فهرس المكتبة التخصصية
 كتاب مختار:
 البحث في المكتبة:
 الصفحة الرئيسية » المكتبة التخصصية المهدوية » كتب أخرى » دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
 كتب أخرى

الكتب دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)

القسم القسم: كتب أخرى الشخص المؤلف: السيد مرتضى المجتهدي السيستاني تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠١٦/٠٨/٠٢ المشاهدات المشاهدات: ٣٩٦٦٦ التعليقات التعليقات: ٠

دولة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)
بحث متنوعّة وشيقة حول تفتح العقل والفكر، وتطوّر العلم والمعرفة، وازدهار التنمية الاقتصاديّة في الحكومة المستقبلة العالميّة، وذلك من خلال مناقشة الكثير من النقاط المهمّة والحياتيّة

المؤلّف: السيّد مرتضى المجتهدي السيستاني
نقله إلى العربيّة: ضياء الزهاوي
الناشر: منشورات الماس - المطبعة: الهادي
الطبعة الأولى: شعبان المعظم ١٤٣٢

فهرس المحتويات

المقدّمة
تأثير الفكر في تكامل الإنسان
الأفكار القيّمة والآمال الكبيرة محفوفة في الانتظار
في فكرة الظّهور
نظام العالم في ظلّ عصر الظّهور
التعرّف على منزلة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله فرجه)
التعرّف على عصر الظّهور المشرق
معرفة عصر الظّهور، هي معرفة نسبيّة
الهدف من وراء تأليف هذا الكتاب
توصية ضروريّة
١ - العدالة
العدالة هي هدف الأنبياء العظام
نشر العدالة في المجتمع أو إنشاء المجتمع العادل؟!
العدالة في عصر الظّهور
انتشار العدالة
العدالة في الحكومة العالميّة الواحدة
أمثلة ونماذج من العدالة
شموليّة العدالة بكلّ جوانبها
إجراء العدالة وضرورة إيجاد التغيّرات في الحيوانات
ترويض الحيوانات
التصرّف في الأدمغة والأجهزة العصبيّة للحيوانات
قوى أقوى من القدرة الكهربائيّة
سؤال مثير وجواب مهمّ
النّور الساطع للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه
الدقّة في حياة الحيوانات
٢ - القضاء
بحث حول القضاء
عظمة القضاء في بداية الظّهور
القضاء على أساس الظنّ والتخمين
الفراسة والكياسة في القضاء
تعلم القضاة القضاء من أمير المؤمنين (عليه السلام)
النّبيّ داود والنبيّ سليمان (عليهما السلام)
بحث روائي
قضاء أهل البيت (عليهم السلام) والنبيّ داود وكيفيّتهما
قضاء الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)
قضاء أصحاب الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا فداه في عصر الظّهور
نقاط خاتمة البحث
٣ - التطوّر الاقتصادي
التطوّر الاقتصادي
قدرة السيطرة
أكثر من «٨٠٠» مليون شخص جائع في العالم
العالم مليء بالنّعم والثّروات
البركات في عصر الظّهور
البشارة الّتي أطلقها الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول مستقبل العالم المشرق
عالم ملؤه الفرح والسرور
الاستحياء
٤ - إزالة الأمراض
إزالة الأمراض ومحوها عن الوجود
عودة القدرة والقوّة
عجز العلم الحديث عن استئصال جذور الأمراض
٥ - تكامل العقول
تكامل العقول
ضرورة إيجاد التغيّر والتحوّل في وجود الإنسان
الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا فداه وتكامل العقول
عالم ملؤه الصّداقة والاتّحاد
الغلبة على طباع السوء في عصر الظّهور نتيجة تكامل العقل
الارتباط مع عالم الغيب
المظهر الكامل للغيب
حوادث مهمّة عن المرحوم السيد بحر العلوم
العلامة
شخص عادّي ولكن بدماغ عظيم!
من أين له هذه القدرات؟
موجة مجهولة في دماغه، أحدثت هذا التّغيير
الكلام بلسان آخر
قوى مجهولة أدخلت المعلومات في دماغه
الكلام بالإلهام
برنامج الرّادار
حرّية العقل
العودة إلى الفطرة السّليمة
هل تصل الإنسانيّة إلى التّكامل العقلي قبل عمليّة الظّهور؟
قدرة وعظمة العقل
تعدّد الذّاكرة غير الطّبيعيّة دليل على القدرة العظيمة للدّماغ
علاقة الدّماغ بالقدرات فوق الطّبيعيّة
تكامل العقل من وجهة نظر العلم الحديث
التّكامل العقلي والإرادة
٦ - التّكامل المعنوي
التّكامل المعنوي
البُعد المادّي والمعنوي للإنسان
وظائف النّاس
دعوة عامّة صوب التّكامل
الأمر العظيم
ما هو الأمر العظيم؟
المعارف الإلهيّة
أمّة ذلك العصر على لسان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله
الحكومة في العالم الظاهري والباطني
عالم الملك وعالم الملكوت
الدخول إلى عالم الملكوت من صفات عصر الظّهور
النقطة المهمّة: الاحساس بالحضور المبارك!
الحديث مع كلّ غيور
عصر الظّهور، عصر الاطمئنان والأمان
عصر الظّهور، عصر الحضور
٧ - التّكامل العلمي والثقافي
عصر الظّهور والتّكامل العلمي والثقافي
تطوّر العلم والمعرفة في المستقبل من وجهة نظر أهل الوحي والرسالة (عليهم السلام)
النّقاط المهمّة في الرّواية
تحليل الرّواية
النقطة المشتركة بين عصر الأنبياء (عليهم السلام) وعصرنا الحاضر
الطرق الاُخرى لاكتساب العلم والمعرفة
١ - الحاسّة الشّامّة
٢ - الحاسّة اللاّمسة
٣ - الحاسّة الذّائقة
٤ - تعلّم العلوم عن طريق ما وراء الحسّ
التّحوّلات والتّغيّرات المذهلة في عصر الظّهور
علم أهل بيت الوحي والرسالة (عليهم السلام)
إرشادات وهداية الإمام أرواحنا فداه لأجل طلب العلوم
تأثير حضور الإمام (عجّل الله فرجه) في عمليّة الحصول على العلم
اختراعات عصر الظّهور
درس في هذا الخصوص من الدّعاء الوارد بعد زيارة «آل يس»
الحكومة العالميّة للجميع
الظّهور أو نقطة البداية
الدّين يعني الحياة والحضارة المتطوّرة والصحيحة
الوصول إلى التّكنولوجيا الصّحيحة والمتطورّة يكون فقط في ظلّ الدّين
النقص الموجود في الاختراعات الحالية
تحليل قضيّة القدرات في عصر الظّهور
الدقّة في الرّواية
نظرة خاطفة إلى الصّناعات الحديثة
ما هو مصير الاختراعات الحاليّة في عصر الظّهور؟
انعدام الاختراعات المضّرة
عدم قدرة العلم على قيادة العالم
مستقبل العالم والحرب العالميّة
الاختراعات المدمّرة غير النوويّة
المجموعة الأولى
المجموعة الثانية من الاختراعات
عدم الحاجة إلى الأسلحة العسكريّة
المجموعة الثالثة من الاختراعات
الإعلام الواسع والأجوف للغرب
من هم الشخصيات الّتي يمكن لنا إتباعهم؟
الأخطاء الّتي وقع بها «أرسطو»، «كبرنيك» و«بطلميوس»
الخطأ الّذي ارتكبه «بوزنيدونيوس»
خطأ «أرخميدس»
خطأ «إدينكتون»
خطأ «آينشتاين»
الخطأ الآخر لآينشتاين
العلم والمعرفة، غطاء يتستّر به المنتفعين
محدوديّة العلم
العلم، بعيداً عن فهم العالم
٨ - الرّحلات الفضائيّة
الرّحلات الفضائيّة
الكرة الأرضيّة تحت نظارة قدرة عظيمة
المجرّات
مائة بليون نجم مذنب
٢٥٠ بليون شمس
تريليونات من المجرّات
الحضارة الموجودة في العالم العظيم
الحضارات الموجودة في المجرّات
الرّحلات الفضائيّة في عصرنا!
الأخطار الّتي تواجه الرّحلات الفضائيّة في زماننا
إمكانيّة القيام بالرّحلات الفضائيّة
الرّحلات الفضائيّة لأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)
النفوذ إلى السّماوات
الرّحلات الفضائيّة في عصر الظّهور
النّقاط المهمّة والجميلة في الرّواية
التعرّف على الموجودات الفضائيّة
الاستفادة من القدرات الّتي هي ما وراء المادّة
مصادر الكتاب

