الصفحة الرئيسية » البحوث والمقالات المهدوية » (٧٢٩) دراسة التحوّلات في قراءة مفهوم (انتظار الفرج) في الغيبة الكبرى
 البحوث والمقالات المهدوية

المقالات (٧٢٩) دراسة التحوّلات في قراءة مفهوم (انتظار الفرج) في الغيبة الكبرى

القسم القسم: البحوث والمقالات المهدوية تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠٢١/٠٥/٢١ المشاهدات المشاهدات: ٤٥٠٥ التعليقات التعليقات: ٠

دراسة التحوّلات في قراءة مفهوم (انتظار الفرج) في الغيبة الكبرى

السيد كاظم الطباطبائي، مهدي الجلالي
مونس الفارساني الدهقاني، حسن نقي زاده
ترجمة: السيد جلال الموسوي

تعتبر مسألة (انتظار فرج الإمام القائم (عجَّل الله فرجه))، من جملة المفاهيم التي حظيت باهتمام كبير من قبل العلماء الشيعة، خاصّة بعد بداية الغيبة الكبرى لإمام العصر والزمان (عجَّل الله فرجه). فمسألة انتظار الفرج وإن كانت معنونة في المجتمع الشيعي -كما تدلُّ على ذلك بعض الشواهد الروائية والتاريخية- في حياة بعض الأئمَّة السابقين (عليهم السلام)، إلّا أنَّ هذا المفهوم قد اكتسب أهمية خاصّة وتوجهاً لافتاً في المجتمع الشيعي عموماً، وعند علماء الشيعة خصوصاً.
وبمطالعة عابرة للمصادر الروائية الشيعية، والتي عنيت بنحوٍ من الأنحاء بهذا المفهوم أو المسألة، يكشف لنا جلياً بأنَّ تحوّلات مميزة قد حصلت -بمرور الزمن- في قراءة (مفهوم الانتظار).
وما نحاول معالجته في هذا المقال، هو:
أولاً: إراءة تقرير عن هذه التحوّلات.
وثانياً: الدواعي والظروف التي أدّت إلى حصول مثل هذه التحولات في قراءة مفهوم (انتظار الفرج)، لكي نتمكن من تبيين هذه التحولات في نهاية المطاف.
مطارحة المسألة:
سوف نتابع البحث في خصوص التحوّلات الحاصلة في مفهوم (انتظار الفرج) على ثلاث مراحل:
الأولى: طرح القراءات والرؤى السائدة في المجتمع الشيعي حول (انتظار الفرج) في الغيبة الكبرى، ونحاول هنا التعرف على التحوّلات الحاصلة في تلك الفترة. وفي هذا البحث سنرصد الآثار المهمّة والأساسية التي تتجلّى فيها آراء علماء الشيعة في هذا المجال.
وفي المرحلة الثانية، سنحاول تقييم وتحليل تلك التحوّلات التي سجّلناها في خصوص مسألة (انتظار الفرج) في مرحلة الغيبة الكبرى.
ثم ندرس في القسم الأخير، والمخصّص لتبيين التحولات، العوامل التي من شأنها إيجاد التحول في الطرح التفسيري(١) لهذا المفهوم بنحو يؤدّي إلى تغيير في قراءته السائدة في تلك البرهة، لتظهر قراءة جديدة.
ويبدو أنَّ مفهوم (انتظار فرج الإمام الغائب) يتشكل من ثلاثة عناصر أساسية:
الأول: مفهوم (الانتظار).
الثاني: مفهوم (فرج الإمام الغائب)، وفيما يخصّ مفهوم (انتظار الفرج)، فإنَّ مفهوم (الانتظار) بنفسه يتألّف من جهتين هما: (نوع الانتظار) و(طول زمان الانتظار).
الثالث: عنصر (الإمام الغائب). وهذا العنصر يمكننا عدُّه ثابتاً على طول زمن الغيبة الكبرى، فلا يخضع للتغير، فإنَّ المجتمع الشيعي في هذا الدور لم يختلف في مسألة (من هو الإمام الغائب). وعليه، فبنظرةٍ تحليلية، يمكننا أن نقول بوجود ثلاثة عناصر أساسية ومهمّة في التأثير على الطرح التفسيري وهي: طول زمان الانتظار، وطرز ونوعية الانتظار، وعنصر مفهوم الفرج ونحو قراءته.
وقسم من هذا المقال مخصّص لدراسة الآراء والرؤى الرئيسية في مسألة (انتظار الفرج) على طول دور الغيبة الكبرى لإمام العصر (عجَّل الله فرجه)، أي في القرون الإحدى عشر الماضية.
وسنقسّم هذا الدور إلى ثلاث فترات، وندرس الآراء والقراءات المطروحة في (انتظار الفرج) في كلِّ فترة من هذه الفترات الثلاث، وهي:
١- القرن الرابع والخامس الهجري، وهما القرنان الأوّلان للغيبة الكبرى.
٢- القرن العاشر والحادي عشر الهجري.
٣- وأخيراً العصر الحاضر، وهو المقصود في هذا المقال، والذي يبدأ من نهضة المشروطة في إيران إلى يومنا هذا.
فالدور الأوّل، هو الدور الذي كانت فيه حكومة آل بويه(٢)، والدور الثاني، أي القرن العاشر والحادي عشر للهجرة، هو دور اقتدار وسلطنة الحكومة الصفوية في إيران(٣).
وفي الدور المعاصر، وبالتحديد من نهضة المشروطة وما بعد ذلك، نشاهد إقبال علماء الشيعة نحو عرصة السياسة وتأثيرهم فيها.
١- تقرير عن التحولات في المسألة:
ونهتم في هذا القسم بإراءة تقرير عن القراءات والتوجّهات الموجودة في المجتمع الشيعي في مسألة (انتظار الفرج) للإمام القائم (عجَّل الله فرجه).
والهدف من طرح هذا البحث هنا، رصد التحوّلات الحاصلة في هذه القراءات والتوجهات منذ بداية الغيبة الكبرى وعلى مرِّ القرون الإحدى عشر التالية لها، واستناداً إلى ما تقدم منّا في المقدّمة، فإنّنا سنقسّم البحث إلى ثلاثة أقسام. القسم المتعلّق بالقرنين الرابع والخامس، والقسم المتعلّق بالقرنين العاشر والحادي عشر، والقسم المختصّ بالفترة المعاصرة.
١-١. القرن الرابع والخامس الهجري:
لقد كان للقرن الرابع والخامس الهجري، بالنسبة للمجتمع الشيعي، دورٌ مهم. فهاذان القرنان هما القرنان الأوّلان في الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر (عليه السلام)، حيث ابتُلي المجتمع الشيعي في بداية الغيبة الكبرى بنوعٍ من الحيرة والاضطراب العقدي، استطاع اجتيازها من خلال استجماع مبانيه الفكرية وصفّها إلى بعضها البعض.
ومن جملة علماء الشيعة الذين برزوا في هذا المضمار في تلك القرون الأولى من الغيبة الكبرى، والذين اهتمّوا كثيراً بمسألة انتظار فرج الإمام القائم (عليه السلام)، أبو عبد الله محمد بن جعفر النعماني، المشهور بالشيخ النعماني، والذي كتب كتاباً باسم (الغيبة)، حول موضوع غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام).
ويذكر الشيخ النعماني (رحمه الله) في مقدّمة كتابه، نقاطاً مهمّة في خصوص مسألة غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، يمكنها أن تكشف عن رؤية المجتمع الشيعي الاثني عشري الذي عاصره الشيخ النعماني.
فالشيخ النعماني (رحمه الله) في بداية هذا الأثر القيم، وبعد أن يعتب على بعض المجاميع في المجتمع الشيعي، الذين انحرفوا عن المذهب الشيعي الاثني عشري ومالو إلى الطوائف الأخرى، يقول: (فقصدت القربة إلى الله (عزَّ وجلَّ) بذكر ما جاء عن الأئمة الصادقين الطاهرين (عليهم السلام) من لدن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى آخر من روي عنه منهم في هذه الغيبة التي عمي عن حقيقتها ونورها من أبعده الله عن العلم بها، والهداية إلى ما أوتي عنهم (عليهم السلام) فيها ما يصحح لأهل الحق حقيقة ما رووه ودانوا به وتؤكد حجتهم بوقوعها، ويصدق ما آذنوا به منها.
