ٦: ٢١٣.
(٣٠) من رسالته عليه السلام للشيخ المفيد. الاحتجاج ٢: ٤٩٨ ٤٩٩.