المقدّمة

تأثير الفكر في تكامل الإنسان
لا شكّ ولا ريب في أنّ الأفكار والعقائد القيّمة والعظيمة، تلعب دوراً رياديّاً وأساسيّاً في تكامل الإنسان؛ لذا فإنّنا نراه يستطيع من خلال الاستفادة من مظلّة تلك الأفكار القيّمة تذليل الكثير من الأمور والعقبات وتجاوزها، والسير بخطّى رصينة وبناءة باتّجاه الأهداف المتعالية تلك، وبالتالي الحصول عليها ونيلها، والعكس هو الصحيح؛ فإنّ الأفكار المنحطة والهابطة لها إفرازات وتداعيات تؤثر سلبيّاً بشكل مباشر أو غير مباشر في ضياع حياة الإنسان وهدر طاقاته، وحصيلتها النهائيّة هو وقوع الكثير من الأشخاص في مطبات الانحراف والضياع مضافاً إلى جرّ الاخرين باتّجاهها.
وهذا هو القانون والمعادلة الّتي تحكم عالمنا الخارجي والداخلي؛ فإنّ حكمنا ضميرنا وأعناه وجعلناه يتناغم ويتجانس مع الأفكار الحسنة والصالحة، فإنّنا نكون قد اتّخذنا منحنياً تكامليّاً من خلال التسلّق فوق درجات الرقي والتّكامل، وأمّا إذا امتلئ وجودنا بالأفكار المنحرفة والموبقة، والّتي تحمل في طياتها الكثير من المعاصي والآثام والعقيدة الفاسدة، فإنّنا هيّئنا بذلك الأرضيّة والظروف الملائمة للسقوط والانزلاق نحو الهاوية والخروج عن جادّة الحقّ والصراط.
إذن؛ نحن أمام مفترق طريقين: إمّا أن نملأ الضمير والعقل بالجوانب المضيئة للأفكار ذات المضامين الرفيعة، أو نتركه يغوص في متاهات الأفكار الفاسدة والمنحرفة.
وهذا الأمر يشبه تماماً الأرض اليابسة والصلبة؛ فإنّك قادر على تبديلها إلى أرض خضراء وروضة عامرة، وذلك بواسطة سقيها والعمل الدؤوب والمتواصل، أو تتركها تبقى أرض جرداء وبوارة لا تحصد منها سوى نكداً.
وكذلك هي حال الضمير الإنساني؛ فإنّه إذا ملئ بالأفكار الإيجابيّة البنّاءة فسيعمّ الخير والسلام، وبعكسه نكون قد تركناه يغوص في بحر الظلمات والظلال.
وعلى هذا الأساس، ينبغي علينا التحكّم بأفكارنا الإيجابيّة والسيطرة عليها، ودفعها نحو تحقيق الآمال الكبيرة ذات القيّمة العالية.
الأفكار القيّمة والآمال الكبيرة محفوفة في «الانتظار»
نعم؛ لا شكّ ولا ريب في أنّ جميع العلماء والباحثين يرون إنّ أفكار الإنسان وعقائده تؤثر بشكل اساسي وفعّال على مناحي وجوانب ومراحل حياته، ومن هذا المنطلق فإنّ الفكرة والعقيدة الإيجابيّة والمنفتحة توجد وتصنع شخصيّة مبدعة وخلاّقة، يعود نفعها أوّلاً وأخيراً على الإنسان نفسه وكذا العكس.
بالإضافة إلى ما ذكرناه، فإنّ نفس الفكرة المحدّدة والضيّقة من شأنها تحديد الإنسان وتأطيره في حدود الزّمان والمكان، وتجعله يحوم في دائرتهما، وهذا بخلاف الفكرة الصّحيحة والعقيدة السّليمة والرّصينة والحقّة، فإنّها قادرة على التحليق فوق الحدود الزمانيّة والمكانيّة. ولهذا السبب فإنّنا نرى أنّ شعوب وبلدان كثيرة تتأثّر بتلك الأفكار والعقائد وتفتح ذراعيها لاستقبالها والإيمان بها.
وهنا يأتي سؤال: ما هي تلك الأفكار والعقائد والنظريّات الكاملة الّتي تمكن العالم والإنسانيّة من الوصول إلى الكمال المنشود؟ وهل هناك أطروحة أو منهج أفضل من النظريّة القائمة حول عصر الظّهور؟
ممّا لا شكّ فيه في أنّ هنالك الملايين من البشر يعيشون في هذا الكون الرّحب، يحمل كلّ واحد منهم أفكاراً وأهدافاً وآراءً يتعايش معها ويغذّيها، ويسعى دوماً إلى العمل لتطويرها وتقدّمها نحو الأحسن، وعلى الرغم من سموّ هدفه وما يحمله بين جنبيه من طموحات متعالية، إلاّ أنّه يظلّ حائماً في هذه الأجواء، باعتباره كائناً حيّاً صغيراً إذا ما قرناه بسائر المخلوقات الاُخرى في هذا الكون.
فهل يتمكّن الشخص الّذي يفكر في حدود نفسه وأهله، ولا يخرج عن أفكاره الضيّقة ويعمل على ضوئها، قادراً على توسعة أفكاره ونشرها، وكذلك التطلّع إلى تطوّر وتقدّم عالم الوجود؟!
ولماذا يبتعد الإنسان عن الإرشادات والتعاليم الواردة عن أهل بيت الوحي والعصمة (عليهم السلام)، والّتي تدعو إلى التفكير حول نجاة هذا العالم وتكامل الإنسانيّة والبقاء بعيداً عن ذلك، والهرولة وراء تحقيق مصالحه وأغراضه؟!
وهل أنّ التفكير في إنقاذ شخص ما أو شعب يعيش في بقعة جغرافيّة صغيرة أفضل أم نجاة البشريّة بأسرها؟!
يقول الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): أَبْلغُ ما تستدرُّ به الرَّحمة أن تُضمَر لجميع الناس الرَّحمة(١).
والأجدر بنا ألاّ نطلب النجاة من الشرّ والسّوء لأنفسنا فقط، أو لمجموعة صغيرة من البشر، أو لشعب واحد دون باقي الشعوب؛ بل الأحرى بنا نضع نصب أعيننا المصلحة التي تعمّ الجميع، ولا تقتصر على فئة أو شعب معيّن، ولا شكّ في أنّ السبيل الوحيد لنجاة هذا العالم هو ظهور المصلح العالمي، وهو الإمام المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء، وتحقّق ذلك في ظلال دولته الكريمة والمباركة.
في فكرة الظّهور
إنّ نفس فكرة وعقيدة وصول اليوم العظيم والمبارك لحكومة أهل بيت الوحي والرسالة (عليهم السلام) - الّتي تضيء العالم والنّفوس البشريّة بالإشعاع والنّور السّاطع للولاية الإلهيّة، وتهدي الجميع من خلال النموّ والطفرة الشموليّة العامّة إلى الأفضل والأحسن - تمنح حياة جديدة معطاء.
ذلك اليوم الّذي سيخلو من كلّ مظاهر الفقر والعوز، والظلم والتزوير للحقائق، وسيشهد اهتزاز راية العدل والعدالة والإنسانيّة في جميع ربوع العالم.
ذلك اليوم الّذي يعمّ الفرح والسرور فيه جميع الناس، ولن ترى شخصاً مخالفاً لحكومته (عجّل الله تعالى فرجه)، ويبدي المجتمع الإنساني في ذلك العصر - بكلّ أطيافه وشعوبه - تفاعلاً، مبتهجاً بكلّ مظاهر تلك الحكومة الإلهيّة العادلة لذلك الإمام الهمام، ويستمرّ في كمال الرّضى بالحياة الجديدة والمتطوّرة الّتي تعمّ جميع أنحاء العالم في ذلك الزمن.
إنّ حجم السرور والبهجة في ظلّ الحكومة العالميّة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، تصل إلى درجة تجعل الإنسان يعيش حالة من النشاط والحيويّة، ونسيان ذكرياته المؤلمة ومرارة الحياة - ولو لمدّة قصيرة - بمجرّد الحديث عن ذلك العصر البهيج.
إنّ رسم الخطوط العريضة والتعرّف على خصائص عصر الظّهور العظيم، سيجذب القلوب الطاهرة والأفكار الإنسانيّة الأصيلة؛ بحيث تبقى تترقّب وتعدّ اللحظات من أجل وصوله، وتطلب من الله عزّ وجلّ بقلب ملؤه المحبّة والصّفاء الإسراع في تحقّق ذلك العصر المتألّق.
لعلمها أنّه ومن خلال تشكيل الحكومة الإلهيّة للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) ووصول القدرة والقوى للحكومة الفاطميّة، سيزول الغمّ والحزن عن كلّ بيت، ولن تدمع عين طفل محروم، وتكفكف دموع الأيتام، وعدم إراقة قطرة دم واحدة من دماء الأبرياء على الأرض، ولا يشاهد الأطفال الأبرياء أجساد آبائهم أمام أعينهم البريئة و....
ولكنّ المجتمعات الإنسانيّة في هذا الزّمان ونتيجة للتّطوّر الحاصل في العلم والحضارة في بُعد واحد، وانزواء القضايا الواقعيّة والمعنويّة جلبت بيدها التّعاسة والشّقاوة، وبالتّالي كانت النتيجة تسلّط المستكبرون والمستعمرون على رقابهم وسوقهم نحو النّيران المحرقة، وسيفتح هذا الخطر الّذي يشكله طغاة العالم، أفاقاً مظلمة أمام البشريّة جمعاء لا تعدّ ولا تحصى.
ففي هذه المرحلة، هل يتسنّى لأحد من النّاس العيش في رغد وراحة بال؟ وهل أحداً منهم سينال نصيباً من السّعادة والاطمئنان؟ وأيّ منهم يكون بعيداً عن قافلة الدّموع وجبال الحزن والغمّ وصحراء الحسرة؟!
نعم؛ ستكون قوانين الاستعباد ومن ورائها الدوافع والأغراض المشؤومة للأنظمة الطاغوتيّة، هي الحاكمة على النّاس، وسوف تقع المجازر البشعة الواحد بعد الاُخرى والقتل الجماعي، والّذي لم تشهد البشريّة نظير له، ومع هذه الأوضاع سوف تمحى تباشير العدالة!
والأنكأ من كلّ ذلك؛ أنّ الّذين عايشوا هذه الأحداث البشعة قد ماتت قلوبهم وسلبت منهم السكينة، ولم يعد لهم أمل بالعودة إلى الطريق الصحيح وسلوك طريق النجاة؛ ولكن في نهاية المطاف فإنّ لسان الغيب يدعو الجميع للحريّة والثبات على طريق الحقّ.
وسيصل ذلك اليوم الّذي سيصدح فيه صوت المصلح العالمي الكبير من أقدم معبد عرفه التّاريخ، ليصل صوته الرّحيم والرّؤوف إلى جميع الإنسانيّة، وتتكحّل نواظر المحرومين بنور الطّلعة البهيّة والغرّة الحميدة لآخر خلفاء الله سبحانه وتعالى على أرضه وسماءه.
وستزول في ذلك اليوم كلّ الأنظمة الطّاغوتيّة، والّتي عاشت فترات طويلة تتغذّى على دماء الأبرياء، وستجف بحار الدّم، وستحطم قلاع الحزن والآلام.
وسيعمّ الفرح والسّرور في ذلك العصر جميع البشريّة، وهذه الحالة لا تمتدّ ضمن مساحة الأرض وسكّانها فقط؛ وإنّما تشمل بقيّة الأشخاص الّذين يعيشون في بقيّة الكواكب الأُخرى، فإنّهم أيضاً سيفرحون وينشدون بوصول الحكومة العادلة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء.
نظام العالم في ظلّ عصر الظّهور
من المؤكّد فإنّ هناك الكثير من الأشخاص الّذين أنشأوا المشاريع والبرامج الاقتصادية، وهناك آخرون إنبروا للدّفاع عن الحقوق الإنسانيّة والعمل على نجاتها، واُريقت - على طول تاريخ - دماء الملايين من النّاس لإزالة آثار الظلم والاضطهاد عن الأرض، والصراع من أجل توفير حياة أفضل لهم، ولكن واقع الحال ظلّ على ما هو عليه، فلم تتحسّن الظروف العامّة للنّاس في العالم، ولم تسمع إغاثة الملهوف ويعان المستضعف، وحسب القرائن الموجودة فليس هناك أيّ علائم للنّجاة، وسوف يظلّ الواقع هكذا، حتّى يأتي اليوم الّذي يصلح فيه حال الإنسانيّة لا محال.
ولكن من وجهة نظر العارفين والمطّلعين - ومن معهم سرّ العالم وكيفيّة ابتداء خلق الإنسان ومراحلها، والّذين على علم حتّى بالذّرّات الوجوديّة لكلّ إنسان، أعني أهل بيت النبوّة (عليهم السلام) - فإنّ البشريّة سترى السعادة الحقيقيّة والنّجاة عندما تحكم من قبل قيادة صحيحة قادرة على معرفة جميع أسرار وجود الإنسان وخلقته والحاجات والاحتياجات الضروريّة والواقعيّة له.
وليس ترفاً فكريّاً أن نقول: إنّ العالم سيبقى يراوح في مكانه ويعيش حياة غير مستقرّة، مادام هناك حكّام عاجزون ليس عن معرفة الآخرين فحسب، وإنّما عاجزون حتّى عن معرفة أنفسهم، وستبقى الثقافة الظّالمة وغير العادلة هي السائدة والحاكمة.
ولكن كما أشارنا سابقاً فإنّ هذه الحالة زائلة، فطبق المبادئ الأوّليّة لعقيدتنا، فإنّ هناك حكومة عادلة وصالحة ستحكم العالم بأكمله، ولديها كلّ عوامل القدرة والاقتدار، ولها قدرات خارقة للطّبيعة لتنفيذ برامجها وقوانينها، وتجعلها غير مضطرّة إلى سلوك طرق غير مشروعة ومحرّمة من قبيل الظّلم والجور وسفك دماء الأبرياء، وبالتّالي إكمال النّقص الحاصل في منظومتها.
إنّ النّظريّة الواردة عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، فهي ترى أنّ نجاة الإنسانيّة وإنقاذها ممّا هي عليها لا يتمّ إلاّ في حالة واحدة وهي: إنّ أولياء الله - الّذين لهم قدرة الولاية وقدرات تفوّق قدرات البشر - يجب عليهم إمساك زمام الاُمور ليهدوا النّاس بما لديهم من علوم ومعارف حقيقيّة وصحيحة، فتكون المحصّلة النّهائيّة إشباع حاجات الإنسانيّة وتلبية مطالبها المشروعة، وإلاّ سيظلّ الفساد ويدوم، تاركاً العالم يموج ويغوص في بحر من المصائب والويلات.
قال الإمام الصّادق (عليه السلام) في إحدى الزّيارات الواردة عنه في يوم عاشوراء، يعلم بها أحد أصحابه وهو عبد الله ابن سنان، فيقول (عليه السلام): قل:
أَللَّهُمَّ إِنَّ سُنَّتَكَ ضائِعَةٌ، وَأَحْكامَكَ مُعَطَّلَةٌ، وَعِتْرَةَ نَبِيِّكَ فِي الْأَرْضِ هائِمَةٌ. أَللَّهُمَّ فَأَعِنِ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَاقْمَعِ الْباطِلَ وَأَهْلَهُ، وَمُنَّ عَلَيْنا بِالنَّجاةِ، وَاهْدِنا إِلَى الْإيمانِ، وَعَجِّلْ فَرَجَنا، وَانْظِمْهُ بِفَرَجِ أَوْلِيائِكَ، وَاجْعَلْهُمْ لَنا وُدّاً، وَاجْعَلْنا لَهُمْ وَفْداً(٢).
فعلى هذا الأساس، فإنّ خلاصنا ونجاتنا يتحقّق في ظلّ الفرج والظّهور لأولياء الله، وتحقّق حكومة العدل لأهل الوحي والرسالة (عليهم السلام)، ففي ذلك الطريق نجاتنا وتنظيم اُمورنا ونجاح أعمالنا؛ لأنّه لا يمكن في حال من الأحوال أن يعيش المجتمع الإنساني في رغد ورخاء وتتفتّح آفاق الحياة أمامه، مادام قادته ومنقذوه - الّذين هم إكسير الحياة - يعيشون في الغيبة والألم.
إذن؛ يجب - كما جاء في الزيارة - التضرّع والطلب من البارئ عزّ وجلّ أن يجعل نجاتنا وخلاصنا بظهور أوليائه، وأن ينظم أمورنا ويجعلنا من أنصار أوليائه الّذين بيدهم إنقاذ الإنسانيّة من مختلف الويلات والمصائب، والّذين سيأخذون على عاتقهم ترتيب وتنظيم الأوضاع المضطربة التي نعيشها اليوم.
وعلى ضوء ما ذكرناه، يجب الإذعان أنّ الكون ومع أنّه يجري ويسير وفق الأسباب الطبيعيّة، ولكن ليس معناه ترك جميع الأمور بيد الأسباب وعدم رؤية الآثار الّتي هي ما وراء الطبيعة؛ بل إنّ العوامل الغيبيّة لها دور فعّال ومهمّ في وقوع الأفعال والأعمال، ولها إحاطة كاملة بالأسباب الظاهريّة.
ومع أنّ ظاهر العالم مقرون ومرتبط بالعوامل الطبيعيّة ومجهوليّة وجود دور لعالم الغيب لدى عموم النّاس، وعدم توجّههم لذلك، لكن هذا الأمر لا يدوم كثيراً؛ حيث أنّ عصر الظّهور سيكون عصر تجلّى العوامل الحقيقية لعالم الخلق، ونتيجة ذلك فإنّ الإنسانيّة ستتّجه صوب العوامل الغيبيّة، وتضع جانباً تعلّقاتها وارتباطاتها بالأسباب والعوامل الطبيعيّة، وستطّلع بشكل جليّ على دور وتأثير عالم الغيب في عالم الوجود.
إنّ اتّجاه البشريّة صوب عالم الغيب في ذلك العصر العظيم لا يبعث على تقدّمهم العجيب والسريع في معرفة الأمور والقضايا المعنويّة فحسب؛ وإنّما سيخطون خطوات ويقفزون قفزات نوعيّة في الجوانب الطبيعيّة، بحيث تكون الحضارة الفعلية قبالها أمراً تافهاً لا يستحقّ الذكر.
ونظراً لهذا التطوّر الّذي يحصل لهم في الأمور الطبيعيّة ومعرفتهم وعلمهم بالحقائق الكونيّة، فإنّهم لا يعتقدون أنّ العالم هو عالم الأسباب، والدّنيا هي دنيا الوسائل الماديّة؛ بل أنّهم ينظرون إلى العالم نظرة اُخرى نتيجة معرفتهم الواسعة بالمقام السّامي والشامخ والنوراني للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، ويعتقدون أيضاً أنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) هو أمير وحاكم هذا العالم، وأنّ ولايته مبسوطة في جميع الأمور الطبيعيّة وغير الطبيعيّة، وهذا يحصل بفضل وعناية وألطاف البارئ عزّ وجلّ.
التعرّف على منزلة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)
إنّ واحدة من الطرق المهمّة في زيادة المعرفة والتعرّف على المقام الشامخ والرفيع للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه، هو معرفة دور وجوده المبارك في عالم الوجود ونظام الخلق.
فإذا علمنا أنّ ذلك الإمام العظيم هو محور وقطب الوجود، وأنّه (عجّل الله تعالى فرجه) هو خليفة الله على أرضه وسماءه، وأنّه نقطة ارتكاز جميع عالم الوجود والحاكم على جميع الكواكب والسحاب، وسلطانه يشمل حتّى الملائكة الّتي تحمل عرش الله سبحانه وتعالى، فإذا عرفنا كلّ ذلك، فإنّ المنزلة والمقام العظيم للإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) ستسمو وتكبر في أعيننا وتزاد علاقتنا ومحبّتنا له، وحينئذ سندرك كيف أنّنا كنّا بالفعل غافلين عن الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) وعن ساحته القدسيّة، مع أنّه حيّ ويعيش بين ظهرانينا!
إنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) الّذين هم خلفاء الله في عالم الخلقة والوجود ومن خلال أحاديثهم وكلماتهم - ولأجل بيان العظمة والمكانة والمقام الرفيع للإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، ولفت أنظار النّاس إلى وجوده المبارك - فقد كانوا يعظّمونه بشكل رائع(٣).
فعلى سبيل المثال يقول الإمام الباقر (عليه السلام):
يكون هذا الأمر في أصغرنا سنّاً، وأجملنا ذكراً، ويُورِثُه الله علماً، ولا يَكِلُه إلى نفسه(٤).
لا شكّ فإنّ ذكر جميع الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هو جميل وحسن ولكن لماذا يكون ذكر الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) له خصوصيّة أكثر جماليّتاً من بقيّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)؟
وفي صدد الإجابة نقول: إنّ جميع المساعي والجهود المضنيّة والتضحيّات الّتي قام بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، وكذلك حصيلة ونتائج كلّ المواقف البطوليّة وما قدّمه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) من غال ونفيس، ستؤتي ثمارها على يديه المباركتين. وستظهر بواسطته (عجّل الله تعالى فرجه) ثمرة رسالة الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) في أوساط الاُمّة.
إذن؛ فإنّ ذكر ظهوره الميمون هو ذكر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبقيّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، وأنّ الشخص الّذي يذكر الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) ويذكر عصر حكومته المباركة، فإنّه يذكر جميع الجهود والمساعي الكبيرة الّتي قام بها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)؛ فلذلك فإنّ ذكره (عجّل الله تعالى فرجه) يعني ذكر جميع الأئمّة المعصومين (عليهم السلام).
نعم؛ إنّ ذكر الجمال الجميل لذلك الإمام العظيم، هو ذكر جميل وحميد لجميع الأئمّة المعصومين (عليهم السلام).
التعرّف على عصر الظّهور المشرق
يجب أن نعلم أنّنا وكما كنّا غافلين عن ذكر الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه)، كذلك فإنّنا نحمل قصوراً اتّجاه معرفة أوضاع وأحوال عصر الخلاص.
وعلينا أن نعلم أيضاً أنّ التّعرّف على عصر الظّهور المشرق ومعرفة خصائصه العجيبة والفريدة، يزيد قيمة وأهميّة الدّين لدى العارفين والمطّلعين على عصر الظّهور، وكذلك يزيد هذا من قوّة اعتقاد أتباع هذا مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ومناصريهم.
ولهذا فإنّ معرفة الناس وإحاطتهم بالعصر المبارك، والّذي تبسط فيه الحكومة الإلهيّة نفوذها على جميع أرجاء المعمورة معناه معرفتهم بالثّقافة القيّمة لأهل الوحي والرسالة (عليهم السلام) وعلومهم المتعالية.
معرفة عصر الظّهور، هي معرفة نسبيّة
هنا علينا الالتفات إلى نقطة هامّة وهي: إنّ عصر الظّهور المجيد سيكون عظيماً بحيث نبقى عاجزين على تجسيده ورسم ملامحه بالشّكل اللائق والمناسب، وأنّ ما أوردناه في هذا الكتاب عن عصر الظّهور العظيم يعتبر قطرة من بحر.
إنّ الشخص الّذي ولد وعاش في زمن الغيبة، ولم يشاهد عظمة عصر الظّهور ولم يتذوّق حلاوته، يكون بكلّ تأكيد عاجزاً عن تجسيده بالكيفيّة الّتي يتحقّق بها.
وعلى هذا الأساس، وكما أنّ معرفتنا بالمقام الشّامخ للإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) هي معرفة نسبيّة، فمن الطبيعي تكون معرفتنا بعجائب وأحداث عصر الظّهور هي نسبيّة أيضاً.
نعم؛ فإنّنا إلى اليوم الّذي لم نعش في عصر الظّهور ولم نر أحداثه ووقائعه على حقيقتها، لا يمكننا وصفه بشكل مناسب وكامل، وليس بإمكاننا بيان كيفيّته، ولكن مع كلّ هذه الأحوال نتطرّق إلى شرح بعض النّقاط المهمّة الّتي وردت من خلال أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، كي نضفي على قلوبنا نوعاً من البهجة والسّرور، حينما نذكر ذلك العصر السّعيد.
وكما أشرنا آنفاً، أنّه لا يمكن لنا وضع النّقاط على الحروف بشكل دقيق ومعرفة عصر الظّهور - كما ينبغي أن يكون - وذلك باعتبار أنّ الشخص الّذي يعيش في غياهب سجن الغيبة، ولم يتذوّق طعم وحلاوة يوم الظّهور، كيف له النظر بعين لم يرفع عنها الغطاء إلى إشعاعاته وأنواره البهيجة؟ ولعمري؛ من أين له توصيف هذه الحالة وبيانها إلى الآخرين؟
ومن المؤكّد فإنّنا إذا لم نتخلّص من سجن الغيبة، وندرك عصر الظّهور، فمن المستحيل درك ولمس عظمة ذلك اليوم الّذي تعمّ وتنتشر فيه رايات العدل والمعرفة والعدالة والقوّة على كلّ بقاع العالم. ولا يمكن لأحد بأيّ حال من الأحوال أن يتلمّس حلاوة ولذّة العصر المذكور ما لم يراه ويعيش في كنفه.
أعزّائي القرّاء؛ تمّ في هذا الكتاب طرح مواضيع جديدة وأفكار بكر لم يتطرّق إليها سابقاً، لذا لا تنظروا إليها نظرة عابرة وسطحيّة، وعليكم التأمّل والتّمعّن فيها طويلاً، مع أنّ فيها النزر اليسير من ذلك العصر العظيم.
فإن أصابتكم الدّهشة والعجب ممّا ذكرناه من تفاصيل عنه وعن قدرات وإمكانيّات أناسه، إعلموا أنّ الّذي بيّناه هو تجسّد قليل عن الجهرة الحقيقة له، باعتبار أنّ تجسيده بشكل كامل خارج عن قدرتنا، واعلموا أنّ الّذي ذكرناه عن ذلك العصر هو بمقدار ما فهمناه واستنبطناه، وإلاّ فإنّ «ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه».
وهناك أبيات جميلة في الشّعر الفارسي تقول مضمونها:

أذعنت أنّ الكون كلّه ملكك مولاي * * * حتّى الشمس الّتي تشرق في كبد السّماء
هي جرم صغير من وجودك النوري * * * أين لنا السّفر والوصول إلى زمانك
سيّدي أنت المبتغى ولك كلّ الفعّال