وإذا تأمل من وهب الله تعالى له حسن الصورة، وفتح مسامع قلبه، ومنحه جودة القريحة، وأتحفه بالفهم وصحة الرواية بما جاء عن الهداة الطاهرين (صلوات الله عليهم) على قديم الأيام وحديثها من الروايات المتصلة فيها، الموجبة لحدوثها، المقتضية لكونها مما قد أوردناه في هذا الكتاب حديثاً حديثاً...
علم أن هذه الغيبة لو لم تكن ولم تحدث مع ذلك ومع ما روي على مر الدهور فيها لكان مذهب الإمامة باطلاً، لكن الله تبارك وتعالى صدق إنذار الأئمة (عليهم السلام) بها، وصحح قولهم فيها في عصر بعد عصر، وألزم الشيعة التسليم والتصديق والتمسك بما هم عليه، وقوي اليقين في قلوبهم بصحة ما نقلوه، وقد حذر أولياء الله (صلوات الله عليهم) شيعتهم من أن تميل بهم الأهواء، أو تزيغ بهم وبقلوبهم الفتن واللأواء في أيامها، ووصفوا ما يشمل الله خلقه به من الابتلاء عند وقوعها بتراخي مدتها، وطول الأمد فيها ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢].
... وقد جمعت في هذا الكتاب ما وفق الله لجمعه من الأحاديث التي رواها الشيوخ عن أمير المؤمنين والأئمة الصادقين (عليهم السلام) أجمعين في الغيبة وغيرها مما سبيله أن يضاف إلى ما روي فيها بحسب ما حضر في الوقت، إذ لم يحضرني جميع ما رويته في ذلك لبعده عني وأن حفظي لم يشمل عليه، والذي رواه الناس من ذلك أكثر وأعظم مما رويته ويصغر ويقل عنه ما عندي وجعلته أبواباً...)(٤).
وبهذا يمكننا أن نستكشف بأنَّ النعماني (رحمه الله)، كان في صدد بيان أنَّ فكرة غيبة الإمام القائم (عليه السلام)، فكرة حاضرة في الفكر الشيعي منذ بداية وجوده، وليست مسألة عويصة تؤدّي إلى ما ابتلي به بعض المجتمع الشيعي من الحيرة واليأس، بل إنَّ على هؤلاء انتظار فرج الإمام (عليه السلام).
ومن جملة العلماء الذين برزوا في هذه الفترة، والذين تصدّوا لمعالجة مسألة الغيبة وانتظار فرج الإمام الثاني عشر، الشيخ الصدوق (رحمه الله)، فإنَّه قد جعل مسألة غيبة إمام العصر (عليه السلام)، محور كتابه (كمال الدين وتمام النعمة).
 وهذا الكتاب يعدُّ في حقيقته كتاباً موازياً لكتاب (الغيبة) للنعماني، بمعنى أنَّه يتضمّن ملامح الفكر الشيعي الرئيسية في مسألة الإمام الغائب (عليه السلام)، بنحو مبسوط، مشفوعاً بالروايات الدالّة على هذه القضية.
وقد خصَّص الصدوق (رحمه الله) قسماً من هذا الأثر لجمع الروايات الصادرة عن رسول الله ݕ والأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، تلك الروايات المشيرة إلى مسألة الغيبة(٥).
وبذلك، يبدو لنا بأنَّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) كان أيضاً بصدد بيان أنَّ مسألة غيبة الإمام القائم (عليه السلام)، وظهوره في الزمان الذي تتوفر فيه الأرضية المناسبة، كانت قد طرحت على الدوام على لسان المعصومين (عليهم السلام)، وإنَّ على المجتمع الشيعي أن يعيش حالة الانتظار لهذا الظهور.
وفي هذا الدور من الأدوار الثلاثة، والذي خصّصناه لدراسة توجّه الشيعة، وقراءتهم لمسألة (انتظار فرج الإمام القائم (عليه السلام))، لابدَّ لنا من ذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) باعتباره أحد علماء الشيعة البارزين، الذين كانت لهم أدوار في مسألة (انتظار الفرج). فالشيخ المفيد (رحمه الله)، تعرّض لمسألة الغيبة في مجموعة من رسائله، وأجاب عن الشبهات المطروحة في هذا الموضوع في عدّة مواضع من مصنفاته(٦).
فمن جملة الأسئلة التي تناولها الشيخ المفيد (رحمه الله) بالردِّ والجواب، مسألة الفائدة من معرفة الإمام القائم (عليه السلام) في حال غيبته. فالشيخ المفيد في معرض الجواب عن هذا السؤال يتعرض لمسألة انتظار فرج الإمام القائم (عليه السلام) من قبل شيعته، وأنَّ انتظار الشيعة لفرج إمامهم هو بمثابة العبادة وله ثوابها، وأنَّهم بذلك الانتظار يدرؤون عن أنفسهم العقوبات الكبيرة(٧)،(٨).
كما ينبغي التنويه بأحد كبار علماء الشيعة في تلك الفترة، وهو شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله)، فإنَّ له دوراً بارزاً في هذا المضمار، حيث ألَّف كتاب (الغيبة) في أحوال وغيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام).
فالشيخ الطوسي (رحمه الله) في هذا الكتاب يجيب أساساً عن الشبهات التي كانت بعض الفرق والمذاهب الفكرية تطرحها في خصوص مسألة غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، سواءً كانوا من الشيعة أو من غيرهم(٩).
وفي الأقسام الأخرى من هذا الكتاب، يتعرض الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى مسألة عمر الإمام الغائب (عليه السلام)(١٠)، سفراء الإمام الغائب (عليه السلام)(١١)، تشرفات بعض الأشخاص بالإمام (عليه السلام) من غير أن يعرفوه(١٢)، ومسائل مشابهة أُخرى.
كما إنَّ الشيخ الطوسي (رحمه الله)، كان قد خصّص قسماً من كتابه لمسألة العلامات الحاكية عن قرب خروج إمام العصر (عليه السلام)(١٣).
إنَّ دراسة آراء الشيخ المفيد والشيخ الطوسي (رحمهما الله) حول مسألة (انتظار الفرج) تكشف عن أنَّ رأي هذين العَلَمين مكمل للرأي الظاهر من آثار ومصنّفات الشيخ النعماني والشيخ الصدوق (رحمهما الله)، وهو التأكيد على غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) عن أنظار المجتمع الشيعي، ولكنّه حيٌّ خلف الستار، وإنَّ على الشيعة انتظار ظهوره الشريف في كلِّ آن.
١-٢: القرن العاشر والحادي عشر للهجرة:
صادف القرن العاشر والحادي عشر للهجرة، استقرار الصفوية في إيران، حيث أعلن في وقتها أنَّ المذهب الرسمي للدولة هو المذهب الشيعي الاثنا عشري.
ولقد تحسّنت أوضاع المجتمع الشيعي، اجتماعياً وسياسياً، في هذا الدور من أدوار الغيبة، واستطاع الكثيرون من علماء الشيعة تأليف الكتب والآثار الروائية.
فكان العلّامة المجلسي (رحمه الله) من بين المحدّثين البارزين في هذه الفترة. فمن جملة الموارد التي يمكن من خلالها التعرّف على رؤية ومواقف العلّامة المجلسي في مسألة (انتظار فرج القائم (عليه السلام))، معالجته لمسألة (البداء) في أمر ظهور وفرج الإمام القائم (عليه السلام). فالعلّامة المجلسي، في كتابه (بحار الأنوار) يتناول الروايات التي تضمّنت قرب ظهور وفرج إمام العصر (عليه السلام)، ويقول بأنَّ هذه الروايات صدرت عن المعصومين (عليهم السلام) من باب التورية، ولا يمكن استفادة (البداء) واستنتاجه منها.
ويعتقد العلّامة المجلسي (رحمه الله)، بأنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) إذا كانوا يريدون إخبار شيعتهم بأنَّ ظهور إمامهم الغائب لن يكون قريباً، وإنَّه سيظهر بعد فترة وغيبة طويلة، فإنَّ ذلك كان سيؤدّي إلى يأس بعض الشيعة وتخلّيهم عن الحقّ، ولذا فإنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) اعتبروا الظهور قريباً، أو إنّهم كانوا يقولون: يحتمل أن يكون الفرج قريباً، لإبقاء الناس ثابتين على الدين فيثابون على الانتظار(١٤).