ولأجل إثبات هذا الموضوع، نزيّن قولنا برواية عن الإمام باقر علوم الأوّلين والآخرين (عليه السلام) منقولة في كتاب «بحار الأنوار»:
قلت لأبى جعفر (عليه السلام): إنّما نصف (صاحب) هذا الأمر بالصفة الّتي ليس بها أحد من الناس.
فقال: لا والله؛ لا يكون ذلك أبداً حتّى يكون هو الّذي يحتجّ عليكم بذلك ويدعوكم إليه.
بيان: قوله «بالصفة الّتي ليس بها أحد» أي نصف دولة القائم وخروجه على وجه لا يشبه شيئاً من الدّول، فقال (عليه السلام): لا يمكنكم معرفته كما هي حتّى تروه...(٥).
وعلى أساس ما جاء ذكره هنا، فإنّنا ومهما كانت لدينا عقيدة رفيعة وسامية حول عصر الظّهور، مع هذا لن يتسنّى لنا معرفة أوصاف ذلك اليوم بشكله الحقيقي والواقعي، ولا يمكن لنا أيضاً معرفة ذلك العصر العظيم وحدوثه، وليس لنا القدرة الكافية على دركه.
نعم؛ فإنّ مستقبل العالم سيئول ويتحوّل إلى دنيا مشرقة ونيّرة؛ بحيث تكون أعيننا عاجزة على رؤيته، وفكرنا قاصر عن إدراكه، ومع هذا يجب علينا التفكير باستمرار بكلّ وجودنا في وصول ذلك اليوم المتألّق، باعتبار أنّ كلّ إنسان طاهر المولد ويحمل نمط من أنماط التفكير السليم، هو في غاية الشوق في انتظاره، ولنا في ذلك النهج أُسوة، لأنّ حالة وعمليّة الانتظار لا تحمل معها أفضل العقائد والأفكار الصحيحة فحسب؛ وإنّما هي أفضل أنواع الجهاد والأعمال وأكملها.
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل جهاد اُمّتي انتظار الفرج(٦).
ويقول الإمام الجواد (عليه السلام): أفضل أعمال شيعتنا، انتظار الفرج(٧).
فهذه هي القيمة الحقيقية ليوم الخلاص من وجهة نظر أهل البيت (عليهم السلام).
الهدف من وراء تأليف هذا الكتاب
إنّ هدفنا المنشود من وراء تأليف وكتابة هذا الكتاب - الّذي يتمحور حول قضيّة كبيرة وعظيمة - هو تعريف المجتمع الشيعي على أكبر قضيّة حياتيّة ومصيريّة تخصّ العالم برمته معرفة نسبيّة وزيادة المعلومات، وأيضاً إيجاد الدوافع وتهيئة الأرضيّة المناسبة للتّحرّك والعمل المتواصل؛ لأجل وصول ذلك العصر العظيم والدعوة إليه، وتطبيق الحكومة والدولة الكريمة لأهل البيت (عليهم السلام).
وانطلاقاً من هذا الأمر، يجب عليكم إخوتي القرّاء، ومنذ بداية قراءتكم لهذا الكتاب إتّباع منهجاً خاصّاً في إيجاد النّقاط المهمّة، والتركيز عليها، والسّعي إلى تعريف الآخرين بها، باعتبار أنّ منطق العلم والمعرفة لا يجدي ولا ينفع ما لم يكن هناك عمل وتحرّك وتطبيق.
لذلك؛ فإنّ الهدف الحقيقي من كتابة وتأليف هذا الكتاب ليس مبنيّاً على زيادة معلومات ومعرفة القرّاء فقط؛ وإنّما تحفيزهم على الاستعداد والحركة باتّجاه أكبر قضيّة مهمّة عرفتها الإنسانيّة، والّتي تشمل آثارها وبركاتها جميع الجوانب الحياتيّة الداخليّة والخارجيّة للإنسان والمجتمع البشري، وكذلك لها القدرة على الذّهاب إلى أبعد من ذلك لتأخذ في أحضانها عوالم أخرى أيضاً(٨).
توصية ضروريّة
إنّ الدراسة والبحث حول عصر الظّهور، عصر ازدهار وتطوّر القدرات والقوى الكامنة لدى الإنسان، وأيضاً التحدّث حول ترتيب وتنظيم العالم، هو أمر مفرّح وجذّاب؛ بحيث ينساب له القلم دون توقّف، ولهذا السبب فقد استرسل المؤلّف بالحديث وقسم العصر المشرق إلى عدّة أقسام مستعيناً بأهل البيت (عليهم السلام) ومستمدّاً من أحاديثهم الشريفة الواردة في المواضيع هذه:
١ - الأحاديث والخطب المنقولة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حول مستقبل العالم.
نظراً إلى أنّ أحاديث وخطب الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) في هذا المضمار عديدة، وفيها نقاط هامّة وحسّاسة لا يكفيها كتاب واحد، بل تحتاج إلى عدّة كتب مستقلّة؛ لذا فإنّنا أوردنا أحاديث الإمام (عليه السلام) في كتاب مستقلّة.
٢ - وأمّا أقوال وأحاديث الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) حول مستقبل العالم وآفاق وشكّ الظّهور وبداية الدولة الكريمة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء وكيفيّة تسخير العالم، والنّقاط الجميلة والشّيقة حول أصحاب الإمام الميامين، فهي قسمت تحت عناوين مستقلّة وهي في طور التأليف.
٣ - أحاديث وأقوال أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في خصوص الدولة الكريمة للإمام صاحب العصر والزمان أرواحنا لمقدمه الفداء وحكومته العالميّة، وهو الكتاب الّذي بين يديك عزيزي القاري.
فإذا كان هذا الكتاب يحمل بين دفتيه ثواباً يرتجى، فإنّه يهدى إلى مولاتي الطّاهرة والجليلة السيّدة «نرجس (عليها السلام)» ×، وآمل من خلال عنايتها وألطافها صقل قلبي وتطهيره من الذنوب والمعاصي، ليؤثر على قلوب العديد من أتباع وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) الّذين عاشوا ويعيشون كقطيع بلا راع ولا صاحب، وليهيج فيهم أحاسيس الشوق والتطلّع إلى مستقبل مشرق لعالم أفضل تقوّده الحكومة الكريمة والعظيمة للإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه).
وأتضرّع إلى الله العزيز القدير في تعجيل فرج مولانا (عجّل الله تعالى فرجه)، كي تحكم دولة «طاووس الجنة»، وتفرح «ريحانة الجنة» ×، ويعمّ السرور والفرح في العالم كلّه، وتلبس «سوسن» × وكلّ الكائنات والنّباتات والسّنابل لباس العزّة والكرامة في أوّل صرخة ونداء ينطق بإسم العدالة في العالم؛ ليعلم الجميع أنّ «خير الإماء» ×(٩) الّتي كانت يوماً يرتدّ ثوب الأسر والاستعباد، أو أولئك الّذين حرّموا من وجود أطهر وأفضل وأعلم إنسان وطأت قدماه أرض المعمورة أنّ ذلك اليوم قد حان، ليكون هؤلاء هم سادة الكون وأشرافه وأفضل من في الأرض والزمان.
نعم؛ في ذلك اليوم سيظهر الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) وصاحب الأمر والقائد ووليّ الأرض، وتظهر معه قدرته في كلّ شيء، وسيدرك من فيها أنّ الأرضين والسّماوات هي جميعاً تحت سيطرة وقيادة القدرات العجيبة لأهل الوحي والرسالة (عليهم السلام).
ولا يعني أنّ الزمان الّذي يفقد فيه الظالمون حكومات الأئمّة (عليهم السلام) ويتركون فيها الحكم لشمس الولاية، هو دليل ضعفهم وعدم قدرتهم على فعل شيء؛ وإنّما هو دليل ليرى الجميع أنّ فرعون وهامان غير مؤهّلين لحمل عرش الولاية، وأنّ الجبت والطاغوت فاقدان القدرة الربانيّة، وأنّ قارون وإن كانت لديه كنوز العالم، فإنّه في النهاية سيحرم منها، وأنّ شدّاد وإن بنى الجنّة على الأرض فإنّه غير قادر على وضع قدماه فيها.
وسيمحى هؤلاء في النهاية من الوجود، نظراً لعدم طاهرة نطفهم، وستطهّر الأرض من أنجاسهم، وتخلو - في ذلك الزمان - من أيّ ظالم يعبث في هذه البقعة أو تلك أو شرير ينغص عيش وسرور الآخرين.
وستكون الحكومة في ذلك الزّمان من نصيب وحصّة الصالحين، ولا يوجد فيه أيّ أثر للطّالحين والعابثين.

مرتضى المجتهدي السيستاني

١ - العدالة

العدالة هي هدف الأنبياء العظام
تعتبر العدالة وإقامتها في أوساط المجتمع وشرائحه المختلفة من الأمور المهمّة والضروريّة في الحياة، ومن هنا فقد جعل البارئ عزّ وجلّ الهدف الرئيسي والغاية النّهائيّة من بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماويّة، هي تطبيقها وتنفيذها بين الأمم والشعوب، لرفع الظلم والفساد عنهم.
يصرّح الله سبحانه وتعالى في سورة «الحديد»: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...»(١٠).
لذا فقد كان الهدف من الرسالات السماويّة الّتي جاء بها الأنبياء والمرسلين ونزول الكتب السماويّة عليهم، هو إقامة العدل والقسط بين أفراد المجتمع الواحد.
ولكن بكلّ أسف نقول: إنّ العدل والقسط لم يطبقان في المجتمعات الإنسانيّة بتاتاً، ولم يترجمان إلى أفعال وأعمال حقيقيّة، وذلك بسبب العراقيل والمعوّقات الّتي وضعها أتباع قابيل منذ بدء الخلقة وإلى اليوم الّذي تقام فيه حكومة الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه)(١١).
نشر العدالة في المجتمع أو إنشاء المجتمع العادل؟!
من الجدير بالذّكر إنّ الآية الشريفة جعلت الهدف من رسالة الأنبياء ونزول الكتب السماويّة هو تشكيل المجتمع العادل، وحدّدت السّماء المنهجيّة اللاّزمة لعمل الأنبياء لأجل تطبيق هذا الهدف، ولم تكتف الحكومة الإلهيّة بإجراء العدالة بينهم قطّ.
لا شكّ في أنّ انتشار وبساط العدل والعدالة بين النّاس وتوجّه الأمم إلى مسألة العدل والقسط مضافاً إلى الأهداف والتعاليم الّتي جاء بها الأنبياء العظام، فإنّها جميعها ستطبق بحذافيرها في الدولة الإلهيّة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، وستتحقّق كلّ التطّلعات والآمال الّتي عقدها أنبياء الله على يد الحكومة العادلة للإمام (عجّل الله تعالى فرجه) في جميع أنحاء العالم وبين جميع المجتمعات الإنسانيّة، وستصل الجهود الجبّارة والعظيمة الّتي بذلها هؤلاء العظماء في طريق إيجاد حاكميّة العدل والقسط بين النّاس إلى شاطئ الأمان.
في ذلك العصر العظيم ستغلق كلّ ملفات المستكبرين وإلى الأبد، وستحلّ نهايتهم، وتسقط جميع رايات الكفر والضّلالة، بحيث لا رجعة لها، ويتخلّص جميع مظلومي العالم من يد ظالميهم، وسوف تظهر معالم جديدة ومشروع عمل جديد للإنسانيّة. وبهذا النّحو والشّكل ستتحقّق وبعد قرون متمادية الأهداف المتعالية إلى جاء من أجلها الأنبياء، وأيضاً ما جاء من أجله أهل البيت (عليهم السلام) وقدموا الكثير له، ولهذا الدليل فإنّ الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) هو موعود لجميع الأمم والشّعوب.
فنقرأ في زيارته:
السّلام... على المهديّ الَّذي وعد الله عزّ وجلّ به الاُمم(١٢).
العدالة في عصر الظّهور
يتّضح ممّا تقدّم أنّ التغيير العالمي الّذي سوف تحدّثه الحكومة العادلة للإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) يأخذ طابعاً مهماً وحياتيّاً، حيث لا يكون سبباً في هلاك المتجبّرين وأصحاب البدع فحسب، وإنّما سيرافقه زوال آثار ظلمهم وبدعهم أيضاً. وهذه النقطة مهمّة جدّاً ودركها بحاجة إلى فكر وتأمّل.
ويأتي في هذا المقام أسئلة عديدة؛ فمثلاً: ما هي الخطط والأساليب المشؤومة الّتي أتبعها الظّالمون وأصحاب البدع في العالم؟
وكيف فرضوا العامل الاقتصادي والفقر المعنوي والفكري على النّاس؟!
وما هي التغيّرات العظيمة الّتي لابدّ من وقوعها في العالم للخلاص من جميع هذه المآسي والجرائم، لإحلال العدل والعدالة محلّها؟!
وكيف يكون وضع العالم ونظامه العامّ في ذلك اليوم العظيم الّذي يخلو من الظّالمين، ومن جميع آثارهم وتبعاتهم؟!
ولغرض الإجابة على هذه الأسئلة، فإنّنا بالتأكيد بحاجة إلى فكر خلاّق وذهنية وقّادة ومتفتّحة، من أجل رسم صورة واضحة المعالم عن عصر تكامل الحياة وتبلور هالة من النور في وجودنا.
إنّ النقطة الّتي بيّنّاها وهي إزالة آثار البدع والظلم في عصر حكومة العدل الإلهي للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء وعدم بقاء أيّ آثار منها، هي حقيقة استلهمناها من تعاليم مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
يقول الإمام الباقر (عليه السلام):
هذه الآية: «اَلَّذينَ إِنْ مَكَّنَّاهُم...»(١٣) نزلت في المهديّ وأصحابه، يملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الله بهم الدّين حتّى لا يرى أثر من الظلم والبدع(١٤).
فهل يمكننا درك واستيعاب العالم الّذي سوف يعطي الحياة الواقعيّة بالشّكل والصّورة الّتي سيكون عليها؟
انتشار العدالة
وكما تعلمون فإنّ عصر الظّهور هو عصر العدالة، بحيث لا تبقى فيه أيّ علامة أو أثر من آثار الظلم والاستبداد، وترفع وتزول عنه كلّ نقيصة وحاجة وكلّ أنواع الفقر والعوز الّتي فرضت على الإنسانيّة من قبل المستكبرين؛ بل تتعدّى ذلك لتعطى كلّ ذي حقّ حقّه، وهذه الحقائق جاءت على لسان أهل البيت (عليهم السلام).
وعندها ستهتزّ وترفرف راية العدالة على المعمورة كلّها، ويرفع الظلم الجاثمّ على صدور المظلومين، وتظلّل الحكومة العادلة للإمام (عجّل الله تعالى فرجه) برحمتها الإلهيّة على رؤوس الإنسانيّة أينما كانت.
وهذه الحالة تأخذ أبعاداً شموليّة، فتدخل الأجهزة والدوائر الحكوميّة والأسواق والشّوارع والمتاجر وحتّى داخل البيوت ضمن دائرتها، ويعمّ العدل في مفاصلها، ويتّسع العالم إلى كلّ شيء ما خلا الظلم والاستبداد.
ويكون مثل العدالة فيه مثل الطاقة العظيمة الّتي لها القابليّة على الانتشار في كلّ البيوت، ولهذا فإنّ العصر الوحيد الّذي تعمّ العدالة فيه هو عصر الظّهور، وعصر تجلّي حكومة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)؛ فكما أنّ الحرارة والبرودة تدخل إلى جميع زوايا البيت، فإنّ عدالة الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) تدخل في جميع الأماكن، وذلك بواسطة قدرة عظيمة غير معروفة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في خصوص هذا الموضوع:
... أما والله ليدخلنّ عليهم عدله جوف بيوتهم كما يدخل الحرُّ والقرُّ(١٥).
هنا يقفز إلى الأذهان سؤال هو: كيف يمكن للعدالة الانتشار على الصعيد العالمي، وتبسط آثارها وتمحو الظلم والاستبداد كما تنتشر الطاقة والحرارة في إحدى الغرف؟ وإذا كان النّاس في عصر التّكامل لهم أوصاف تشبه إلى حدّ ما أوصاف الناس في زماننا الحاضر، فهل يمكن للعدالة أن تحكم في كلّ مكان؟ وتكون قادرة على سحب البساط من تحت أقدام الظّالمين والمستكبرين، وتجعلهم عاجزين عن تقيّد الآخرين بالقيود والسلاسل؟
وفي محلّ الإجابة على هذا السؤال، يجب القول: أنّه من المستحيل بمكان تطبيق العدالة في العالم وإحلالها محلّ الظّلم والاضطهاد مادامت الإنسانيّة لم ترجع إلى فطرتها السليمة الأولى، ووصول العقل والفكر إلى مرحلة التّكامل، فإذا بقت الحالة كما كانت، فمن المستحيل أن لا يظلم الإنسان أخاه الإنسان.
وبناءً على ذلك، فإنّ الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، ومن أجل استقرار حكومته العالميّة العدالة واستتبابها، فإنّه سوف يوجد ويحدث تغيّراً عظيماً في وجود الإنسانيّة نفسها، ونتيجة ذلك تصل إلى حالة التّكامل، فتتنفّر بكلّ وجودها من الظّلم والظّالمين، وتسلك طريق العدل والعدالة.
وهذا التغيير الأساسي إنّما يتحقّق حينما يتحقّق التّكامل في بناء وجود الإنسانيّة، الأمر الّذي يحرّك عندهم الأفكار وبقيّة القدرات الروحيّة والعقليّة والفكريّة الأخرى، فتتغيّر عندهم حينئذ النفس الأمّارة، وسيتمكّنون من الخلاص من هواها وميولها، ويسعون في تكاملها.
العدالة في الحكومة العالميّة الواحدة
وكما أسلفنا سابقاً فإنّ حكومة الإمام العدالة والإلهيّة هي حكومة عالميّة تبسط هيمنتها وسيطرتها على جميع أنحاء العالم بشكل لا توجد معها أيّة حكومة أخرى في أيّ بقعة من بقاع الأرض حاكمة سواها.
وهذا النفوذ والسيطرة يشمل وسط الصحاري الكبيرة والجبال، لهذا فإنّ العالم بأسره تسوده حالة من العدالة، وأجواء ملؤها القسط، ويتمتّع بأنواع العلم والمعرفة في ظلّ تلك الدولة المباركة للمصلح العالمي العظيم.
وهذه حقيقة نلمسها من خلال قراءتنا زيارة الإمام في سرداب الغيبة:
... وَتَجْمَعَ بِهِ الْمَمالِكَ كُلَّها، قَريبَها وَبَعيدَها، عَزيزَها وَذَليلَها، شَرْقَها وَغَرْبَها، سَهْلَها وَجَبَلَها، صَباها وَدُبُورَها، شِمالَها وَجُنُوبَها، بَرَّها وَبَحْرَها، حُزُونَها وَوُعُورَها، يَمْلَأها قِسْطاً وَعَدْلاً، كَما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً(١٦).
لذا فإنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) يغيّر جميع الحكومات الموجودة، ويدمجها في حكومة واحدة، ويجعل جميع دول العالم - سواء أكانت من الدول الّتي تتمتّع بقدرات هائلة أم الضعيفة، أو كانت في الشرق أو الغرب وتحت جميع الشروط والظروف - تحت لواء حكومته العادلة، وينهي سلطة جميع الحكومات المسيطرة على العالم من خلال فتوحاته لشرق الكرة الأرضيّة وغربها، وبالتالي يشكل الحكومة العالميّة الواحدة.
يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
الأئمّة من بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم أنت يا عليّ، وآخرهم القائم الّذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها(١٧).
ونتيجة الفتوحات الحاصلة في جميع نقاط العالم ستحكم حكومة العدل الإلهي في كلّ مكان، ويمحى كلّ أثر من آثار الظلم والاستبداد حتّى وإن كان مقدار ذرّة.
ولهذا السّبب ترى أنّ الحكومة العادلة للإمام (عجّل الله تعالى فرجه) ستكون هي أمل ورجاء كلّ المحرومين والمتعذّبين الّذين ينتظرون بشوق وشغف كبيرين قيام تلك الدّولة الوحيدة القادرة على إحياء سنّة العدالة في كلّ مكان من العالم.
فتقرأ في زيارته (عجّل الله تعالى فرجه): اَلسَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُؤَمَّلُ لِإِحْياءِ الدَّوْلَةِ الشَّريفَةِ(١٨).
يقول الإمام الباقر (عليه السلام) حول وصول العصر المشرق للظهور وحلول زمان حكومة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه):
يظهر كالشّهاب، يتوقّد في الليلة الظلماء، فإنّ أدركت زمانه قرّت عينك(١٩).
وهنا تشبيه في غاية الروعة والجماليّة وهو: أنّه وكما تظهر النجمة في الليل المظلم تشعّ بنورها لتجذب لها الأنظار، كذلك الإمام المنتظر أرواحنا لمقدمه الفداء، فإنّ ظهوره شعاع ينير الدروب وتباشير أمل تجذب الأرواح والقلوب.
ونتيجة للضياع والفساد والظلمة وغرق الإنسانيّة في بحور الحيرة والضلالة، فإنّ ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) سيكون ضياءً للنّاس ونوراً خاصّاً يجذب إليه هؤلاء، ليلجؤوا إلى حضرته من أجل الخلاص والنّجاة من الظّلمة والحصول على النّور والهداية.
في ذلك العصر ستكحل عيون المحرومين المنتظرة، وتطرد حالات اليأس الّذي عاشتها سنين طوال، وإحلال حالة من النّور والإشراق محلّها.
وينير الإمام الحجّة بن الحسن (عليه السلام) الوجود بضيائه الوهّاج، عندما يصبح العالم كقطعة من اللّيل الحالك، وينتشر فيه الصراعات والاختلافات والزّلازل الشديدة والحروب المدمّرة، وتراق الدّماء في كلّ جزء من أجزائه، وتنتشر رائحة الموت في كلّ مكان، وتأخذ الوحشة والقلق والاضطراب مأخذها من القلوب، فينغمس الرّكب الإنساني في العذاب.
فيقول الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول ذلك العصر:
إبشروا بالمهدي، إبشروا بالمهدي، إبشروا بالمهدي، يخرج على حين اختلاف من النّاس وزلزال شديد، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملأ قلوب عباده عبادة، ويسعهم عدله(٢٠).
ويقول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً:
يحلّ باُمّتي في آخر الزّمان بلاء شديد من سلاطينهم لم يسمع بلاء أشدّ منه حتّى لا يجد الرّجل ملجأ، فيبعث الله رجلاً من عترتي أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
يحبّه ساكن الأرض وساكن السّماء، وترسل السّماء قطرها، وتخرج الأرض نباتها لا تمسك فيها شيئاً...
يتمنّى الأحياء الأموات ممّا صنع الله بأهل الأرض من خيره(٢١).
ندعو من البارئ عزّ وجلّ الإسراع في حلول ووصول حكومة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) العادلة، وظهورها في أقرب زمان ممكن، ونشهد إقامتها لتقرّ بها عيوننا.
أمثلة ونماذج من العدالة
لقد استفاد أصحاب الأموال والنّفوذ والقدرة ومنذ بداية التاريخ وإلى زماننا الحاضر من إمكانيّاتهم وتسخيرها لصالحهم، فكان الضحيّة هم المستضعفون وفقراء العالم، فظلّوا مسحوقين طيلة هذه الحقب الزمانيّة، ويعيشون تحت رحمتهم.
ولم يكن الأغنياء يحتلّون المراتب الاُولى في القضايا الدنيويّة فقط وإنّما شمل هذا التفاوت الطبقي حتّى في القضايا العباديّة، فقد لعبت الأموال والإمكانيّات دوراً مؤثّراً وهامّاً في تقدّمهم هذا، فاحتلّوا مواقع رياديّة في القضايا العباديّة والمعنويّة كذلك، غير أنّ هذا الموضوع لا يأخذ حيّزاً أو موقعاً في الحكومة العادلة للإمام صاحب العصر والزمان أرواحنا لمقدمه الفداء، ولا يمكن المراهنة علّ المال والثروة فيه، ولا توجب الإمكانيّات الكثيرة حرمان بقيّة الأشخاص من حقوقهم الطبيعي.
فتجري العدالة في ذلك الزّمان بشكل متساوي، وتترجم إلى مصاديق ظاهرة للعيان، وبأحسن وأفضل صورة ممكنة، وبدون أيّ استثناء يذكر.
وفي هذا الصدد، نذكر رواية تبيّن نموذج مصغّر من تلك العدالة العالميّة:
يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
أوّل ما يُظهر القائم من العدل أن ينادي مناديه: أن يسلّم صاحب النافلة لصاحب الفريضة الحجر الأسود والطّواف(٢٢).
إذا كان في هذا الزّمان ونظراً لتغلغل وتمركز بعض الأغنياء في بعض الأماكن والمواقع الحسّاسة، يوجب زيادة القيم والأسعار في الأعمال العباديّة ممّا يؤدّي إلى حرمان الكثير من النّاس أداء عباداتهم، ولكن في ذلك العصر المتألّق والمشرق فإنّه يرفع أيّ نوع من أنواع الحرمان، وتتوفّر فرص الإمكانيّات وبشكل متساوي للجميع، فتكون مشاركتهم في حجّ بيت الله وبقيّة الأماكن العباديّة الاُخرى واسعة.
ولهذا الدليل فإنّ رسالة الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) ستصل إلى جميع حجّاج بيت الله الحرام، والّتي تنصّ على أنّ الأشخاص الّذين أدّوا مناسك الحجّ الواجبة عليهم الخروج سريعاً، لكيلا يوجبوا المزاحمة للبقيّة الباقية.
وهذا هو أوّل مشروع عمليّ فعليّ يبدأ به الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) حين ظهوره، وذلك لتطبيق العدالة العالميّة.
شموليّة العدالة بكلّ جوانبها
وكما جاء في الرّوايات الصحيحة فإنّ موانع الظّلم والاستبداد ستزول من العالم في عصر الظّهور، وينتشر العدل والقسط في كلّ مناطقه، ولا يبقى للظّلم والحرب وسفك الدّماء أثر فيه، وتعيش الإنسانيّة في ظلّ الحكومة العالميّة للإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) في سكينة وراحة بال واطمئنان.
وهذه حقيقة ووعد صادق أعطي للنّاس قبل آلاف السّنين بوصول هذا اليوم، ولا يمكن المزايدة عليه والشكّ فيه، باعتبار أنّ الرجوع إلى الفطرة الإنسانيّة السليمة وطاهرة الطينة الأصليّة المنادية للعدالة، هي من الضروريّات وأدوات تكامل العقل، وهذا لا يتحقّق إلاّ في خضم ذلك اليوم العظيم للظهور، وهذه المزيّة لا مناص منها، وستعمّ العالم بأسره.
إجراء العدالة وضرورة إيجاد التغيّرات في الحيوانات
إنّ النقطة الّتي تقفز إلى الذّهن في هذا البحث، ماذا سيكون حال الحيوانات في ذلك العصر؟
فهل يمكن للحيوانات المفترسة قتل الإنسان وإنهاء حياته؟ فإذا كان الأمر كذلك، فكيف تتناعم هذه مع العدالة وزوال الظّلم؟
ونظراً للحقيقة القائلة أنّ عصر الظّهور هو يوم الله الأكبر وعصر الحكومة الإلهيّة على الكون أجمع، فهل إنّ هذا الموضوع الهامّ لن يوجد تغيّراً وتحوّلاً في طباع الحيوانات، وتستمرّ الحيوانات المفترسة بخصلتها المعروفة هذه؟
نعم؛ فإنّ من لوازم وضروريّات العدل العالمي في العصر المتألّق للحكومة الإلهيّة لمولانا صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) وانتشاره في أنحاء المعمورة، هو حصول الأمن والأمان فيه، وبقاء جميع الكائنات الحيّة مصونة من كلّ شرّ وظلم وطغيان.
ويتطلّب الأمن العالمي في ذلك اليوم العظيم - الّذي تمّ التّأكيد عليه كثيراً في الرّوايات - سلب عادة الافتراس منها في صورة الإمكان، وسلوكها سلوكاً آخراً، وحدوث انقلاب وتحوّل أساسي في حياتها، وإلاّ مع وجود حالة الافتراس في الحيوانات غير الأهليّة - في جميع أنحاء العالم من أعماق البحار وحتّى أعلى قمم الجبال - كيف تبقى الإنسانيّة والحيوانات الضعيفة في مأمن من شرّها؟!
ألم يأت في الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) في وصف ذلك العصر، أنّ الأمن والأمان هي الخصلة الحاكمة والطاغية على الكرة الأرضيّة؟!
ترويض الحيوانات
وإليكم بعض الرّوايات الواردة في هذا الخصوص: لقد بيّن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشارات متعدّدة في خصوص حكومة الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه)، وخصائصه والحوادث العجيبة الّتي تحدث في عصر الظّهور، وعن التغيّرات والتحوّلات المهمّة في العالم، وما يجري على النّاس والّتي ترتبط في ذلك الزمان - ومن جملتها الحيوانات - فيقول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خطبة له:
... وتُنزع حُمَة كلّ دابّة حتّى يدخل الوليد يده في فم الحَنَش فلا يضرّه، وتلقى الوليدة الأسد فلا يضرّها، ويكون في الإبل كأنّه كلبها، ويكون الذئب في الغنم كأنّه كلبها، وتملأ الأرض من الإسلام، ويُسلب الكفّار ملكهم، ولا يكون الملك إلاّ لله وللإسلام، وتكون الأرض كفاثور الفضّة تنبت نباتها كما كانت على عهد آدم؛ يجتمع النفر على القِثّاء فتشبعهم، ويجتمع النفر على الرُّمّانة فتشبعهم ويكون الفرس بدُرَيْهمات(٢٣).
اُنظروا إلى النّقاط المهمّة الموجودة في هذه الرّواية، والّتي بيّنت التغيّرات الحاصلة في عصر المشرق للظهور، منها:
١ - سلب حالة الافتراس من الحيوانات المفترسة.
٢ - ستصبح في ذلك الوقت الحيوانات المفترسة والوحشيّة من أمثال الأسد والذئب أهليّة، فتمشي بين الإبل والغنم.
٣ - مصادرة الثّروة والأموال العائدة لجميع الكفّار الّذين يصرّون على البقاء على كفرهم.
٤ - وجود حكومة إلهيّة واحدة، وحاكميّة الدّين الإسلامي فقط.