ولتكميل البحث في مسألة ظهور الإمام القائم (عليه السلام) بعد انتظار طويل، وللتأكيد على هذه القضية أكثر، فإنَّ العلّامة المجلسي (رحمه الله) عقد باباً في كتابه (بحار الأنوار) تحت عنوان (ذكر أخبار المعمّرين)، لرفع استبعاد المخالفين لطول غيبة مولانا القائم (عجَّل الله فرجه)(١٥).
وهذا النوع من الأبحاث، كان له دور أساسي في الفترة التي عاشها العلّامة المجلسي (رحمه الله)، باعتبار الفاصل الزماني الكبير بين بداية الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام) وبين عصر العلّامة المجلسي، وكما أسلفنا فإنَّ تلك الفاصلة الزمانية كانت أكثر من الزمن الذي يستفاد من مضمون الروايات الواردة في أمد الغيبة.
ومن جملة كبار العلماء الشيعة البارزين في هذين القرنين، والذين اهتمّوا بمسألة (انتظار الفرج)، المولى صالح المازندراني. فقد استعرض هذا العالم الجليل موضوع (الانتظار) في ذيل شرحه لروايةٍ عن الإمام الصادق (عليه السلام) والتي يجيب فيها عن سؤال طرحه أبو بصير -وهو أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) - حول زمان الفرج، حيث يسأله الإمام الصادق (عليه السلام) عن كونه من الذين يطلبون الدنيا؟ ثم يضيف الإمام (عليه السلام) بأنّ من عرف هذا الأمر فإنَّ في انتظاره لهذا الأمر فرجه(١٦).
ويقول المولى صالح المازندراني في شرحه لهذه الرواية، بأنَّ المقصود من (الفرج) في سؤال أبي بصير، هو حصول الفسحة والفرجة للشيعة بظهور حضرة صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه). ثم يشرح جواب الإمام الصادق (عليه السلام) ويقول بأنَّ المقصود من كون أبي بصير من طلّاب الدنيا هو أنّه يطلب الراحة في هذه الدنيا، وإنّه يتصور بأنَّ الظهور يعني الدعة والرفاهية في العيش.
ثم يضيف المولى المازندراني بأنَّ ذلك أمرٌ بسيط وسهل، ولكنَّ المقصود الحقيقي من الفرج هو الفرج والراحة الأخروية، المقترنة بالخلاص والتحرّر من العذاب الأبدي، وإنَّ مثل هذا الفرج حاصل له بانتظاره حتّى لو لم يبق حياً إلى زمان الظهور، وذلك لأنّه عارف بأمر ظهور الإمام القائم (عليه السلام) معتقد به وبغيبته، وهو من المنتظرين له. ولذا، فإنَّ كلَّ من عرف هذا الأمر، فإنَّ الله تعالى سيفرّج عنه(١٧).
وثالث العلماء الذين تعرّضوا لمسألة (انتظار الفرج) في القرنين العاشر والحادي عشر ممن نذكرهم في هذا البحث، المولى محسن الفيض الكاشاني (رحمه الله).
فقد استعرض المولى الفيض الكاشاني في كتابه (الوافي) شرحاً لرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وهي رواية موجودة في أصول الكافي، حيث ورد فيها أنَّ أبا بصير يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن زمان الفرج.
يقول الفيض الكاشاني في شرحه لهذه الرواية، بأنَّ المقصود من كلام الإمام الصادق (عليه السلام) هو إنَّ من يعرف هذا الأمر -وهو أنَّ الإمام الغائب (عليه السلام) لابدَّ أن يظهر يوماً ما- سينال الفرج والخلاص، لأنَّه بمعرفته لهذا الأمر، سيكون من المنتظرين لظهور الإمام القائم (عليه السلام)، وانتظار ظهوره من أفضل العبادات كما جاء في بعض الروايات(١٨).
وعليه، فمن كان عارفاً لهذا الأمر، فإنّه حتى إذا أراد درك ظهور الإمام (عليه السلام)، فلن يكون انتظاره للظهور من أجل المصالح الدنيوية ورفاهية العيش في هذه الدنيا، وإنّما سيكون هدفه رضا الله وطاعته والخلاص من العقاب الأخروي(١٩).
وما يتصور من إنَّ الحياة في زمن صاحب العصر والزمان (عليه السلام)، ستكون حياة سعة ورفاهية، فإنَّ هذا التصور مبتنٍ على الانفراج الذي سيحصل في الحياة الاجتماعية والسياسية الشيعية.
١-٣: الزمن المعاصر:
لقد شاهدنا، في الزمن المعاصر، وبعد نهضة المشروطة في إيران، عدَّة علماء شيعة تناولوا مسألة (انتظار ظهور الإمام الغائب (عليه السلام))، وجعلوها مادّة تفكيرهم ومؤلّفاتهم. ومن بين هؤلاء العلماء الذين بحثوا هذه المسألة في زمننا الحاضر، العالم الجليل علي أكبر الهمداني حيث كتب كتاباً في غيبة الإمام القائم (عليه السلام) تحت عنوان (تكاليف الأنام في غيبة الإمام)، ونشر هذا الكتاب سنة (١٣١٧هـ)، حيث يستعرض الهمداني في كتابه تكاليف الشيعة تجاه مسألة (فرج الإمام القائم (عليه السلام))، في دور الانتظار.
ومن جملة الأمور التي اعتبرها هذا العالم تكليفاً للشيعة في كتابه هذا، هو أنَّ على المجتمع الشيعي أن يتحمّل الصعاب في زمن الغيبة فيما إذا واجه الظلم والجور من قبل الأعداء، وأن يحبسوا غصصهم في صدورهم فلا ينفعلوا، بل عليهم أن يتحلّوا بالصبر وانتظار فرج الإمام (عليه السلام)، وأن يدعوا له بالفرج.
وكان المولى علي أكبر الهمداني يعتقد بعدم جدوى المواجهة المسلّحة مع أهل الباطل، ولا الخروج عليهم في زمن الغيبة(٢٠).
ومن بين علماء الشيعة الذين تصدوا لدراسة مسألة (فرج الإمام القائم (عليه السلام))، السيد محمد تقي الموسوي الأصفهاني ففي كتابه (مكيال المكارم) يبحث في رواية ينقلها عن كتاب (الكافي)، جاء فيها إنَّ أبا بصير يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) حول زمان الفرج(٢١)، وقد تقدّم مضمون سؤال أبي بصير وجواب الإمام الصادق (عليه السلام)، والتي ذكرها العلّامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار(٢٢)، وذكرها الكليني (رحمه الله) في الكافي(٢٣).
وبعد نقل العلّامة محمد تقي الموسوي الأصفهاني لهذه الرواية يقول: (بأنَّ الأكثرين من الشيعة كانوا يعتقدون بأنَّه إذا ما وصل زمان فرج الإمام (عليه السلام)، واستلامه لزمام الأمور السياسية للمسلمين، فإنَّ الأرضية ستكون مناسبة للشيعة لتحسين أوضاعهم المعاشية ورفاههم وراحتهم). ثم يبدأ الموسوي الأصفهاني بنقد هذه الرؤية ويعتبرها نوعاً من طلب الدنيا، استناداً إلى جواب الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي بصير. ثم يضيف قائلاً (بأنَّ المقصود من انتظار الفرج، ليس وصول زمان الراحة والدعة والتلذّذ بنعيم الدنيا، بل المقصود وصول زمان نصرة الإمام المهدي (عليه السلام) والجهاد معه)(٢٤).
وبعد السيد محمد تقي الموسوي الأصفهاني، لابدَّ أن نتناول رؤية جمع من العلماء الشيعة المعاصرين، وعلى رأسهم السيد محمود الطالقاني، الذي كانت له قراءة متفاوتة عن فكرة (انتظار الفرج). ولمّا كانت هذه القراءة تطرح لأوّل مرّة من قبل هذا العالم الذي بلور ملامحها، فإنّنا سنجعله محور دراستنا على الرغم من إنّها لا تنحصر به فقط، بل يشاركه فيها آخرون.