٥ - ستزداد البركة الإلهيّة في ذلك العصر بحيث تصبح الفاكهة والخضار أضعافاً مضاعفة، والحبّة الواحدة منها مثل حبّة الرّمّان والخيار تشبع عدداً من الأشخاص.
٦ - تباع جميع السلع والأشياء بثمن بخس وزهيد، فمثلاً يباع ويشرى الحصان بدراهم معدودات.
وبناءً على ما ورد في هذا الحديث الشريف، فإنّه من النتائج المترتّبة على عصر الظّهور والّتي بشّر بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) النّاس أجمعين في الحكومة العالميّة للإسلام، هي نزول البركات السماويّة العجيبة، والتطوّر الاقتصادي والتّوسعة الزّراعيّة، وترويض الحيوانات المفترسة واللاسعة و....
ومن الأحداث والنعم الّتي تقع في عصر الظّهور، هي ترويض الحيوانات الوحشيّة وبقاء الجميع في أمان منها، وهذا التّحوّل والتّغيّر الحاصل جاء نتيجة قدرة الولاية المطلقة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، وتصرّف الإمام العظيم في ذلك الزمان وتأثيره على جميع الموجودات.
هذه النّعم لا تترك أثرها الواضح على الحيوانات؛ بل ستجلب معها بركات السّماوات والأرض، وكذلك فإنّ أيّ تغيّر وتحوّل وتطوّر في الأصعدة والمجالات فهو ناتج من ظهور القدرة والولاية للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه).
لأنّه - وكما تعلمون - فإنّ المقصود من قضيّة الظّهور ليس ظهور شخص الإمام من الناحية الماديّة والجسديّة فقط، وإنّما المقصود من ظهوره (عجّل الله تعالى فرجه) هو استعمال القدرة والولاية التكوينيّة والتّصرف في الكون.
ولهذا السبب، فإنّ ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) سيتلازم مع تصرّفاته في عالم التّكوين، وعلى أثرها ستشهد وتلمس الإنسانيّة جمعاء تلك التحوّلات والتّغيّرات العجيبة الحاصلة في العالم.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
ينتج الله تعالى في هذه الاُمّة رجلاً منّي وأنا منه، يسوق الله تعالى به بركات السّماوات والأرض، فينزل السّماء قطرها، ويخرج الأرض بذرها، وتأمن وحوشها وسباعها، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ويقتل حتّى يقول الجاهل: لو كان هذا من ذرّيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لرحم(٢٤).
ويستعمل الإمام الصّادق (عليه السلام) في هذه الرّواية تعبيراً جميلاً ورائعاً بالنّسبة إلى الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) فيقول (عليه السلام): «رجلاً منّي وأنا منه»، وهذا التعبير دليل واضح على التّجليل والعظمة الّتي يولّيها الإمام الصّادق (عليه السلام) إلى الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)، وهذا التّعبير نفسه استعمله الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خصوص الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) سيّدي شباب أهل الجنّة.
وأمّا النّقاط الأخرى الّتي يمكن استخلاصها من هذه الرّواية، فهي عبارة عن:
١ - نزول بركات السّماء والأرض.
٢ - كثرة الأمطار النافعة.
٣ - انتشار المزارع والحقول والمحاصيل الزّراعيّة. وهذا دليل على حصول عمليّة النّموّ الاقتصادي والتنمية الزّراعيّة.
٤ - ترويض جميع الحيوانات المفترسة.
٥ - إشاعة عمليّة القسط والعدالة، لتشمل العالم كلّه.
٦ - قتل أعداء أهل البيت (عليهم السلام).
٧ - إنّ قول الإمام الصادق (عليه السلام) في نهاية الرّواية - ويقتل حتّى يقول الجاهل... - فهو دليل على أنّ الاعتراض هذا صادر من قبل المخالفين والأعداء، باعتبار أنّ القائل يقول: «لو كان هذا من ذرّيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لرحم»، ويعلم من هذا القول أنّ هذا الشخص يعتقد ويؤمن بأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان رحيماً؛ ولكنّه في الوقت نفسه لا يعتقد قطعاً بإمامة الإمام صاحب العصر والزمان أرواحنا لمقدمه الفداء، ولذلك يقوم بالاعتراض ومخالفة الأعمال الّتي يقوم بها الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، وهذه قرينة صريحة بأنّ عمليّة القتل تكون بين هؤلاء الأعداء.
والآن نعود إلى أصل الموضوع، ونستمرّ في الحديث حول ترويض الحيوانات الوحشيّة، والّتي صرّحت بها الرّوايات الواردة عن بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، وعلى ضوءها، فإنّ التّحوّل والتّغيّر سيطرأ على الجهاز الهضمي للحيوانات المفترسة، وتنتقل من أكلة اللحوم إلى أكلة النّباتات والأعشاب.
ومن خلال هذا الأمر يتّضح أنّه تسلب منها حالة الافتراس وإراقة الدّماء، فتأمن حاجتها من الغذاء بواسطة أكلها للأعشاب والخضار.
يقول الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): تصطلح في ملكه السباع(٢٥).
ويقول الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): إصطلحت السباع والبهائم(٢٦).
وتجدر الإشارة إلى أنّ تحمّل هكذا قضايا ومسائل، أمر صعب على أشخاص تطبعت قلوبهم وتناغمت مع عصرنا الحاضر، ولا يرون أبعد من قدمهم؛ ولكن هذا الأمر يمكن هضمه وفهمه من قبل الأشخاص الّذين ينظرون إلى القضايا المستقبليّة للعالم نظرة ثاقبة وفاحصة؛ لأنّهم يعلمون جيّداً أنّ التّغيّرات والتّحوّلات أمر لابدّ منه وحاصل لا محال، وسوف تضع بصماتها وتأثيراتها العجيبة على الكرة الأرضيّة، فتسبب التطوّر والتّكامل لدى جميع الموجودات.
ونظراً لهذه الحقيقة، إذن؛ ما هو البُعد والعامل الكامن وراء تمكّن الإنسانيّة وبعد تقوية إرادتها وقابليّتها فتكون قادرة على طلب ما تريد، فتضحى الحيوانات نفسها منصاعة لها؟!
إنّ من الواضح، فإنّه وكما كانت النّظرة العظيمة للشّيخ البهائي رحمه الله والأشخاص العظماء من أمثاله قادرة على تبديل النّحاس إلى ذهب، فإنّ الإنسانيّة تستطيع في اليوم الّذي تتكامل فيه عقولها من بسط وإعمال إرادتها على الحيوانات، والّتي هي بدورها صاحبة شعور وإحساس.
غير أنّنا علينا أن نفهم حقيقة وهي: إنّنا إذا اعتقدنا أنّ هناك تطابق وتشابه بين النّاس في ذلك العصر والنّاس في عصرنا هذا، فإنّ قبول هذا الموضوع يكون أمراً مستحيلاً؛ ولكن كما بيّنا سابقاً أنّ ذلك الزّمان هو زمان تكامل العقول وزيادة قدرات وطاقات الإنسانيّة، ونتّجه لهذه الحتميّة، فإنّ قبول تلك التّحوّلات والتّغيّرات يكون سهلاً ومقبولاً.
التصرّف في الأدمغة والأجهزة العصبيّة للحيوانات
نحاول نذكر حادثة وقعت في زماننا الحاضر، وذلك من أجل تقريب الموضوع إلى الأذهان، ولتكون دليلاً على إمكانيّة التصرّف وتحوّل الحيوانات، ليتّضح أنّ إجراء العدالة الّتي تحدّثنا عنها تطلب حصول تغيّر في وجود الحيوانات، وهذا العمل يحدث بسهولة حينما يكون هناك تصرّف في أدمغة الحيوانات وأجهزتها العصبيّة.
بالطبع يجب العناية أنّنا لن نحتاج إلى ذكر هذه الحادثة والّتي وقعت في عصر الغيبة المظلم، لكي نثبت حصول التغيّرات العجيبة الحاصلة في عصر الظّهور المشرق، والاستدلال بها، ولكنّنا أوردناها هنا من أجل توضيح الموضوع وتقرّبها إلى بعض الأشخاص الّذين غرّتهم الأموال والإغراءات، الّتي منحها لهم غاصبوا الحكومة الإلهيّة.
وانطلاقاً من النقطة هذه، إليكم هذه الحادثة:
أقدم رجل يدعى «دل كادو» على عرض مثير ومخيف في آن واحد. وبدأت القصّة حينما فتحت باب حديديّة ضخمة، فخرج منها ثور كبير هائج، فذهب بشكل مباشر صوب «دل كادو»، وأختار أخطر منطقة في جسمه.
هنا حبست أنفاس الاُلوف من المشاهدين والمصورّين والمراسلين الّذين احتشدوا للتّمتّع بهذه المسابقة المثيرة، وكأنّ على رؤوسهم الطير، وكان الصوت الّذي يسمع فقط هو صوت أقدام هذا الثور الهائج وسط الميدان.
فكان الكلّ يترقّب لحظة قذف «دل كادو» إلى الأعلى أو يدخل الثور قرنه في صدره، وكان هذا الشخص لا يرتدي ثياب مصارعي الثيران الّتي تلبس عادتاً في هكذا مسابقات، ولم يكن بيده قطعة حمراء وكلّ ما كان يحمل هو حقيبة سوداء صغيرة، فيها جهاز لاسلكي نصبت عليه بعض النّقاط، فوصل ذلك الثور الهائج وبسرعة فائقة إلى مسافة عشرة أقدام منه، فتسمر الجميع وهم يراقبون ماذا يجري بعد ذلك، ولم يبق سوى لحظات ليقتل هذا الثور الهائج ذلك الرجل، ولا يعلم أيّ من الحاضرين ما هو المفروض عمله.
هنا ضغط «دل كادو» أحد الأزرار الّتي كانت موضوعة على الجهاز. فتوقّف الثور في تلك اللحظة، وأخذ ينظر إلى «دل كادو»، ويتراجع إلى الوراء ببط وهو حزين كئيب إلى أن دخل إلى المكان الّذي خرج منه.
وكان المشاهدون خائفين من عودته مرّة اُخرى، ولكن لم يحدث هذا الأمر، وملخّص ما فعله «دل كادو» أنّه قام بتوصيل سلك رقيق بدماغ الثور من جهة، وأوصل الطرف الآخر منه بتلك المرسلة، فأصدر من خلاله دستور الرجوع والعودة، ودستور العودة هذا لم يرسله من خلال تنظيم مقدار الكهربائيّة فحسب؛ وإنّما استطاع تبديل الإحساس بالعصبيّة إلى هدوء وعدم اعتناء.
ولمّا وصل الثور إلى نهاية الميدان، شاهد الجميع أنّ «دل كادو» أخذ يتلاعب بالأزرار مرّة اُخرى، فأخذ الثور ينظر إليه فانتابته حالة من الغضب من جديد، وتحرّك هذه المرّة بسرعة تفوق السرعة السابقة، ولم يكترث «دل كادو» من ذلك، وأخذ يتمشّى وظهره خلف الثور وهو في غاية الهدوء والاطمئنان، ولا يسمع سوى حركة أقدامه، وقبل الوصول إليه بلحظات ضغط الزرّ المخصوص، فوقف وأخذ يرجع ثانياً.
فتعالت صرخات المشاهدين، ولكنّ الثور بقي هادئاً وتكرّرت هذه التجربة مرّات عديدة، وأثبت هذا الرجل أنّه يمكن السيطرة على حركات واردة الحيوان من خلال الإثارة الكهربائيّة، وأجبره على عمل مخالف لإرادته ومشيئته(٢٧).
ويمكن حصول هذه العمليّة بواسطة تخدير الحيوان وزرقه إبرة، ومن ثمّ رفع جلد رأسه بواسطة مبضع حادّ وثقب عظمة جمجمته أيضاً بمبضع ظريف، ثمّ إدخال سلك وربطه بالدماغ، وإخراجه من الجلد، وبعد ذلك يضمد مكان العمليّة حتّى تمحى آثارها.
ومن ثمّ يوصل السلك بمرسلة تعمل بالبطارية تستقبل الأمواج، ووظيفة هذه المرسلة هي إثارة دماغ الحيوان من خلال إرسال مقدار من الطّاقة الكهربائيّة إلى دماغه فتحرّكه، وبهذا الطريقة يتمكّن الإنسان السيطرة والتحكّم بسلوك الحيوان كيفما يشاء، والتأثير عليه أكثر من نفس الطبيعة(٢٨).
وفي سنة ١٩٦٠ م اكتشفت مجموعة من الباحثين طريقة يمكن من خلالها إيجاد وإحداث دائرة إلكترونيّة في الخارج، عملها إثارة الدّماغ، وذلك بدون إدخال أقطاب كهربائيّة فيه، وتمّ إنجاز التّجارب الحاصلة من الإثارة الكهربائيّة بطريقة سهلة وغير معقدة(٢٩).
قوى أقوى من القدرة الكهربائيّة
لو اطّلعنا على عصر الظّهور والّذي هو مرحلة التّكامل العقلي وتحقّق الإرادة، لوجدنا أنّه ليس هناك حاجة إلى إجراء أيّ عمليّة جراحيّة، وإدخال الأقطاب الكهربائيّة في الدماغ، باعتبار أنّ هناك قوّة وقدرة ستبسط ظلالها على المبسوطة، هي أقوى وأفضل من الكهربائيّة على الإطلاق، ولا يمكن قياسها بها، ألا وهي تلك الأمواج المنبعثة من أنوار الولاية، حيث تترك أثرها الفعّال على جميع الأشياء والموجودات، وتوجب ذلك التحوّل العجيب.
ويصرّح الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن تلك التحوّلات الحاصلة في الدّماغ والجهاز العصبي للحيوانات في ذلك العصر فيقول: (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
يقول الرجل لغنمه ولدوابّه: اذهبوا فارعوا في مكان كذا وكذا وتعالوا ساعة كذا وكذا، وتمرّ الماشية بين الزرعين لا تأكل منه سنبلةً ولا تكسر بظلفها عوداً، والحيّات والعقارب ظاهرة لا تؤذي أحداً ولا يؤذيها أحد، والسبع على أبواب الدور تستطعم لا تؤذي أحداً...(٣٠).
وعلى أساس الرّوايات الّتي جاءت حول تكامل وتطوّر أحاسيس وشعور الحيوانات، فإنّ الدّوابّ ستكون لها القدرة على درك وفهم الأوامر الصادرة من النّاس، وما يريده صاحبها منها وإطاعته.
ولهذا السبب فإنّ الغنم والدّوابّ سترعى بدون الحاجة إلى الشّخص الّذي يرعاها، وتكون وظيفته تعيّن الزّمان والمكان فقط، وستكون وحدها قادرة على الذّهاب إلى المرعى المعيّن لها من دون أيّ تخلّف، وطبقاً للأوامر الّتي صدرت إليها من صاحبها، وترجع في الوقت الّذي حدّد لها أيضاً.
إنّ الكلام بين الإنسان والحيوان ليس أمراً غريباً؛ بل إنّ التاريخ وأرباب السيرة نقلوا لنا موارد كثيرة حول تكلّم الحيوانات مع الأنبياء والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) والأولياء الرّبّانيّين.
وحديث الذئب مع أبي ذرّ الغفاري وإخباره عن بعثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ نموذج من ذلك، وأيضاً هذه الرّواية الّتي نقلناه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والّتي فيها حديث الإنسان من الدّوابّ وجعلها من الخصائص الّتي ينفرد بها عصر الظّهور، وهناك أيضاً روايات كثيرة أخرى صرّحت بنفس المضمون هذا.
إنّ الحقيقة القائلة بعدم امتلاك الحيوانات قدراً من العقل والشعور يحتم التصرّف في أدمغتها وجهازها العصبي في عصر الظّهور، باعتبار أنّ التصرّف هذا يوجد الكثير من التغيّرات المهمّة في سلوكها وأعمالها.
ولا شكّ فإنّ الحيوانات خلقت في عالم الخلقة بشكل يجعل التّغيّر في نظامها العصبي سبباً وباعثاً لإبراز ردود أفعال، والقيام بسلوك جديد، ومنشأ ومصدر ذلك هو كلّه نظام الخلقة الإلهي.
سؤال مثير وجواب مهمّ
إنّ من القضايا الّتي وردت في الرّوايات والأحاديث الّتي جاءت على لسان أهل الوحي والرسالة (عليهم السلام) وتمّ توضيحها في هذا الكتاب، هو خروج القدرات العقليّة للإنسان من القوّة إلى الفعليّة ومضاعفتها في عصر الظّهور المتألّق، على اليد المباركة للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه).
وهنا يطرح السؤال التالي: كيف تحصل هذه التّحوّلات والتّغيّرات في الحيوانات، ومدى مقدار التّصرّف في جهازها العصبي ومساحة التّطوّر الحاصل في شعورها؟ صحيح أنّ الإنسانيّة تصل إلى التّكامل العقلي وتزداد قدراتها الرّوحيّة والمعنويّة بواسطة اليد المباركة للإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، ولكن كيف يتمّ هذا الموضوع في الحيوانات؟
نقول في صدد الإجابة على هذا السؤال: أنّ الفيروسات الشيطانيّة المتغلغلة في أدمغة البشريّة ستهلك بالتأكيد وتذهب بلا رجعة، بواسطة اليد الشافية والمعافية للإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه)، وتتفتّح آفاق عقولهم وتزدهر وتتطوّر قدراتهم، ومن ثمّ تأتي مرحلة العمل بها، ولكن يجب الالتفات إلى نقطة مهمّة للغاية، وهي: إنّ هذا التّكامل الحاصل في الإنسانيّة والوصول إلى كلّ تلك القدرات العجيبة له عوامل مختلفة ومتعدّدة منحصرة كلّها في شخص الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، واحد تلك العوامل هي اليد المباركة له (عجّل الله تعالى فرجه).
وهناك عوامل أساسيّة اُخرى تطفو على السّطح في ذلك العصر، وهذه العوامل لا تحدث التغيّر في المجتمع الإنساني، وإنّما قادرة على إيجاد التغيّر والتحوّل العجيب في جميع الموجودات الموجودة في الكون.
النّور السّاطع للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه
وواحدة من العوامل الاُخرى والمهمّة في عمليّة التغيّرات والتحوّلات، هي الإشعاعات المنيرة للأنوار البهيّة للإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) حيث تملأ الكون كلّه، الأمر الّذي يجعل النّاس في غنًى حتّى عن الشّمس.
وكما أنّ نور الشمس له التأثير المباشر واللازم والحياتي في عصرنا هذا، فإنّ النور المنبعث من الإمام - الّذي هو نور الله عزّ وجلّ - في ذلك العصر له أثره الواسع في إيجاد التغيّر والتحوّل العظيم في كلّ ذرّة من ذرّات عالم الوجود، فيتغيّر العالم التّرابي إلى عالم طاهر(٣١).
الدّقّة في حياة الحيوانات
إتّضح من خلال الكثير من التّجارب العلميّة، إنّ النّور والضّوء له آثار واضحة وجليّة في حياة الكثير من الحيوانات، ونحن نتطرّق هنا إلى بحث موضوع حياة الحيوانات بشكل موجز، ثمّ نذكر نموذج واحد منها.
إنّ البحث والدّقّة ودراسة كيفيّة ظهور حياة الملياردات من الحيوانات والتعرّف على أسرار خلقها، يزيد القوّة الإيمانيّة بخالقها.
وكما أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوضح أنّ خلق الإنسان والأرض هي آثار من قدرته اللامتناهيّة، فإنّ الحيوانات كذلك هي جزء من هذه القدرة العظيمة. فيقول عزّ من قائل في محكم كتابه: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فيهِما مِنْ دابَّةٍ»(٣٢).
وأيضاً قال سبحانه وتعالى: «وَفي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(٣٣).
ويصرّح البارئ عزّ وجلّ في سورة «الأنعام» حول اجتماعهم فيقول: «وَما مِنْ دابَّةٍ في الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطيرُ بِجَناحَيْهِ إِلّا اُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْء ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ»(٣٤).
يبيّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الحياة الجماعيّة للحيوانات، وكيف أنّها تعيش مجاميع مجاميع.
وبالطبع فإنّ هذه الدقّة في حياتها تثبت وتحكم أواصر الإيمان والاعتقاد لدى الإنسان، حول وجود الخالق والقادر.
ونحن بدورنا ننقل مثالاً صغيراً حول الحياة الجماعيّة للحيوانات، وفيه دلالة واضحة على ذلك وأنّ طول اليوم وزيادة أشعّة الشّمس له دور مؤثّر وفعّال على النّظام العصبي لها، ويجعلها تبرز ردود أفعال حيال ذلك، ممّا يؤدّي في النّهاية إلى حصول التغيّر في حياتها.
«إنّ الملايين من الطّيور تهاجر بشكل جماعي في أواخر فصل الصيف، وتترك موطنها الأصلي، وتتّجه صوب المناطق الّتي يكون في الهواء حارّاً في فصل الشّتاء، ثمّ ترجع هذه الملايين في ربيع السّنة المقبلة إلى وطنها الأصلي ويبدأون عمليّة التّكاثر.
إنّ بعض الطّيور المهاجرة تقطع في كلّ سنة مسافة أكثر من ٣٢ ألف كيلومتراً، ولكنّها تعثر وبسهولة على مكانها الأصلي، وترجع إليه بشكل خارق للعادة، وترجع بعض هذه الطّيور بشكل مفرد، وبعضها يرجع بشكل جماعي.
تبدأ عمليّة مهاجرة الطيور عندما يطول النّهار، باعتبار أنّ هذا الموضوع يؤثر على جهازها العصبي، فحينما يقصر النّهار، فإنّها تتسلّم إيعازاً عصبيّاً خاصّاً يدفعها إلى التّوجّه صوب المناطق الحارّة، وحينما تطول مدّة النّهار يتمّ إرسال إيعاز آخر إلى الدماغ يكون سبباً لعودتها إلى وطنها الأصلي»(٣٥).
ندعو البارئ عزّ وجلّ التعجيل في بزوغ النور المشع والبهيّ للإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه)، لكي يحدث ذلك التّغيّر والتّحوّل المرتقب، لتبدأ ذرّات وجود الإنسانيّة والحيوانات والنّباتات والجمادات حركة جديدة في مسيرة التّطوّر والتّرقّي.

٢ - القضاء

بحث حول القضاء
من الطبيعي فإنّه وبعد انهزام واندحار جبهة المنافقين والكفّار وهلاك الظّالمين والمستكبرين، وإقامة الحكومة الإلهيّة العادلة في المعمورة كلّها، هذه الأحداث تتبعها رفع قضايا ضدّ هؤلاء، ليعود الحقّ إلى نصابه.
وذلك باعتبار أنّ رفع حالات الظّلم والجور من العالم لا يكون فقط بهلاك الحكّام والملوك الّذين تسلّطوا على رقاب شعوبهم، وقاموا بالتفنّن في استخدام أنواع وشتّى أقسام الظّلم والجور؛ بل إنّ من مقتضيات العدالة ومصاديقها أن يحاسب الظّالمين حتّى وإن ظلموا شخصاً واحداً قدر أنملة، كي لا يبقى أحدا مظلوماً.
ومن البديهي فقد يعتقد الكثير من الأشخاص الّذين إقترفوا الظّلم ضدّ بني جلدتهم أنّهم ليسوا بظالمين، ويعتريهم نوع من الاستكبار والتعنّت، لذا فإنّهم غير مستعدّين لقبول ما جنوه ضدّ غيرهم، وهذا الموضوع يؤدّى إلى بروز الاختلاف بين الظّالم والمظلوم. وذلك باعتبار أنّ الظّالم يعطي مبرّرات وحججاً لتبرير ما قام به ويمنحه صبغة الحقّ، بينما يرى المظلوم أنّه هو الظّلم بعينه، ففي الواقع فإنّ أحدهم يرى نفسه ظالماً والآخر مظلوماً.
ففي هذه الموارد لا يوجد أيّ اختلاف في نوعيّة وطبيعة العمل بين طرفي النّزاع، ولكنّ النّزاع قائم بينهما في أنّ نفس هذا العمل كان ظلماً أم لا؟ ففي هذه الحالة ينكر الظّالم بعض حالات الظّلم الّتي قام بها ويرفضها رفضاً قاطعاً، وهذا نموذج للاختلاف بين الطّرفين أو بين مجموعتين.
ففي هذه الموارد تكون هناك حاجة ماسّة إلى جهاز قضائي متمرّس لديه كلّ وسائل المعرفة الواسعة والعلم الشامل، ليتمّ من خلاله وبواسطته إنصاف المظلوم من الظالم.
ومن الطبيعي فإنّه - في الكثير من الأحيان - يعجز كلا الطرفين عن الإتيان بشاهد ودليل من أجل إثبات قضاياهم، ففي هذه الحالة وحسب المسائل الفقهيّة يحال هذا الأمر إلى عمليّة اليمين، فيحلف المنكر كذباً وبهتاناً، ممّا يؤدّي إلى ضياع حقّ الآخر، وكذلك فإنّه من الممكن ضياع حقّ صاحب الحقّ من خلال إقامة البيّنة غير الواقعيّة.
وعلى أيّ حال، فإنّ القضاء - الّذي نهايته القسم والحلف – لا يستطيع في كلّ وقت وفي أيّ مكان وحال أن يرجع الحقّ إلى صاحبه وأن يزيل كابوس الظّالم عن المظلوم.
عظمة القضاء في بداية الظّهور (٣٦)
كما قلنا آنفاً فإنّ بداية حكومة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) تكون مصحوبة لعمليّة تطهير واسعة وإعلان الحرب الصريحة ضدّ الظّلم والجور، ولهذا السبب فإنّ الجهاز القضائي يجب أن يتمتّع بأعلى مستويّاته، حتّى يتسنّى له إجراء الحكم العادل والصحيح واستيفاء حقّ المظلومين واسترجاعه من الظّالمين.
ومن المثير للعجب، أنّ الحكم والقضاء في عصر الظّهور العظيم - وطبقاً للرّوايات الواردة - سيكون على أساس الحقائق وعدم المراهنة بشكل من الأشكال على الظنّ، وسوف يحظى الأشخاص الّذين يعينهم الإمام (عليه السلام) لتولّي منصب القضاء بين النّاس إلى نوع من الإمدادات والتّسديدات الإلهيّة الغيبيّة. ونظراً لتكاملهم العقلي وتهذيب أنفسهم ووصولهم إلى قمم السّجايا الإنسانيّة والفضائل الرّوحيّة، لا يظلمون فتيلاً، وليس للظّالمين عليهم سبيلاً.
فهؤلاء يرون أنفسهم في محضر البارئ عزّ وجلّ ومحضر صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء، لهذا فإنّهم يصدرون حكم الحقّ كما يلزم، ولا يخافون في الله لومة لائم.
ومن النّقاط المثيرة الأخرى هي: أنّ النّاس أنفسهم وبعد أن تكاملت عقولهم ستكون لديهم حالة من الوعي المسؤول لقبول الحكم العادل، وهذه هي من ضروريّات ولوازم حكومة العدل الإلهي للإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه).
وسوف يتمتّع القضاة في ذلك الزّمان بخصلتين مهمّتين هما: الأولى: البناء الذاتي. والثانية: الإمداد الغيبي، وعن طريق تنفيذهم الحكم الصحيح يطفئون نار الفتن، ويقلعون جذور الظّلم والجور، ويحكمون على أساس العدالة والحق.
وإنّ من مصاديق الظّلم والجور الّتي ستقلع جذورها من الأساس، هي الأحكام الظّالمة والّتي كانت قد نفذت على أساس الأغراض والميول الشخصيّة.
ومهما يكن فإنّ القاضي إذا لم يبن نفسه ويسلحها بالمبادئ والقيّم السّماويّة ولا يرى نفسه في محضر الله سبحانه وتعالى، فإنّه على استعداد لإصدار حكم لا يقلع فيه جذور الظّلم والجور فحسب؛ بل سيساعد على تقويتهما ورشدهما. وإليكم قصّة في هذا المضمون:
«دفن رجل يوماً كلبه في إحدى مقابر المسلمين، فألقي القبض عليه وجيء به إلى القاضي، وبما أنّ القاضي كانت له عداوة مسبقة مع هذا الشّخص فقد رفض التّحدّث معه، ولكن أصرّ الرجل على الحديث مع القاضي، فأصدر القاضي أوامره بالتّحدّث والاستماع إليه.
فبدأ المجرم الكلام، فقال: أيّها القاضي؛ لمّا حان أجل الكلب ظهر عليه أمر عجيب؛ حيث بدأ الكلام فجأة حاله حال كلّ إنسان، فناداني وأوصاني وأسرّ إليّ، فقال:
إنّني ورثت صرّة من الذهب وأخفيتها تحت الصّخرة الفلانيّة في الصّحراء، فاذهب وأخرجها ما دمت حيّاً، وأمّا إذا متّ فإدفنّي بجوار الصّالحين، وإدفع بنصف الذّهب إلى أحد قضاة المسلمين ليصرفها في اُمور الخير، ويدعو لي بالخير والغفران فيخفّف عنّي العذاب.
أيّها القاضي؛ وبما أنّني رأيت منه هذه المعجزة، فقد حصلت لي حالة من الاطمئنان والتّصديق بكلامه، فذهبت مسرعاً وأخرجت الذّهب وها هو الآن عندي.
فوقع الطّمع في قلب القاضي فقال: سبحان الله؛ لقد كان في هذا الحيوان شبه بأجداده من كلاب أصحاب الكهف، ولهذا فلا مانع في دفنه في هذا المكان ولا حرج عليك، ألم يقل المرحوم شيئاً آخر؟!»(٣٧).
وهذه قصّة لأحد القضاة الّذي أصدر حكماً يتنافى مع كلّ الأعراف والموازين الشّرعيّة والعقليّة؛ حيث هذا هو واحد من الأشخاص الّذين لم يبنوا القدير، فلذا فهو على استعداد لإصدار أيّ حكم يصبّ في خانته حتّى وإن كلّفه ذلك أخذ الرّشوة.
إذن؛ وكما ذكرنا في بداية هذا الموضوع، يجب أن يكون هناك المام ومعرفة واسعة وعلم شامل في القضاء، حتّى لا يستمرّ الظّلم والجور في العالم، ويقع تحت وطأة الكذب وتبعاته.
وهنا يوجد إحساس وشعور بالحاجة إلى الإمداد الغيبي والقوى المعنويّة، لكي يتمكّن من رفع كلّ حواجز الجور - مع وجود البيّنة الكاذبة واليمين الكاذب - وكسر كلّ السّدود الّتي تقف حائلاً دون ذلك.
ونستخلص من هذا كلّه، أنّه إذا كان من غير الممكن اجتثاث الموانع والحواجز الّتي وضعها الظّالمون في عصر الظّهور، إذن؛ ما هو الفرق بينه وبين عصر الغيبة المظلم؟ وكيف يمكن لنا أن نسمّي ذلك العصر بعصر حكومة العدل والعدالة، وهلاك الظّلم والظالمين؟!
القضاء على أساس الظنّ والتخمين
لا شكّ في أنّ علم النّاس ومعرفتهم واستعدادهم لإجراء وتطبيق العدالة في ذلك الزّمان سيتضاعف ويصل إلى المراحل العليا، ولهذا السّبب فإنّه لا يصدر أيّ حكم على أساس الظّنّ والاحتمال والفهم الشّخصي، وذلك باعتبار أنّ الاعتماد على حالة الظّنّ تتقاطع مع الحكومة العادلة قطعاً.
إنّ الحكومة العادلة إنّما هي تلك الحكومة الّتي تنتهج منهاجاً مبنيّاً على الأساس العلميّ المطابق للواقع، وإلاّ كيف ترى أنّ الحكم الصادر عن طريق الظنّ - والّذي من المحتمل أن يكون خلافاً له - واقعيّاً وعادلاً؟!
وعلى ضوء ذلك، ونتيجة لعدالة الحكومة الحاكمة في ذلك الزمان، لذا فإنّ كلّ حكم لا يخرج عن كونه ضمن دائرة العدالة ومطابق للواقع وتمّ إصداره على أساس العلم واليقين، وليس الشكّ والظّنّ.
يقول أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):

 