ففي كتابه (المهدي ومستقبل البشرية)، يتعرض لبحث ظهور الإمام القائم (عليه السلام)، ودوره في حياة المجتمع الشيعي.
فالطالقاني يقرأ قضية ظهور الإمام القائم (عليه السلام) والانتظار بقراءة تبعث الأمل في المجتمع الشيعي، وتحثّهم على السعي والنشاط في الحياة. فهو يؤكد على إنَّ هذه الرؤية والقراءة للظهور، هي التي تحيي الأمل وتدفع اليأس والخوف من الهزيمة في المجتمع الشيعي، وبذلك تضمن حياة وبقاء الشيعة(٢٥).
وفي تأليف آخر للسيد الطالقاني، يشير إلى نقطة اُخرى، وهي إنَّ بعض مجاميع المجتمع الشيعي يأملون -جهلاً- من انتشار الفساد وظهور الفحشاء في المجتمع تعجيلاً للظهور، ويعتبرون ذلك من علائمه. ولذا، فهو يحاول تفنيد هذه الدعاوى ويعلن مخالفته لها بكلِّ صراحة. ويعتقد السيد الطالقاني بضرورة الحذر والابتعاد عن المواقف المنفعلة تجاه هذه الظروف، بل لابدَّ من التحلّي بالصبر والصمود أمام مطبّات الحياة وإعداد مقدّمات النهضة العالمية. ولكنَّه في نفس الوقت يذمُّ اللاأُبالية وعدم الاكتراث المطلق والصبر المحض وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(٢٦).
ومن جملة محقّقي الشيعة الآخرين في العصر الحاضر، والذي عالج مسألة انتظار الظهور وأبدى رأيه فيها، سماحة السيد موسى الصدر.
فبنظر السيد موسى الصدر، فإنَّ (انتظار الفرج) لا يعني السكوت على الظلم والفساد، فإنَّ ذلك عنده بمثابة عدم الانتظار والاستسلام، بل إنَّ معنى (انتظار الفرج) هو الإعداد والاستعداد والتعبئة وتربية الكوادر والطاقات وحشد القوى والإعداد الروحي، النفساني، الفكري، المعنوي، الجسدي، التكنولوجي والعسكري. ويؤكد على إنَّ انتظار الفرج لا يعني حصول انقلاب مفاجئ في العالم، وإنَّما يعني بأنَّ على المجتمع الشيعي أن يتكاتف دائماً، وأن يكون على أهبة الاستعداد، وبذلك يعدُّ نفسه للظهور لا أن يتهرب من المسؤولية(٢٧).
وفي مقام بيان آراء علماء الشيعة الآخرين الذين تصدّوا لبيان مسألة (فرج الإمام القائم (عليه السلام))، في الزمن المعاصر، لابدَّ من معرفة رؤية الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
ففي كتابه (المهدي الثائر الكبير) يتعرض لبحث مسألة (انتظار فرج الإمام القائم (عليه السلام)). ويؤكد الشيرازي على نقطة مهمّة، وهي إنَّ بحث (انتظار الفرج) في الزمن المعاصر، يتألّف من عنصرين أساسيين: الأوّل عنصر (النفي)، بمعنى نفي الظروف الموجودة. والعنصر الثاني، عنصر (الإثبات)، بمعنى إرادة الظروف الأفضل(٢٨) وبذلك يظهر أنَّ رؤية هذا العلم هي أنَّ (انتظار الفرج) لا يعني الخنوع وقبول الوضع الموجود على ما هو عليه.
وفي موضع آخر من كتابه، يؤكد الشيخ ناصر مكارم الشيرازي على إنَّ من الواجب علينا القيام بأمرين أساسيين في دور انتظار فرج الإمام القائم (عليه السلام)، الأوّل: مكافحة العوامل السلبية الموجودة في المجتمع الشيعي. والثاني: إعداد الناس لاستقبال أصول الحكومة المهدوية العالمية. فهو يرى إنَّ (انتظار الفرج) منهج ومخطّط يشمل كلُّ المجالات، وتحضير لدورة فرج الإمام القائم (عليه السلام) وحكومته العالمية(٢٩).
وأخيراً، لابدَّ من ذكر السيد محمد الصدر، من بين مفكري الشيعة المعاصرين، والذي استعرض قراءة جديدة لمفهوم (انتظار الفرج). ففي كتابه الموسوم (الرسالة الإسلامية في عصر الغيبة)، يتناول رواية (أفضل الأعمال) بالتحليل والدراسة، فيذكر آراءً متعدّدة في تفسيرها(٣٠).
فالسيد محمد الصدر، يعتقد بأنَّ مسألة (انتظار الفرج) يجب أن تتعدّى الحدود الشخصية، وترقى إلى المواقف الاجتماعية العامّة، فمِنْ جَعْل (انتظار الفرج) من أفضل الأعمال في الروايات، نستكشف أنَّها أساس من أسس الدّين الإسلامي(٣١).
وبهذا، وجدنا بأنَّ الزمن المعاصر قد شهد قراءات جديدة لمفهوم (انتظار الفرج).
فهذا السيد محمد الصدر ينفي كون الانتظار موقفاً فردياً شخصياً، ويرى بأنَّ هذا المفهوم، مفهوم إسلامي إيجابيٌّ عام(٣٢)، ويعتقد بأنَّ المواقف الفردية والجماعية للأفراد، لابدَّ أن تتفاعل مع المجتمع، فلا عزلة عن الاجتماع، ولا رهبنة في المواقف، بل لابدَّ من الإعداد والاستعداد لمواجهة الظلم والفساد، وإقرار الإصلاح في المجتمع(٣٣).
٢- دراسة وتحليل التحوّلات الحاصلة:
تعرضنا في القسم السابق، لدراسة القراءات والرؤى المطروحة والرئيسية في المجتمع الشيعي تجاه مسألة (فرج الإمام القائم) و(انتظار الفرج). ووجدنا أنَّ تحولات وتغيرات قد عرضت على هذه الرؤى والقراءات على مرِّ الأدوار الثلاثة.
وفي هذا القسم، نحاول دراسة وتحليل تلك التغيرات الحاصلة في تلك الأدوار الثلاثة.
واستناداً لما تقدّم في القسم السابق، حول الرؤى والقراءات المطروحة في المجتمع الشيعي في مسألة (انتظار الفرج)، وجدنا بأنَّ علماء الشيعة على طول القرنين الأوَّلين، وهو الدور الأوّل من أدوار الغيبة الكبرى، سَعَوا جاهدين لتثبيت المباني الفكرية لمذهب التشيع في مسألة غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، وبعبارة أُخرى، إنَّ ما شاهدناه في هذين القرنين، هو الرجوع إلى الفكر المتجذّر المطروح على لسان الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام)، في خصوص إمام العصر (عليه السلام).
كما لاحظنا إنَّ هذه المباني الفكرية، قد تبلورت أكثر فأكثر في القرن الخامس، إلى درجة الاستدلال المنطقي عليها من قبل العلماء، كالشيخ الطوسي (رحمه الله)(٣٤).
وأمّا في الدور الثاني من أدوار الغيبة الكبرى، أي في القرنين العاشر والحادي عشر الهجري القمري، فقد شاهدنا تحوّلات أُخرى في فهم وقراءة مسألة (انتظار الفرج)، قياساً بالقراءات الموجودة حول المسألة في القرنين الرابع والخامس للهجرة، حيث قرأنا كلاماً جديداً مختلفاً عن القراءات السابقة.
فقد ذكرنا آنفاً في القسم السابق، بأنَّ العلّامة المجلسي (رحمه الله)، طرح مسألة التورية المقصودة في الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، في خصوص فرج الإمام الغائب بعد فترة زمانية قصيرة، وأنَّ السبب في استعمال التورية في هذه الموارد هو أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) لم يشيروا إلى طول مدّة الغيبة حفاظاً على التزام الشيعة وتمسكهم بأصول المذهب والدين، واجتناب الشعور باليأس وفقدان الأمل(٣٥).