ليس من العدل، القضاء على الثّقة بالظّنّ(٣٨).
إنّ الّذي يمكن استنباطه من هذا الحديث هو: وصول النّموّ الفكري والعلمي فيه إلى أعلى درجاته، ولا يصدر أيّ حكم إلاّ على أساس العلم والمعرفة اليقينيّة؛ حيث هذا الموضوع هو من ضروريّات ومستلزمات الحكومة العادلة.
ويمكن الاستفادة من الرّوايات الواردة في هذا الباب، أنّ الحكم القائم على أساس البيّنة واليمين في بعض الموارد لا يجلب معه العدالة؛ وإنّما يكون وسيلة لضياع حقوق الآخرين.
ومن أجل توضيح هذا الأمر إليكم هذه الرّواية:
يقول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم أَلْحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً يعلم أنّه ليس له، فإنّما أقطع له قطعة من النّار(٣٩).
والظاهر من هذه الرّواية: أنّ البيّنة واليمين ليس بالضرورة أن تطابق الواقع وتصيبه دائماً، ولذلك فإنّه إذا لم يمكن إجراء العدالة وتنفيذها في هكذا موارد، يجوز العمل على أساس الحكم الظّاهري.
الفراسة والكياسة في القضاء
من الضروري أن يتمتّع القاضي حتّى في زمان غيبة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) وبالإضافة إلى العلم بالأحكام القضائيّة وتحلّيه بالعدالة، عليه أن يتحلّى بالفراسة والكياسة أيضاً؛ كي يتمتّع برؤية شفافة تمكنه من كشف البيّنة غير الحقيقية واليمين الكاذب، والاعتماد على لغة الحقائق. ومع الأسف الشديد فإنّ هذه القضيّة لم تراع منذ أن عرف الإنسان القضاء وحتّى زماننا الحاضر بالشّكل المطلوب والمناسب.
وكما أنّ هناك حقيقة يجب الإشارة إليها، وهي: إنّ على القاضي أن يأخذ الدّروس والعبر في الكثير من القضايا والأحكام من الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؛ حيث أنّ الكثير من الحقائق يمكن كشفها من خلال الفراسة والكياسة، بدون أن تصل النوبة إلى الشّاهد واليمين.
ويستطيع القاضي الاستعانة بالبيّنة واليمين عندما يصل إلى الطّريق المسدود، ولا يوجد أمامه أيّ منفذ أو علامة تلوح في الأفق للحصول على الحقيقة.
تعلم القضاة القضاء من أمير المؤمنين (عليه السلام)
من الحقائق الّتي أشار إليها التاريخ، هو توبيخ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قاضيه «شريح» بعد أن قام بإصدار حكم لصالح أطراف منكرة بعد أدائهم اليمين عن أنفسهم، وعدم سعيه إلى إجراء أيّ تحقيق وتفحّص في القضيّة هذه، فقال (عليه السلام):
يا شريح؛ هيهات! هكذا تحكم في مثل هذا؟!(٤٠)
وقام المرحوم العلاّمة المجلسي بنقل هذه الرّواية في كتابه «بحار الأنوار» في المجلّد الرابع عشر، ونقلها في الجزء الأربعين باختلاف قليل أيضاً وهي:
إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل ذات يوم المسجد، فوجد شابّاً يبكي وحوله قوم. فسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عنه، فقال: إنّ شريحاً قضى عليّ قضيّة لم ينصفني فيها.
فقال: وما شأنك؟
قال: إنّ هؤلاء النّفر - وأومأ إلى نفر حضور - أخرجوا أبي معهم في سفر فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله الّذي استصحبه. فقالوا: ما نعرف له مالاً، فاستحلفهم شريح وتقدّم إليّ بترك التّعرّض لهم.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لقنبر: أجمع القوم، وادع لي شرطة الخميس(٤١).
ثمّ جلس ودعا النفر للحديث معهم، ثمّ سأله عمّا قال، فأعاد الدّعوى وجعل يبكي ويقول: أنا والله أتّهمهم على أبي يا أمير المؤمنين، فإنّهم احتالوا عليه حتّى أخرجوه معهم، وطمعوا في ماله.
فسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) القوم، فقالوا كما قالوا للشريح: مات الرّجل ولا نعرف له مالاً.
فنظر أمير المؤمنين (عليه السلام) في وجوههم، ثمّ قال: ماذا تظنّون؟! أتظنّون أنّي لا أعلم ما صنعتم بأب هذا الفتى؟ إن كان هكذا فإنّي لقليل العلم.
ثمّ أمر بهم أن يفرّقوا في المسجد، وأقيم كلّ رجل منهم إلى جانب اسطوانة من اسطوانات المسجد، ثمّ دعا عبيد الله بن أبي رافع كاتبه يومئذ فقال له: إجلس، ثمّ دعا واحداً منهم. فقال له: أخبرني ولا ترفع صوتك: في أيّ يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الغلام معكم؟
فقال: في يوم كذا وكذا.
فقال لعبيد الله بن أبي رافع: اُكتب.
ثمّ قال له: في أيّ شهر؟ قال: في شهر كذا.
قال: اُكتب. ثمّ قال: في أيّ سنة؟
قال: في سنة كذا. فكتب عبيد الله بن أبي رافع ذلك.
قال: في أيّ مرض مات؟ قال: بمرض كذا.
قال: في أيّ منزل مات؟ قال: في موضع كذا.
قال: من غسّله وكفّنه؟ قال: فلان.
قال: فبمَ كفّنتموه؟ قال: بكذا.
قال: فمن صلّى عليه؟ قال: فلان.
قال: فمن أدخله إلى القبر؟
قال: فلان، وعبيد الله بن أبي رافع يكتب ذلك كلّه.
فلمّا انتهى إقراره إلى دفنه، كبّر أمير المؤمنين (عليه السلام) تكبيرة سمعها أهل المسجد. ثمّ أمر بالرجل فردّ إلى مكانه ودعا بآخر من القوم، فأجلسه بالقرب منه، ثمّ سأله عمّا سأل الأوّل عنه، فأجاب بما خالف الأوّل في كلامه كلّه، وعبيد الله بن أبي رافع يكتب ذلك، فلمّا فرغ من سؤاله كبّر تكبيرة سمعها أهل المسجد.
ثمّ أمر بالرّجلين جميعاً أن يخرجا من المسجد إلى السّجن فيوقف بهما على بابه.
ثمّ دعا بالثّالث فسأله عمّا سأل الرّجلين، فحكى خلاف ما قالا، وأثبت ذلك عنه، ثمّ كبّر وأمر بإخراجه نحو صاحبيه، ودعا برابع القوم، فاضطرب قوله وتلجلج، فوعّظه وخوّفه، فاعترف أنّه وأصحابه قتلوا الرّجل وأخذوا ماله وأنّهم دفنوه في موضع كذا وكذا بالقرب من الكوفة.
أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) به إلى السّجن، واستدعى واحداً من القوم وقال له: زعمت أنّ الرّجل مات حتف أنفه وقد قتل، أصدّقني عن حالك؟ وإلاّ نكلت بك، فقد وضح الحقّ في قصّتكم.
فاعترف من قتل الرّجل بما اعترف به صاحبه، ثمّ دعا الباقين فاعترفوا عنده بالقتل، وأظهروا النّدامة، واتّفقت كلمتهم على قتل الرّجل وأخذ ماله.
فأمر (عليه السلام) من مضى معهم إلى موضع المال الّذي دفنوه، فاستخرجوه منه وسلّموه إلى الغلام ابن الرّجل المقتول، ثمّ قال له: ما الّذي تريد قد عرفت ما صنع القوم بأبيك؟
قال: اُريد أن يكون القضاء بيني وبينهم بين يدي الله عزّ وجلّ، وقد عفوت عن دمائهم في الدّنيا.
فدرأ أمير المؤمنين (عليه السلام) حدّ القتل عنهم، وأنهكهم عقوبة.
فقال شريح: يا أمير المؤمنين؛ كيف هذا الحكم؟
فقال له:
إنّ داود (عليه السلام) مرّ بغلمان يلعبون وينادون بواحد منهم ب«مات الدّين».
قال: والغلام يجيبهم. فدنا داود (عليه السلام) منهم فقال له: يا غلام؛ ما إسمك؟
فقال: إسمي «مات الدّين».
قال له داود: من سمّاك بهذا الإسم؟
قال: اُمّي.
فقال داود: أين اُمّك؟
قال: في منزلها.
قال داود: إنطلق بنا إلى اُمّك. فانطلق به إليها فاستخرجها من منزلها، فخرجت فقال لها: يا أمة الله؛ ما اسم إبنك هذا؟
قالت: إسمه «مات الدّين».
قال لها داود (عليه السلام): ومن سمّاه بهذا الإسم؟
قالت: أبوه.
قال لها: وما كان سبب ذلك؟
قالت: أنّه خرج في سفر له مع قوم وأنا حامل بهذا الغلام، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات. فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما ترك مالاً. فقلت: ما أوصاكم بوصيّة؟ قالوا: نعم؛ يزعم أنّك حُبلى، فإن ولدت جارية أو غلاماً فسمّيه «مات الدّين»، فسمّيته كما وصّى ولم أحبّ خلافه.
فقال لها داود (عليه السلام): فهل تعرفين القوم؟
قالت: نعم.
قال: إنطلقي مع هؤلاء يعنى قوماً بين يديه، فاستخرجيهم من منازلهم. فلمّا حضروا حكم فيهم بهذه الحكومة، فثبت عليهم الدّم واستخرج منهم المال، ثمّ قال لها: يا أمة الله؛ سمّي إبنك هذا ب«عاش الدّي»(٤٢).
نستفيد من الرّواية: أنّ اعتماد «شريح» على يمين المنكرين كان خطأً، وأدّى إلى إصدار حكم غير صحيح، وضياع الحقّ عن أهله.
النّبيّ داود والنبيّ سليمان (عليهما السلام)
بالطبع وكما هو واضح وجليّ، فإنّ الحكم في عصر استقرار الحكومة الإلهيّة سيكون مدعوماً بالإمداد الغيبي، لكيلا يتمكّن شخص بواسطة البيّنة الكاذبة أو القسم الكاذب - الّذي لا حقيقة له - أن يظلم الآخرين، ويثبت الحقّ لنفسه.
وعلى ضوء ما ذكرناه، فإنّ الإمام صاحب العصر والزّمان لا يحتاج في أحكامه إلى أيّ شاهد أو بيّنة، ويعمل حسب علمه، كما عمل من قبله داود (عليه السلام).
وقبل أن ننقل بعض الرّوايات الواردة في هذا الخصوص، نتطرّق إلى بحث نقطة تدور حول النّبيّ داود وسليمان (عليهما السلام):
إنّ هناك بعض الأنبياء (عليهم السلام) قد خصّهم الله سبحانه وتعالى ببعض الصّفات والخصائص الفريدة، جعلتهم يمتزون عن بقيّة الأنبياء الآخرين (عليهم السلام)، ومن هؤلاء النبيّ داود وإبنه النبيّ سليمان (عليهما السلام). حيث يصرّح البارئ عزّ وجلّ في محكم كتابه العزيز:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالَا الْحَمْدُ لله الَّذى فَضَّلَنا عَلى كَثيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنينَ»(٤٣).
وجاء في سورة «الأنبياء» أيضاً: «وَكُلاًّ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً»(٤٤).
وقال البارئ عزّ وجلّ أيضاً في سورة «ص» عن النبيّ داود (عليه السلام): «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ...»(٤٥).
ونفهم من هذا كلّه: أنّ الله سبحانه وتعالى منح عناية إضافيّة وفيوضات جليّة للنّبيّ داود وسليمان (عليهما السلام)، حتّى أنّهم كانوا باستطاعتهم الاطّلاع على وقائع وحوادث لا يعلمها الآخرون.
وعلى هذا الأساس فقد كانت حكومتهم تشهد وتتمتّع بصفات خاصّة، فلهذا كانا (عليهما السلام) لا يحتاجان في أحكامهم إلى الأدلّة والشّهود قطعاً.
بحث روائي
يعتقد البعض أنّ الأحكام الّتي أصدرها النّبيّ داود (عليه السلام) والّتي إستندت إلى الواقع، والّتي لم يرجع بها إلى البيّنة والشهادة، حدثت في مورد واحد أو موارد محدودة.
ولكن يمكن الاستنباط ومن خلال إعمال الدقّة والإمعان في الرّوايات الواردة، أنّ تلك الأحكام الواقعيّة الصّادرة عن النّبي داود (عليه السلام) - دون الاعتماد على البيّنة والشّهادة - لم تقتصر على مورد واحد كما زعم هؤلاء، باعتبار أنّ سبب الاختلاف والنّزاع بين الأشخاص ورجوعهم في الحكم إلى النّبي داود (عليه السلام)، لم يكن شيئاً واحداً. ولأجل شرح هذا الموضوع أكثر، إليكم هذه الرّواية:
ينقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال:
إنّ داود (عليه السلام) قال: يا ربّ؛ أرني الحقّ كما هو عندك حتّى أقْضي بِهِ.
فقال: إنّكَ لا تُطِيقُ ذلك، فألحّ على ربّه حتَّى فعل.
فجاءه رجلٌ يستعْدي على رجل، فقال: إنّ هذا أخذ مالي.
فأوحى الله عزّ وجلّ إلى داود: إنّ هذا المُسْتَعْدي قتل أبا هذا، وأخذ مالَه.
فأمر داود بالمُستعْدي فقُتل فأخذ ماله، فدفعه إِلى المُستعدي عليه.
قال: فعجِب النّاس وتحدّثُوا حتّى بلغ داود (عليه السلام) ودخل عليه من ذلك ما كَره. فدعا ربّه أن يَرفع ذلك، ففعل، ثمّ أوحى الله عزّ وجلّ إليه: أنِ احْكم بينهم بالبيّنات وأضِفْهم إلى اسْمي يَحْلِفُون به(٤٦).
روى هذه الرّواية العلاّمة المجلسي رحمه الله، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن حسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن أبان بن عثمان، عن شخص أخبره. وكما ترون فإنّ أبان بن عثمان ينقل الرّواية بشكل ناقص، وأضف إلى هذا الأمر: كون بعض العلماء الكبار - من أمثال العلامة الحلي رحمه الله – لا يأخذون بروايات «أبان» ويعتبرونه غير مقبولاً وليس بثقة.
إنّ مورد الاختلاف في هذه الرّواية هو المال والثروة. وفي رواية اُخرى فإنّ المشتكى عليه أقرّ بالشّكوى؛ حيث كان يعتقد الشّاكي أنّ هذا الشّابّ دخل إلى بستانه وخرب الكرم، وأنّ الشّابّ قبل ذلك، فحكم داود (عليه السلام) لصالح الشّابّ، ودفع إليه البستان بعد أن عمل بالحكم الواقعي...(٤٧).
وفي رواية اُخرى حيث صرّحت بأنّ النّبيّ داود (عليه السلام) عمل مرّة واحدة على أساس الحكم الواقعي - وليس على أساس البيّنة - في قضيّة حول ملكيّة بقرة، بعد أن إختصم رجلان إليه، فجاء هذا ببيّنة، وجاء هذا ببيّنة...(٤٨).
قضاء أهل البيت (عليهم السلام) والنّبيّ داود (عليه السلام) وكيفيّتهما
هناك بعض الرّوايات الّتي تحدّثت عن حكومة النّبيّ داود (عليه السلام)، وهي دليل على أنّ أحكامه (عليه السلام) كانت لها خصوصيّة لا مثيل لها، وهي عدم احتياجها إلى إقامة بيّنة، وهي نفسها مبيّنة أيضاً كيفيّة قضاء وأحكام أهل البيت (عليهم السلام).
أنظروا إلى هذه الرّواية:
عن الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بما تحكمون إذا حكمتم؟
فقال: بحكم الله وحكم داود، فإذا ورد علينا شيء ليس عندنا تلقّانا به روح القدس(٤٩)؟
وإلى هذه الرّواية عن جعيد الهمداني، وكان «جعيد» ممّن خرج مع الإمام الحسين (عليه السلام) بكربلاء:
قال: فقلت للحسين (عليه السلام): جعلت فداك؛ بأيّ شيء تحكمون؟
قال: يا جعيد؛ نحكم بحكم آل داود، فإذا عيينا عن شيء تلقّانا به روح القدس(٥٠)؟
هذه الرّواية نقلها أيضاً العلاّمة المجلسي رحمه الله عن جعيد، عن الإمام السجّاد (عليه السلام) أيضاً(٥١).
(ونرى أنّ من الضروري التّنويه إلى نقطة وهي: إنّ هكذا إجابات ترتبط بالحالة العامّة والظّروف الّتي كان يمرّ بها النّاس الّذين يستمعون لهذه الرّواية، وإلاّ فإنّ روح القدس هو الّذي يستسقي علومه من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) كما صرّح الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) حين قال في حديث له (عليه السلام): «روح القدس في جنان الصّاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة»)(٥٢).
وورد في رواية اُخرى عن الإمام الصّادق (عليه السلام):
عن حمران بن اعين قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أنبياء أنتم؟
قال: لا. قلت: فقد حدّثني من لا أتّهم أنّك قلت: إنّكم أنبياء؟
قال: من هو أبو الخطّاب؟ قال: قلت: نعم.
قال: كنت إذاً أهجر؟ قال: قلت: بما تحكمون؟
قال: نحكم بحكم آل داود(٥٣)؟
ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية:
... أنّه اتّهم زوجته بغيره فنقر رأسها وأراد أن يلاعنها عندي. فقال لها: بيني وبينك مَن يحكم بحكم داود وآل داود، ويعرف منطق الطّير ولا يحتاج إلى شهود. فأخبرته أنّ الّذي ظنّ بها لم يكن كما ظنّ، فانصرفا على صلح(٥٤).
نستنتج من مجموعة هذه الرّوايات أنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) لا يحتاجون في قضائهم إلى بيّنة، كما كان النّبيّ داود (عليه السلام) كذلك، وأنّ الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، فإنّه يحكم على أساس علمه، ولا يحتاج إلى بيّنة قطعاً.
قضاء الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)
ننقل هنا روايات لها دلالة واضحة على أنّ الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) لا يعول في أحكامه على البيّنة أبداً، كما كان النّبيّ داود (عليه السلام) من قبل.
وانظروا إلى هذه الرّوايات:
في رسالة بعثها حسن بن طريف إلى الإمام العسكري (عليه السلام) سأل فيها عن كيفيّة صدور قضاء الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، يقول الحسن بن طريف:
إختلج في صدري مسألتان، وأردت الكتاب بهما إلى أبي محمّد (عليه السلام)، فكتبت أسأله عن القائم (عليه السلام) بم يقضي؟
فجاء الجواب: سألت عن القائم، إذا قام يقضي بين النّاس بعلمه كقضاء داود (عليه السلام)، ولا يسأل البيّنة(٥٥).
في رواية يقول الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي عبيدة:
يا أبا عبيدة؛ أنّه إذا قام قائم آل محمّد، حكم بحكم داود وسليمان؛ لا يسأل النّاس بيّنة(٥٦).
ويقول أبان: سمعت من الإمام الصادق (عليه السلام) يقول:
لا يذهب الدّنيا حتّى يخرج رجل منّي يحكم بحكومة آل داود لا يسأل عن بيّنة، يعطي كلّ نفس حكمها(٥٧).
ونقلت هذه الرّواية عن أبان أيضاً بهذا المضمون، فيقول: قال الإمام الصّادق (عليه السلام):
سيأتي في مسجدكم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً - يعني مسجد مكّة - يعلم أهل مكّة أنّه لم يلد (هم) آبائهم ولا أجدادهم، عليهم السيوف، مكتوب على كلّ سيف كلمة تفتح ألف كلمة، فيبعث الله تبارك وتعالى ريحاً فتنادي بكلّ وادٍ: هذا المهديّ يقضي بقضاء داود وسليمان (عليهما السلام) لا يريد عليه بيّنة(٥٨).
كذلك يقول حريز: إنّني سمعت عن الإمام الصّادق (عليه السلام) يقول:
لن تذهب الدنيا حتّى يخرج رجل منّا أهل البيت يحكم بحكم داود وآل داود؛ لا يسأل النّاس بيّنة(٥٩).
وروى عبد الله بن عجلان: أنّ الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) لا يحتاج في مقام حكومته إلى البيّنة، وإنّما هو مطّلع على الاُمور الخفيّة الأخرى، ويخبر كلّ قوم عمّا يخفوه في ضمائرهم.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
إذا قام قائم آل محمّد (عليهم السلام) حكم بين الناس بحكم داود لا يحتاج إلى بيّنة، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه، ويخبر كلّ قوم بما استبطنوه، ويعرف وليّه من عدوّه بالتوسّم.
قال الله سبحانه: «إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمينَ × وَإِنَّها لَبِسَبيلٍ مُقيم»(٦٠)،(٦١).
وننقل هنا أيضاً رواية صريحة تقول: إنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) يحكم بحكم داود ولم يذكر فيها أنّه يحتاج إلى بيّنة أو عدمها.
يقول الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في رواية:
... ويخرج الله من صلب الحسن (عليه السلام) قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، له هيبة موسى وحكم داود وبهاء عيسى، ثمّ تلا (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم»(٦٢)،(٦٣).
وننقل لكم رواية أخرى لم يصرّح فيها بشيء عن كيفيّة قضاء النّبيّ داود (عليه السلام)، ولكنّها صرّحت أنّه (عجّل الله تعالى فرجه) في قضائه الخاصّة في الموردين المذكورين لا يسأل عن البيّنة.
يقول الإمام الصّادق (عليه السلام):
دمان في الإسلام حلال من الله عزّ وجلّ لا يقضي فيهما أحد بحكم الله حتّى يبعث الله عزّ وجلّ القائم من أهل البيت (عليهم السلام)، فيحكم فيهما بحكم الله عزّ وجلّ لا يريد على ذلك بيّنة: الزاني المحصن يرجمه، ومانع الزكاة يضرب رقبته(٦٤).
إنّ الرّوايات الّتي أوردناها تصرح بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) لا يحتاج في قضائه إلى شاهد أو بيّنة، ويعمل بعلمه ومعرفته؛ كما كان النّبيّ داود (عليه السلام) لا يسأل في قضائه عن الشّاهد والبيّنة.
وانتخب المرحوم العلّامة المجلسي هذه العقيدة ودافع عنها حين قال: ثمّ اعلم إنّ الظّاهر من الأخبار أنّ القائم (عجّل الله تعالى فرجه) إذا ظهر يحكم بما يعلم في الواقعة لا بالبيّنة، وأمّا من تقدّمه من الأئمّة (عليهم السلام) فقد كانوا يحكمون بالظّاهر، وقد كانوا يظهرون ما يعلمون من باطن الأمر بالحيل، كما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يفعله في كثير من الموارد.
ويقول الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب «المسائل»: للإمام (عليه السلام) أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشّهادات، ومتى عرف من المشهود عليه ضدّ ما تضمّنته الشّهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه، وحكم فيه بما أعلمه الله تعالى(٦٥).
قضاء أصحاب الإمام صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه في عصر الظّهور
في الحقيقة أنّ انتشار ظاهرة العدالة في العالم وقلع جذور الظّلم والجور إنّما تتحقّق وتطبق على أرض الواقع، حينما تكون أحكام القضاة في عصر الظّهور مبنيّة على أساس الحقيقة والواقع، وليس الظاهر، وكذلك سوف يكون اعتمادهم للوصول إلى الحقيقة ودرك الواقع بعينه أعلى من مراتب البيّنة واليمين.
ويتّضح من خلال الرّوايات أنّه في الحكومة العادلة للإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) ليس الإمام وحده لا يحتاج إلى سؤال من الشاهد أو البيّنة المقامة، وإنّما حتّى عامليه في جميع أنحاء المعمورة والّذين عهدت إليهم مسؤوليّة إزالة حالة الفساد والجور واستقرار العدل والإنصاف فيه، فإنّهم يتمتّعون بنوع من الإمدادات الغيبيّة، ولديهم أمور تتجاوز مرحلة البيّنة واليمين، ولا يقعون في أيّ حال من الأحوال في مصيدة وحبائل البيّنة الكاذبة واليمين الكاذب.
وهذه حقيقة بيّنتها لنا الرّوايات الواردة عن كيفيّة القضاء في عصر الظّهور المشرق. فيقول الإمام الصّادق (عليه السلام) حول هذا الموضوع:
إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كلّ إقليم رجلاً، يقول: عهدك في كفّك، فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه، فانظر إلى كفّك، واعمل بما فيها.
قال: ويبعث جنداً إلى القسطنطينيّة، فإذا بلغوا الخليج كتبوا على أقدامهم شيئاً ومشوا على الماء، فإذا نظر إليهم الرّوم يمشون على الماء، قالوا: هؤلاء أصحابه يمشون على الماء، فكيف هو؟
فعند ذلك يفتحون لهم أبواب المدينة، فيدخلونها، فيحكمون فيها ما يشاؤون(٦٦).
ومع أنّ بعضاً من المؤلّفين والكتّاب احتملوا معاني أخرى حول هذا الخبر، خلافاً لما هو ظاهر الرّواية؛ لأنّ الظّاهر صريح على أنّ الشّخص الّذي أرسله الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) لتطبيق حكومته على أقاليم الأرض يتمتّع بالإمدادات الغيبيّة.
وهذا الأمر لا يصدق عليه وحده، بل على جميع الأشخاص الّذين يتشكّل منهم الجيش الّذي تحت أمرته، كما جاء ذلك في أواخر الرّواية عندما صرّحت: أنّ هؤلاء يمشون على الماء بدون أيّ وسيلة ظاهريّة للعيان، وذلك حين يكتبون شيئاً على أقدامهم فقط.
ومع هذا التّوضيح، فلماذا نبرّر ونوجّه الإمدادات الغيبيّة تلك بالأشياء من أمثال الهواتف النقّالة؟!
والملفت للنّظر أن الرّواية صريحة بأنّ القضاة في عصر الظّهور المتألّق يتمتّعون بالإمدادات الغيبيّة، ولديهم من الفهم والإدراك ما ليس موجود لدى بقيّة النّاس.
والآن اُنظروا إلى هذه الرّواية: يقول الإمام الباقر (عليه السلام):
... ثمّ يرجع إلى الكوفة فيبعث الثلاث مائة والبضعة عشر رجلاً إلى الآفاق كلّها فيمسح بين أكتافهم وعلى صدورهم، فلا يتعايون في قضاء...(٦٧)
نستفيد من هذه الرّواية عدّة نقاط، هي:
١ - إنّ الثّلاث مائة وثلاثة عشر من أصحاب الإمام صاحب العصر والّزمان (عجّل الله تعالى فرجه) هم حكّام العالم، وستكون جميع أقاليمه في أيديهم المباركة.
٢ - إنّ الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) هو يد الله سبحانه؛ فحينما يمسح بها على أكتاف وصدور أعوانه وأصحابه، فإنّهم سيتحلّون في حالة من الأمر الغيبي، وتحيط بهم هالة رحمانيّة، ويكونوا بذلك قادرين على إصدار حكم الحقّ في أحكامهم.
٣ - إنّ جميع هؤلاء الثّلاث مائة وثلاثة عشر هم يشكّلون مجموعة الحكومة والقضاة الّذين سيبعثون إلى أنحاء العالم بأجمعه هم من الرجال، كما صرّحت الرّواية بذلك(٦٨).
نقاط خاتمة البحث
والآن نلفت أنظاركم إلى بعض النّقاط المهمّة، وهي:
١ - إنّ هناك روايات متعدّدة صرّحت بأنّ الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) لا يحتاج في قضائه إلى البيّنة أبداً.
٢ - وعلى سبيل الفرض، فإذا كانت هناك روايات دالّة على أنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) لا يستغني عن البيّنة، فهذه الرّوايات غير قادرة على معارضة ومجابهة الرّوايات الصحيحة الأخرى.
٣ - وعلى فرض ورود رواية معارضة للرّواية الاُخرى ومخالفة لها، فهنا يجب الجمع بينهما وعدم طرح أحدها، باعتبار هناك إمكانيّة حمل الرّواية المخالفة - وعلى حسب فرض وجودها - وتطبيقها على الأشهر الأولى من ظهور حكومة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) والّتي تكون غير مستقرّة في بدايتها، ولكن بعد استقرارها وتوزيع جميع أصحاب الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) والبالغ عددهم الثلاث مائة وثلاثة عشر في أصقاع العالم المختلفة ومنحهم الإمدادات الغيبيّة، عندئذ يكونون قادرين على مقابلة التحدّيات القويّة الّتي تواجههم، وعدم الوقوع في مطبات ومتاهات البيّنات الكاذبة.
٤ - ونقول للّذين يزعمون أنّ النّبيّ داود (عليه السلام) حكم مرّة واحدة على أساس الواقع: فهل من المعقول أن ينال حكم واحد حكم به ذلك النّبيّ كلّ ذلك الصّيت وكلّ تلك الشهرة؟
٥ - وعلى فرض أنّ النّبيّ داود (عليه السلام) عمل مرّة واحدة حسب العلم الواقعي له، واشتهرت قضائه هذه الشّهرة الواسعة، فتكون أوجه التّشابه بين قضاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مع قضاء النّبيّ داود (عليه السلام) ناتجة عن تلك الأحكام المشهورة.
٦ - وإذا سلّمنا أنّ النّبيّ داود (عليه السلام) عمل مرّة واحدة حسب علمه الواقعي، فماذا يقولون في مقام الإجابة على الرّوايات الواردة حول النّبيّ سليمان (عليه السلام) والنّبيّ داود (عليه السلام)، وإنّهما حكما بدون السّؤال عن البيّنة؟!
٧ - وكما نقلنا في رواية عن النّبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنّ من الممكن أن يقع الحكم المبنيّ على أساس البيّنة موقع خلاف له، ولا مناص هنا من الانزلاق في غياهب الظّلم والحيف، فكيف يتلاءم هذا الأمر مع الحكومة العادلة للإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)؟!
٨ - فإذا سلمنا وتركنا كلّ هذه الأمور وراء ظهورنا، وقلنا: إن السّبب من وراء طلب النّبيّ داود (عليه السلام) من الله سبحانه وتعالى العمل على أساس البيّنة، والّذي جاء ذكره في الرّواية هو: أنّ أصحابه كانوا غير مستعدّين لقبول الحكم الواقعي، وهذا ناتج من عدم تسليمهم المطلق له، وعدم رضاهم بأحكامه الباطنيّة، ولكن في عصر خلاص النّاس وتكامل عقولهم وإذعانهم الكامل للإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، فإنّه لا توجد ضرورة ملحّة لرفع اليد عن الأحكام المبنيّة على أساس الواقع.