وكلام المجلسي هذا في توجيه الروايات الدالّة على قصر مدَّة الغيبة، قياساً إلى الرؤية المطروحة سابقاً، أي في القرنين الرابع والخامس الهجري، حول مسألة الانتظار، لهو كلام جديد لم يكن مطروحاً في القرون المتقدّمة. وما يمكننا فهمه من كلام المجلسي هذا، هو إنَّ طول زمان غيبة إمام العصر (عليه السلام)، لم تكن مبينة للمجتمع الشيعي من قبل الأئمَّة (عليهم السلام). ويبدو أنَّ هذه القضية، وهي أن فرج الإمام القائم (عليه السلام) إنّما سيكون بعد فترة طويلة، لم تكن معروفة في الفكر الشيعي عند أُولئك الذين كانوا قبل الغيبة الكبرى، ولعلَّ هذا الأمر يعود أساساً إلى وجود تلك الروايات التي كانت تطرح فكرة الفرج القريب.
ولكنّنا أيضاً شاهدنا تحوّلاً آخر في القراءات المطروحة من قبل المولى صالح المازندراني والمولى محسن الفيض الكاشاني، في خصوص مسألة انتظار الفرج في هذا الدور، فكما تقدم، واستناداً إلى رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الجواب عن سؤال أبي بصير، فإنَّ المولى صالح كان يرى بأنَّ (الفرج) هو انفراج الحياة الدنيوية للشيعة فحسب، وأمّا (انتظار الفرج)، ومن حيث إنَّه اعتُبِر من أفضل أعمال الشيعة، فهو أفضل بكثير من نفس الفرج(٣٦).
وأمّا المولى محسن الفيض، فإنَّه في شرحه للرواية الأخرى، يرى بأنَّ (انتظار الفرج) هو بنفسه فَرجٌ للمؤمنين. ثم يستنتج أخيراً بأنَّ انتظار وصول فرج الإمام (عجَّل الله فرجه) هو عملياً نوع من طلب الدنيا والميل إلى السعة والتوسعة في المعاش(٣٧).
والذي نستفيده من شرح المولى صالح المازندراني وشرح الفيض الكاشاني (رحمهما الله)، هو التأكيد على أهمية مسألة (الانتظار) من غير أن يضع المؤمن بحسبانه أنّه يدرك الفرج أو لا يدركه. وبعبارة أُخرى، إنَّ المهمّ هو (الاعتقاد) بضرورة تحقّق الفرج وإنّه هو الفرج في الواقع، لا إنَّ الفرج في إدراك زمان القائم (عليه السلام)، فهذا هو الذي عرَّفته الروايات بفرج الإمام (عليه السلام).
فقراءة هذين العلمين، واستناداً إلى رواية الإمام الصادق (عليه السلام)، فإنَّ مسألة الفرج والاعتقاد والإيمان بها وانتظار تحقّقها، هو المهم، لأنَّ ذلك يوجب دفع العقاب الأخروي، ورفع العقاب الأخروي هو الفرج الحقيقي للمؤمنين، وأمّا الفرج الدنيوي الذي يتحقق بظهور الإمام (عليه السلام)، فإنَّه يوجب السعة في الأمور الدنيوية لأصحاب الإمام القائم (عليه السلام)، وأمّا انتظار فرج الإمام (عليه السلام)، فإنَّه يوجب عمران آخرة المنتظرين.
وهنا، قد يتبادر إلى بعض الأذهان هذا السؤال، وهو: أنَّ النكتة التي اعتمدها المولى صالح المازندراني والمولى الفيض الكاشاني في رؤيتهم وقراءتهم، والتي جعلتهما يعتبران أنَّ (انتظار) فرج الإمام (عليه السلام) أفضل من (درك فترة الفرج) وحضور الإمام، وهذه ليست قراءة جديدة لمسألة الفرج، وذلك لأنَّ هذه النكتة معرَّفة في نفس روايتي الإمام الصادق (عليه السلام)، وهما مدوّنتان في الكتب الروائية والآثار الحديثية حتّى في القرنين الرابع والخامس، وما جاء به المولى صالح والمولى الفيض ليس إلّا تكراراً لفكر قديم، فلا تحوّل ولا تغيير في القراءات.
وفي الجواب عن هذا السؤال لابدَّ من القول بأنَّ ورود هاتين الروايتين عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وتسجيلهما في المجامع الروائية في القرنين الرابع والخامس، أمرٌ لا يمكن إنكارُه، ولكنَّ الفهم الجديد الموجود في شرح هذين العلمين لهذه الرواية هو الذي غيّر القراءة السابقة. فمع الأخذ بنظر الاعتبار الظروف التاريخية لزمن الإمام الصادق (عليه السلام)، أي تلك الفترة التي كان الشيعة فيها يعتقدون بأنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) هو (الإمام القائم)، وباعتبار سوء الأوضاع الاجتماعية والسياسية في تلك الآونة، كان الشيعة يتوقعون من الإمام الصادق (عليه السلام) أن يقوم بالسيف ويغير الأوضاع المأساوية التي يعيشها المجتمع(٣٨)، ففي مثل تلك الظروف، سيكون لكلام الإمام الصادق (عليه السلام) ذلك الوقع الذي يسوق الشيعة إلى حالة الانتظار البنّاء للوصول إلى فرج الإمام القائم (عليه السلام)، وإزالة كلِّ تلك السلبيات الاجتماعية والسياسية الحاكمة على المجتمع الشيعي.
وأمّا على أساس التقرير الذي قدّمناه في القسم السابق على التوجهات والقراءات المطروحة في مسألة (انتظار الفرج)، فإنَّه يمكننا استكشاف أنَّ الدورة المعاصرة قد اقترنت بتحوّلات وتطوّرات فيما يرتبط بمسألة انتظار الفرج، وأوّل تلك التحوّلات مهما يمكننا الوقوف عليه بوضوح هي قراءة المولى الهمداني، فكما رأينا بأنَّ هذا العَلَم يؤكد على مسألة الصبر والتحمّل لانتظار الإمام القائم (عليه السلام).
كما شهدنا أنَّ كتاب هذا العَلَم، كسائر الكتب المدوَّنة في الدورتين السابقين، أي القرنين الرابع والخامس، والقرنين العاشر والحادي عشر، يؤكد على قضية الصبر والتحمّل وانتظار فرج الإمام القائم (عليه السلام).
وعليه، فإنَّ هذا التأكيد، لم يكن لتسهيل أمر تحمّل تلك الظروف والأوضاع الاجتماعية والسياسية المزرية، التي كان الشيعة يمرُّون بها، بل إنَّ الغاية منه هو الحدِّ من الثورات والانتفاضات والجهاد ضدّ الأنظمة الحاكمة في زمانهم. إذن، فنحن أمام تحوّل في فهم مسألة انتظار فرج الإمام القائم (عليه السلام)(٣٩).
والتحوّل الآخر الذي لمسناه في الدور المعاصر، واستناداً إلى التقرير الذي قدّمناه، نجده واضحاً ومتبلوراً في قراءة وفكر السيد محمد تقي الأصفهاني، ففي كتابه المكيال، وضمن نفيه لقراءة أكثرية المجتمع الشيعي لمسألة الفرج، أي إنَّ فرج الإمام (عجَّل الله فرجه) عبارة عن الأرضية المناسبة للدعة والسعة ورفاهية العيش، فإنَّ السيد الأصفهاني كان يرى بأنَّ المقصود من انتظار فرج الإمام (عجَّل الله فرجه) ليس انتظار تحقّق الدعة والسعة والرفاهية في العيش، بل هو انتظار وصول زمان نصرة الإمام القائم (عليه السلام)، والجهاد في ركابه(٤٠).
ومن خلال التقرير المهم والمميز الذي سجّله السيد محمد تقي الأصفهاني في كتابه، يمكننا استكشاف بُعد آخر من فهم المجتمع الشيعي لمسألة (فرج الإمام القائم (عليه السلام)) في هذا الدور من أدوار الغيبة. ولتبيين هذا الموضوع نقول: يبدو أنَّ الماهية الحقيقية لمسألة (فرج الإمام القائم (عليه السلام))، كانت غريبة إلى حدٍّ كبير عن ذهن شريحة كبيرة من المجتمع الشيعي.
وتوضيح ذلك، إنَّه واستناداً إلى هذا التقرير، يبدو أنَّ تصور شريحة كبيرة، نوعاً ما، من المجتمع الشيعي عن مسألة فرج الإمام القائم (عليه السلام)، كان يتمثل في أن دور هذا القيام والظهور هي التوسعة في البعد المعيشي للحياة الاجتماعية والسياسية للشيعة. ومن ثمَّ، وُجد شعورٌ عندهم بأنَّ ظهور الإمام الغائب سيزيد في راحة ودعة المجتمع الشيعي.
والحال، إنَّنا إذا قارنّا هذا التصور مع تصور المجتمع الشيعي عن مسألة فرج الإمام القائم (عليه السلام) في القرنين الرابع والخامس، لوجدنا أنَّ الفهم الشيعي لهذه المسألة في ذينك القرنين هو أنَّ الثمرة الأصلية من ظهور الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، هو بسط العدل ومقارعة الظالمين والجائرين، وبعبارة أُخرى، إنَّ فرج الإمام (عليه السلام) سيؤدّي إلى التخفيف من الضغوط الاجتماعية السياسية الحاكمة في المجتمع تجاه الشيعة.
ولكنَّ هذا التحوّل، لم يكن التحوّل الوحيد الناظر إلى مسألة (انتظار الفرج) في هذا الدور. فقد أشرنا في القسم السابق من البحث، بأنَّ عدداً لا بأس به من العلماء المعاصرين الشيعة في هذا الدور، قد رفضوا هذه الرؤية والقراءة، أي إنَّ معنى انتظار الفرج هو الصبر والتحمُّل إلى حين مجيء إمام العصر (عليه السلام)، ووقفوا ضدّها وأعلنوا أنَّ على المجتمع الشيعي أن يكون فعّالاً ومتحرّكاً في قضية انتظار فرج الإمام القائم (عليه السلام)، وأن يعدّ الأرضية المناسبة للظهور عن طريق التمسّك بالأصول التي تبتني عليها حكومة المنتظر (عليه السلام).
ففي هذا الدور من أدوار الغيبة، سادت القراءة القائلة بأنَّ صرف الصبر والتحمّل والسكوت تجاه المظالم، يعدُّ بمثابة الفرار من المسؤولية والتخلّي عن الوظيفة الشرعية فيما يرتبط بمسألة انتظار فرج الإمام الغائب. فعلى كلِّ فرد من أفراد المجتمع أن ينتفض على الأوضاع السيئة الموجودة، وأن يجتهد لتغييرها إلى ما هو الأفضل، وبذلك يخلق الأرضية المناسبة لظهور الإمام الغائب (عليه السلام).
ومثل هذا الفهم لمسألة (فرج الإمام القائم (عجَّل الله فرجه)) والإقبال عليه، والتمسك به، لم يكن معروفاً عند المجتمع منذ بداية الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر (عليه السلام).
فإذا ما قارنّا هذه الرؤية برؤية الهمداني، المطروحة في بداية هذا الدور، وجدناها مقابلة لها تماماً.
٣- تبيين التحوّلات الطارئة:
استناداً إلى ما تقدَّم منّا في القسم السابق حول تقرير التحوّلات التي طرأت على رؤية مسألة (انتظار فرج الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه))، لاحظنا أنَّ تحوّلاً حصل في الدور الأوّل من الأدوار التي نحن في صدد دراستها، أي في القرنين الرابع والخامس للهجرة.
وعلى أساس هذه الدراسة، يمكننا معرفة التحوّلات التي حصلت في الدور الثاني، أي في القرنين العاشر والحادي عشر، ثم في الدور المعاصر.
فدراستنا كشفت عن أنَّ أوّل تحوّل مهم وصل في هذا الدور، هو قراءة العلّامة المجلسي (رحمه الله)، والذي ذهب إلى أنَّ الروايات الواردة عن الأئمَّة (عليهم السلام) والدالَّة على قصر مدّة غيبة الإمام القائم (عليه السلام)، إنَّما صدرت عنهم (عليهم السلام) من باب التورية، لكي يثبت الشيعة على إيمانهم فلا يتركوا التمسُّك بالمذهب.
وفي تبيين هذه المسألة، يمكن القول بأنَّ الفاصل الزماني من بداية الغيبة إلى زمن العلامة المجلسي (رحمه الله)، والذي يقدّر بحدود ستّة قرون، قد يعتبر علّة مهمّة لظهور هذا الفهم والاعتماد من قبل العلّامة للروايات الناظرة إلى زمان فرج الإمام الغائب (عليه السلام).
فهذه الفاصلة الزمانية، الطويلة نوعاً ما، والتي لا يمكن استنباطها من أيِّ واحدة من الروايات الموجودة في المصادر الروائية، والتي لم يكن المجتمع الشيعي يتوقعها أبداً، هي التي أدّت إلى حصول التحوّل في القراءة التفسيرية لمسألة انتظار الفرج. وهذا التحوّل في قراءة مسألة انتظار الفرج، حصل من خلال عنصر (طول زمان هذا الانتظار)، وعلى أساس هذه القراءة الجديدة، فإنَّ طول فترة انتظار الفرج غير معين، والروايات الناظرة إلى قصر فترة الغيبة والانتظار، لا يفهم منها فترة معينة للانتظار.
وعليه، فإنَّ عنصر (طول زمان الانتظار) في الطرح التفسيري والذي كان لحدِّ الآن يستفيد من الروايات الناظرة إلى زمانٍ قصير للغيبة، لا يجد نفسه الآن قادراً على مثل ذلك الاستلهام من تلك الروايات، وبذلك حُذف مفهوم (انتظار الفرج) من الطرح التفسيري. وفي المقابل، شاهدنا في هذا الدور التأكيد على طول عمر الإمام (عليه السلام)، ذلك الأمر الذي بيّنه العلّامة المجلسي (رحمه الله) مباشرة بعد تخريجه للروايات الناظرة إلى قصر زمان الانتظار(٤١).
وأمّا التحوّل الثاني الذي رصدناه في هذا الدور، فهو تقدُّم أهمية مسألة (انتظار الفرج) على مسألة (درك زمان الفرج)، فكما قلنا سابقاً، فإنَّ المولى صالح المازندراني والمولى الفيض الكاشاني، وضمن شرحهما للرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أكَّدا على هذه النكتة، وهي أنَّ حصول الفرج للشيعة لا يعني السعة في المعاش ورفاهية العيش المادّي فقط، فإنَّ التحلّي بانتظار الفرج، وباعتبار استناده إلى بعض الروايات القائلة بأفضليته على سائر الأعمال، يستتبع الراحة والسعادة الأخروية، والتي تعتبر فَرَجاً واقعياً.
والمستفاد من بعض المصادر المصنّفة في بداية دور الغيبة الكبرى(٤٢)، هو أنَّ القراءة السائدة في ذلك الدور عن مسألة (انتظار الفرج) كان لها دور سوق المجتمع الشيعي، الذي كان يرزح تحت نير الظلم والاضطهاد، نحو التحمّل والصبر على تلك الأوضاع، حتّى يظهر إمام العصر (عليه السلام) فينقذهم برفع الظلم والجور عنهم، وينشر العدل والقسط في العالم، وحينئذٍ ستتحقّق السعة والفرج والانفراج في الحياة الاجتماعية والسياسية.
ولكن، وبالتحوّل الذي لمسناه في فهم مسألة انتظار الفرج في القرنين العاشر والحادي عشر، فإنَّ الدرك الزماني لانتظار الإمام، كان مقدّماً على الدرك الزماني لفرج الإمام المهدي (عليه السلام).
وهذا الأمر، يدعونا تلقائياً إلى التأمّل في أنَّ مثل هذه القراءة، يمكن أن تحكم في دور لا يكون فيه المجتمع الشيعي تحت ضغوط كبيرة وظروف صعبة وقاسية جداً تفرض غير هذه القراءة عليهم. وهذا الحدس العلمي يتناسب إلى درجة كبيرة مع الأرضية التاريخية لصدور مثل هذه القراءة، إذ إنَّ مثل هذه القراءة الجديدة كانت قد عُرفت في زمن الدولة الصفوية، حيث أُعلِن المذهب الشيعي الاثنا عشري مذهباً رسمياً للدولة، وشعر المجتمع الشيعي بانفراج وأمان أكبر في الحياة الاجتماعية والسياسية قياساً بالأدوار السابقة لهذا الدور.
ومن جهة أُخرى، وباتّساع قدرة وسلطة سلسلة الصفوية، والازدهار الاقتصادي الملحوظ في تلك البرهة من التأريخ، ومضافاً إلى انكشاف الأرضية الأمنية للشيعة، فإنَّ الوضع المعاشي والحياتي للشيعة قد انتعش بشكل ملحوظ.
وقد شاهدنا في هذا الدور أنَّ إيران قد تحوّلت إلى مركز مهم لاستقطاب الشيعة من كافّة الأقطار والأرجاء(٤٣).
ولكن، يمكننا هنا أن نتعرف على عاملٍ آخر أدّى إلى التحوّل في الطرح التفسيري لمسألة (انتظار الفرج) في هذا الدور، حيث يبدو لنا بأنَّ استطالة فترة الانتظار للفرج، قياساً لما كان يتصوره المجتمع الشيعي، استناداً إلى المصادر الروائية، كان له الأثر الموجب لذلك التحوّل. ففي الحقيقة، إنَّ طول دورة الانتظار، وعدم تحدّد زمن الفرج بنحو مشخّص، كان سبباً للتأكيد على أهمية نفس (انتظار الفرج) قياساً بدرك زمان الفرج.
وهذا التبيين، يمكن أن يحظى بالقبول فيما إذا عرفنا بأنَّ فترة حكومة الدولة الصفوية لم تكن فترة صعبة وقاسية بالنسبة للشيعة، وعلى الأقل قياساً بالفترة السابقة للصفوية. وهذا الموضوع يمكنه أن يغير من الطرح التفسيري لمفهوم (انتظار الفرج)، ويبدِّل القراءة السابقة إلى القراءة الجديدة.
ولكن، وكما تقدَّم، فإنَّه في الدور الثالث من الأدوار التي نحن بصدد دراستها، أي في الزمن المعاصر، شاهدنا ثلاثة تحوّلات رئيسية من قراءة مسألة الانتظار.
التحوّل الأوّل: التأكيد على الصبر وانتظار فرج الإمام، والحذر من الخروج والجهاد ضد الظالمين، كوظيفة أساسية من وظائف الشيعة.
والتحوّل الثاني: ظهور فكرة عند المجتمع الشيعي، مفادها أنَّ ظهور إمام العصر (عليه السلام)، يعني بداية دورٍ ملؤه الراحة والدعة والسعة والرفاهية في المجتمع الشيعي.
والتحول الثالث: قراءة جديدة عن مسألة (انتظار الفرج)، على أساسها لا يعتبر (انتظار الفرج) صرف الصبر والتحمّل حتّى ظهور الإمام القائم (عليه السلام)، بل إنَّ على الشيعة التمهيد والإعداد والاستعداد لنصرة الإمام القائم (عليه السلام)، وذلك عن طريق التربية والاستقراء والتهيؤ للظهور.
وحيث إنَّ التحوّل الأوّل مضادٌّ للتحوّل الثالث وهما قراءتان متقابلتان، كان علينا تبيين هاتين القراءتين في دراسة واحدة، ثم تبيين التحوّل الثاني في دراسة مستقلَّة.
وسنبدأ بدراسة وبحث التحوّل الثاني:
فيما يرتبط بكيفية ظهور القراءة السابقة لمسألة (انتظار الفرج)، التي ترى بأنَّ الانتظار ليس لنيل ودرك حياة هادئة مستقرّة وللالتذاذ بملذات الحياة، وإنَّما هو دورٌ على الشيعة أن يتّجهوا فيه إلى نصرة إمامهم، لابدَّ من القول بأنَّه يبدو للنظر، أنَّ مسألة (انتظار الفرج) قد فقدت في بعض برهات هذا الدور المعاصر فاعليتها السابقة ووجهتها، على الأقل تلك الوجهة السائدة في القرنين الرابع والخامس، إلى حدٍّ ما.
واستناداً لما تقدّم منّا، فإنَّ النظرة السائدة سابقاً هي أن (انتظار الفرج) يعني انتظار دور يكون ظهور الإمام (عليه السلام) فيه بداية زوال الظلم والجور، واستقرار العدل والقسط، تحقّق سعة وانفراج في الحياة الاجتماعية السياسية للمجتمع الشيعي، ومع فقدان عنصر الظلم في الدور المعاصر لم يعد لتلك القراءة فاعلية متصوّرة، فإنَّه سيكون من قبيل تحصيل الحاصل. ومن ثمَّ فسِّر ذلك (الفرج) في الطرح التفسيري لانتظار الفرج، بالسعة والدعة ورفاهية العيش والالتذاذ بملذات الحياة، بعد أن كان مفسّراً ببسط العدل والقسط وإزالة الظلم.
ويبدوا أنَّ جذور مثل هذه القراءة الجديدة للفرج في مسألة انتظار الفرج، تعود إلى دور الدولة الصفوية، فتأكيد المولى صالح المازندراني والمولى محسن الفيض الكاشاني على أنَّ (فرج الإمام (عليه السلام))، مساوٍ للفرج الدنيوي للشيعة بتحسّن أوضاعهم المعاشية، هذا التأكيد يمكن أن نجد له امتداداً في القراءة المطروحة في العصر الحاضر، أي إنَّ هذه الرؤية كانت قد ظهرت بوادرها في عصر الدولة الصفوية واستمرّت فاعليتها إلى الدور المعاصر.
وأمّا التحوّلان الأوّل والثالث، واللذان شاهدناهما في القراءة المطروحة في الفترة المعاصرة عن مسألة (انتظار الفرج)، فهما من مختصّات هذا الدور، وليس فهماً ذا جذورٍ تاريخية في الأدوار السابقة من زمن الغيبة.
فالمنع والتحذير من مواجهة السلطات الظالمة والجائرة، والتأكيد على الصبر حتى وصول يوم الفرج وظهور الإمام القائم (عليه السلام)، وما يقابله من رؤية تذهب إلى نفي الصبر المحض، والتأكيد على الإقدام العملي، تحوّلان أصليان في قراءة (انتظار الفرج) في هذا الدور المعاصر.
وما يمكن قوله في تبيين كيفية ظهور وتشكُّل هاتين الرؤيتين في هذا الدور، هو إنَّ التحول والتغير في الفكر السياسي للمجتمع الشيعي في هذا الدور، هو المحرّك والحافز لمثل هذا التحوّل في القراءات.
فالمؤرّخون للفكر السياسي الشيعي، يرون بأنَّ بداية التحوّل في الفكر السياسي للمذهب الشيعي في الدور المعاصر، يعود إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري.
فهم يعتقدون بأنَّ بداية هذه التحوّلات تعود إلى بداية نفوذ وسيطرة القوى الاستعمارية في البلاد الإسلامية، مما أدّى إلى إقبال علماء الإسلام، وخاصّة علماء الشيعة، على عرصة السياسة.
ففي المجال الثقافي في إيران، يمكن تتبّع التحوّل من بداية زمان نهضة المشروطة وإلى بداية ظهور مقدّمات الثورة الإسلامية سنة (١٩٧٧م).
ففي هذا الدور الطويل نوعاً ما، سعى بعض علماء الشيعة جاهدين، لتطبيق المفاهيم والمبادئ الجديدة، التي كانوا يواجهونها في عرصة السياسة والحكومة، على ثوابت الشريعة الإسلامية(٤٤)، وبذلك ظهرت تحوّلات أساسية في الفكر السياسيّ الشيعيّ المعاصر.
ومن بين التحوّلات الرئيسية والأساسية في الفكر السياسي الشيعي في الدور المعاصر، والذي نتج عن منهج تطبيق مفاهيم الشريعة على المفاهيم والمبادئ السياسية من قبل علماء الشيعة، تعدُّ مراجعة مفهوم (التقية)، و(الاستشهاد)، من جملة المفاهيم التي أُعيدت قراءتها بما يتناسب مع الظرف القائم.
ففي هذه المراجعة الفكرية لهذه المفاهيم، اتّضحت الفواصل الماهوية بين الحالة الواقعة والحالة المطلوبة، فلم يعد الاستمرار على القراءة السابقة لهذه المفاهيم مجدياً، ولم تعد التضحية والفداء في سبيل الدين وأُصوله، من مختصّات النخبة المعصومة(٤٥).
وبذلك، بدأ السعي الحثيث لاستبدال (الحالة الواقعة) بـ(الحالة المطلوبة) -فكان لها أثر في إعادة تعريف التقية- فصارت المقولة: (الممكن) و(المطلوب).
وكذا الحال في مفهوم (الاستشهاد) و(التضحية) و(الفداء) في سبيل الدين، فلم تعد فكرة اختصاص المعصومين والنخبة بهذه المفاهيم والمبادئ فكرة سائدة، بل عُدَّت كلُّ هذه المفاهيم وتحقيقها من جملة وظائف ومبادئ جميع أفراد المجتمع الشيعي.
فإذا ما أردنا دراسة التحوّل في قراءة مفهوم (انتظار الفرج) من زاوية مثل هذا التحوّل في الفكر السياسي الشيعي، لابدَّ أن نقول: إنَّ الطرح التفسيري لهذا المفهوم، كان يرى بأنَّ (الانتظار) يعني (الصبر) و(التحمل) و(البقاء على الوضع الموجود)، والآن، وفي القراءة الجديدة، فإنَّ الصبر على الوضع الموجود بات مذموماً، وغير مقبول، وأمّا السعي والجدِّ للوصول إلى الوضع المطلوب، فهي أمور ممدوحة ومطلوبة. وبهذا توفرت الأرضية لفهم (انتظار الفرج) ونصرة الإمام (عجَّل الله فرجه).
ويبدو أنَّ قراءة الهمداني، أي تلك القراءة المعاصرة التي تؤكد على الصبر والتحمّل والسكوت على الحكومات الجائرة، قد تصورت بهذه الصورة في ضمن هذا الإطار، فهو في الواقع عاملٌ تغييري منهجيّ.

الهوامش:

(١) المقصود من الطرح التفسيري، الطرح الذي يفرض نفسه على القارئ لتلك الظاهرة (وهو في هذا المقال مفهوم انتظار الفرج) حين قراءتها، فيعرض تلك القراءة على ثوابته وقواعده التي كان يعمل على أساسها فيغير تلك الثوابت بحسب ما يقتضيه ذلك الطرح التفسيري.
وتغيير هذه الثوابت والقواعد، يؤدّي إلى تغيير تفسير المفهوم أو الكلام، فتظهر قراءة جديدة غير القراءة السائدة. (لمفهوم الطرح التفسيري راجع: فوكو، ١٣٧٨هـ.ش.، ص٢٤-٢٧)؛ ضميران ١٣٧٨هـ.ش، ص١٧-٢٦؛ وميلز، ١٣٨٢هـ.ش، ص٢٨-٣٠).
لمزيد من الاطّلاع على كيفية تأثير الطرح التفسيري على مفهوم الكلام، انظر: الطباطبائي والدهقاني الفارساني، ١٣٨٩، ص٧-٢٤).
(٢) دورة حكومة آل بويه، سنة ٣٢٠-٤٤٧ هـ.
(٣) دورة حكومة الصفويين، سنة ٩٠٧-١١٣٥هـ.
(٤) الغيبة الشيخ النعماني مقدمة المؤلف: ص٢٨-٣٤.
(٥) ابن بابويه، ١٣٦٣ هـ.ش، ج١، ص٢٥٦-٣٨٤.
(٦) راجع المفيد،١٤١٤ق، آثاره.
(٧) المفيد، ١٤١٤ق، ج١، ص١٣؛ ومتن السؤال وجواب الشيخ المفيد هو: (فإن قال: فما ينفعنا من معرفته مع عدم الانتفاع به من الوجه الذي ذكرنا؟ قيل له: نفس معرفتنا بوجوده وإمامته وعصمته وكماله نفع لنا في اكتساب الثواب، وانتظارنا لظهوره عبادة نستدفع بها عظيم العقاب).
(٨) المفيد ١٤١٤ق، ج١، ص١٣.
(٩) انظر مثلاً: الطوسي، ١٤١١ق، ص٢٣-١١٣؛ وفيه ينقد الشيخُ مسلكَ الواقفة.
(١٠) الطوسي ١٤١١ق، ص٤١٩ فما بعدها.
(١١) الطوسي ١٤١١ق، ص٣٤٥.
(١٢) الطوسي، ١٤١١ق، ص٢٥٣ فما بعدها.
(١٣) الطوسي ١٤١١ق، ص٤٣٣-٤٦٧.
(١٤) المجلسي ١٤٠٣ق، ج٤، ص١٣١-١٣٢.
(١٥) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج٥١، ص٢٢٥-٢٩٣.
(١٦) والرواية هي: عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، متى الفرج؟ فقال: «يا أبا بصير، وأنت ممّن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرّج عنه لانتظاره». (المازندراني، ١٤٢١ق، ج٦، ص٣٤٢).
(١٧) المازندراني،١٤٢١ق، ح٦، ص٣٤١.
(١٨) وهذا الكلام مستندٌ أساساً على هذه الرواية: «أفضل الأعمال انتظار الفرج»، راجع: الخزاز الرازي، ١٤٠١ق، ص٢٢٧؛ ابن بابويه، ١٤٠٤ق، ج٢، ص٣٦.
(١٩) الفيض الكاشاني، ١٤٠٦ق، ج٢، ص٤٣٧.
(٢٠) الهمداني، ١٣٥٤هـ.ش، ٢٧١.
(٢١) وقد رأينا قبل قليل إنَّ المولى صالح المازندراني يتعرض لهذه الرواية أيضاً.
(٢٢) ج٥٢، ص٤٢.
(٢٣) ١٣٨٢ق، ج٢، ص٤٢٣.
(٢٤) الأصفهاني، مكيال المكارم، ج٢، ص١٤٤.
(٢٥) الطالقاني، ١٣٦٠ش، ص٩٠.
(٢٦) الطالقاني ١٣٦٠، ص١٠-١٢.
(٢٧) لك زائي، ١٣٨٤ش، ٢٠٤-٢٠٦.
(٢٨) مكارم الشيرازي ١٣٥٨ش، ص١٠٢-١٠٣.
(٢٩) مكارم الشيرازي ١٣٥٥، ص١٠-١٢.
(٣٠) الصدر ١٣٦٢ش، ص١٩٥.
(٣١) الصدر ١٣٦٢ش، ص١٩٠-١٩٤.
(٣٢) الصدر ١٣٦٢ش، ص٣٠.
(٣٣) الصدر ١٣٦٢ش، ص٩٤.
(٣٤) راجع: غيبة الطوسي، ١٤١١ق، ص٢٣-١١٣.
(٣٥) العلّامة المجلسي، ج٤، ص١٣١-١٣٢.
(٣٦) المازندراني، ١٤٣١ق، ج٦، ص٣٤١.
(٣٧) الفيض الكاشاني، ١٤٠٦ق، ج٢، ص٤٣٧.
(٣٨) انظر: الطوسي، ١٤١١ق، ص٢٧٦، الطوسي ١٤١٧ق، ص٤٠٤-٤٠٦.
(٣٩) الهمداني، ١٣٥٤ش، ص٢٧١.
(٤٠) الأصفهاني ١٤٢١ق، ج٢، ص١٤٤.
(٤١) المجلسي، ١٤٠٣ق، بحار الأنوار، ج٥١، ص٢٢٥-٢٩٣.
(٤٢) انظر تحليل آراء النعماني والصدوق في هذا المقال.
(٤٣) للاطّلاع على أحوال المذهب في دور ازدهار العصر الصفوي، راجع: أمورتّي،١٣٨٠، ص٣٢٦-٣٣٤؛ وللاطّلاع على اعتبار التشيع مذهباً رسمياً في إيران في العصر الصفوي، راجع: رسول جعفريان، ١٣٧٩، ص١٧-٨٦؛ وللاطّلاع على الانفراج في الحياة الاجتماعية للشيعة، راجع: المظفر، ص٣٠٥-٣٠٩.
(٤٤) كديور ١٣٧٨ش، ص٥٥-٢٥٣.
(٤٥) عنايت ١٣٨٠ش، ص٢٧٧-٢٧٩.

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016