 

٣ - التطوّر الاقتصادي

 

التطوّر الاقتصادي
قبل التطرّق إلى بيان عمليّة التطوّر الاقتصادي في عصر الظّهور لابدّ لنا من توضيح نقطة تخصّ الفقر والعوز والتّعامل والسّلوك غير الإنساني لأصحاب الأموال، النّاتج من فشل المشاريع والبرامج الاقتصاديّة المختلفة.
إنّ العامل المادّي والفقر الاقتصادي هو أساس لوقوع الكثير من الجرائم والمآسي في عصر الغيبة، وهذا ما تؤكّده الإحصائيّات والدّراسات المنتشرة في مختلف بلدان العالم، حيث يجد المتابع أنّ أصل جرائم السّرقة والقتل ناتج من هذا الموضوع، وهذه حقيقة لا يمكن الهروب والتنصّل منها.
إنّ الأشخاص الّذين يسعون إلى محاربة جرائم القتل والسّرقة وبقيّة الجرائم الأخرى، ويطالبون في إزالة هذه الظّواهر السلبيّة وغير الصحّيّة من المجتمع عليهم العمل بجديّة على إزالة مصدرها - الفقر أحد عواملها المهمّة - واجتثاثها من جذورها، وبالتّالي الحيلولة دون وقوع الجزء الأعظم من الجرائم والفساد.
إنّ العامل الأساسي والمهمّ الآخر الّذي له اليد الطولى في إشاعة الجرائم، هو غريزة طلب المال والنّهم والاستكثار منه، ولعلّ هذا العامل هو أهمّ بكثير من العامل الأوّل، وأكثر حسّاسيّة منه؛ باعتبار أنّ الشّخص الفقير يسرق من أحد البيوت أو يقتل شخصاً ما، ولكن أصحاب القدرة والنّفوذ فإنّهم ينهبون الثّروات الطّائلة للشعوب، ويسفكون دماء الكثير من الأبرياء، لا لشيء سوى إشباع غريزة كثرة المال وزيادته(٦٩).
وعادتاً ما يكون الطّريق سالكاً على الأغنياء والإمكانيّات متوفّرة عندهم أكثر من الفقراء، لذا فإنّنا نشاهد درجات الخيانة لديهم تفوّق بدرجات.
وعلى ضوء ما قلناه، فإنّ حالة الفقر والعوز للشّخص، والرّغبة في تكديس الأموال وطلب المزيد منها للأغنياء، هما عاملان أساسيّان ومهمّان في حصول تداعيات الجرائم والخيانات في عصر الغيبة المظلم، ولكن ومع وصول العصر الذهبي للظهور، فإنّ هناك فرصة سانحة للتّصحيح هذا المنهاج المنحرف، ممّا يؤدّي ليس إلى إختفاء هذين العاملين فقط؛ بل ستنقشع كلّ عوامل الجريمة، وتحلّ عوامل النّجاة والسّعادة محلّ عوامل الفساد والظّلم.
من المؤكّد فإنّ الوظيفة الإلهيّة والإنسانيّة تحتم على أصحاب النّفوذ تقديم يد العون والمساعدة للأشخاص الفقراء القابعين في زوايا المجتمع، والعمل لإيجاد دخل معيّن لهم، ورفع الفقر الاقتصادي الّذي يعانونه من جهة، وكذلك ليكون حائلاً دون طغيانهم وعنجهيّتهم من جهة أخرى، وفي النتيجة تكون إزالة هذين العاملين المهمّين والمسبّبين للفساد والظلم.
ولكن نقول ومع الأسف الشديد: إنّ هذه الوظيفة الخطيرة الّتي وقعت على عاتق الأغنياء، قد وقعت طيّ النّسيان، كما وقعت الكثير من الوظائف الأخرى، ولكن سيصل ذلك العصر الّذي يعمّ فيه الرّخاء إلى درجة، حيث يبحث الإنسان عن شخص ليساعده فلن يجده!
إنّ النّقطة الأساسيّة الّتي يجب الالتفات إليها وأخذها بنظر الاعتبار هي: أنّ التّكاثر والجشع في نفوس الأغنياء وأصحاب النّفوذ، هو العامل الأكثر أهميّة وخطورة من الفقر نفسه في وقوع الجرائم المختلفة في العالم، ويسبّب أيضاً إلى جرّ الأغنياء صوب جمع الثّروات بشكل غير مشروع، فتعمل القدرة والظلم على خلق أرضيّة مناسبة للمستكبرين والظّالمين للتكشير عن أنيابهم والتوسّل بكلّ الطّرق والوسائل لنيل مبتغاهم.
وأمّا العامل الثّاني الّذي ذكرناه في الواقع فهو الثروة؛ حيث لها أثراً فعّالاً، وهي تشترك أيضاً في العامل الأوّل، باعتبار أنّ العامل المهمّ في إيجاد حالة الفقر وتفشيه في أوساط المجتمع هم الأغنياء الّذين يجهدون وبواسطة أساليبهم الخبيثة والملتويّة لزيادة رأس مالهم، ومن جملتها الاحتكار وزيادة أسعار الموادّ الاستهلاكيّة، الأمر الّذي يجلب الفقر وزيادته. وهذه حقيقة ذكرها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) في أحاديثهم وكلماتهم الشّريفة.
في الواقع إنّ الإقطاعيين الّذين يعيشون في قصور فاخرة، فإنّهم وراء زيادة قيمة الأراضي، نظراً لاستلائهم على أكثرها، وهذا يؤدّي إلى بقاء المحرومين والفقراء عاجزين عن شراء قطعة أرض صغيرة.
وأيضاً فإنّ الكثير من الأغنياء يتّبعون سياسيّة تكديس الأموال وبالتالي يترجمون حالة الفقر وزيادة مضاعفاته - والّذي هو مقدّمة وأرضيّة صالحة وخصبة للفساد - إلى واقع ملموس، وهذه الحالة توجب أيضاً طغيانهم وعبثهم وانفصالهم وابتعادهم كلّ البعد عن الأحكام الشرعيّة والعقليّة.
وإليك عزيزي القاري هذه القصّة:
كان «خان مرو» من أغنياء ووجهاء مدينة طهران، فبنى مسجداً ومدرسة فيها تعرفان إلى وقتنا الحاضر بإسمه. يقال: إنّه كان لديه صديق قديم قد انتظره تحت الشّجرة العظيمة الّتي كانت في مقابل داره للأشهر عديدة، ينتظر خروجه لعلّه يحظى بنظرة عطف منه، ولكنّ الخان لم يلتفت إلى هذا الموضوع حتّى تمّ عزله من جميع مناصبه الّتي كان يتمتّع بها، وجلوسه في الدار.
وبعد حصول هذا الأمر، زاره صديقه، فوّجه الخان عتبه ولومه، لعدم زيارة صديقه له طوال هذه المدّة، فروى صديقه قصّته ووقوفه تحت الشّجرة وأمام بيته.
فأجابه الخان: إنّني في تلك المدّة لم أر شجرة العظيمة المزروعة أمام بيتي، فكيف تريدني أن أرى من يقف خلفها(٧٠)!
نعم؛ إنّ العالم وبطبيعة الحال سيشهد وقبل ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) منظومة هائلة من الأغنياء وأصحاب الأموال الطائلة، الّذين يحاولون عبثاً البقاء ضمن دائرة الحالة الإنسانيّة ومحاولة السّيطرة على طغيانهم من خلال تمسّكهم بالموازين الشّرعيّة والعقليّة.
وعلى أساس هذه النّقطة يطرح السؤال التالي: هل أنّ البشريّة قادرة بعد أن تصل إلى الاكتفاء الذّاتي في عصر الظّهور، وتوفير الثّروة الهائلة، من ضمانة عدم وقوعها في شباك الطغيان؟
وبعبارة أكثر توضيحاً: إذا كانت كلّ هذه الثّروة لها تلك الآثار المخرّبة والهدامة ونذيرة شوم، فكيف يتمتّع النّاس في عصر الظّهور بكلّ هذه الثّروات والأموال الطّائلة؟
وفي مقام الإجابة على هذا السؤال نقول: إنّ الثّروة والمال الّذي يأتي عن طريق الحلال، فإنّه لا يكون في أيّ وقت من الأوقات نذير شوم وقدم نحس على الإنسان؛ بل هو وسيلة وطريق لفعل الخير والعمل الصالح، ولكن علينا أن نفهم أنّ هناك بعض الأغنياء الّذين يوظّفون أموالهم ويصرّفونها بطرق غير مشروعة، وإلّا فإنّ نفس الثّروة بحدّ ذاتها ليس لها آثار سلبيّة، فإذا كانت كذلك فسوف تجعل كلّ أصحاب رؤوس الأموال في مصاف المفسدين، وهذه أمر غير صحيح؛ إذ أنّنا نشاهد البعض من هؤلاء - وإن كانوا قليلون في زماننا الحاضر - يقدّمون خدمات جليلة وعظيمة إلى المجتمع الإنساني، ويكونون سبباً لنجاة الكثير من الناس، ويقعون مورداً لمدح وثناء ورعاية أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام).
وأمّا الّذين يسبّحون في التّيار المعاكس، فإنّهم يعانون من النّقص الفكري وضيق الأفق، إذ أنّهم سعوا بكلّ ما أوتوا من قوّة لزيادة ثروتهم وتركها لقمة سائغة لورثتهم، إنّ أصل الثّروة والمال مثله كمثل الحربة، فهي سلاح ذو حدّين، فمن خلالها يتمكّن الإنسان من القضاء على عدوّه وإزالته عن طريقه، وكذلك يستطيع بها قتل الأبرياء وسفك دمائهم.
علاوة على كلّ هذا، فإنّ الإنسانيّة وبعد وصولها إلى الرّقي والتّكامل المعنوي والرّشد الفكري والعقلي، والسّعادة الّتي تغمرهم، فإنّ هذه العمليّة بحدّ ذاتها تدفعهم للعيش في أمان واستقرار بعيدين عن حالة الطّغيان والفساد.
وفي ذلك العصر السعيد تحصل عمليّة التّوسعة والتّنمية والعطاء، وتختفي فيه حالات الجشع والاحتكار والطّمع، وتكثر الثروات والإمكانيّات، وينحصر الظّلم والطّغيان.
وهناك الكثير من المؤشرات الّتي تؤكّد كلّها على أنّ الثّروة في ذلك الزّمان والموجودة في كلّ أصقاع العالم سواء تواجدت في باطن الأرض أم فوقها، يجب أن تجمع كلّها وتنتقل إلى ملكيّة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) وتبقى عنده.
فهل تعلم يا ترى ماذا تخبئ باطن الأرض من ثروات هائلة وكنوز عظيمة ومهمّة؟ أليس فيها الأحجار الكريمة والذّهب والفضّة وبقيّة الأشياء الثّمينة الأخرى؟ وهل تعلم أنّ في باطنها جبالاً من الذّهب؟ وهل تدري كم أخفى الملوك والحكّام القدماء من ثروات عظيمة فيها؟ وهل تعلم ما مقدار الأشياء والأموال الّتي دفنت بواسطة الزّلازل الّتي حدثت فيها؟ وهل تعلم....
ويتّضح من القراءة المتأنيّة أنّ عصر الظّهور، هو عصر الاطّلاع والمعرفة، وظهور جميع الأسرار على حقيقتها، فلذا سوف يرى ظهور جميع الثّروات والأموال الموجودة في باطن الأرض لتطفح فوقها، ويتمكّن الجميع من الاستفادة منها.
قدرة السيطرة
من الجدير بالاهتمام إنّ الّذي قلناه - يعني حصول حالة التّنمية وزيادة الثّروات لجميع الناس، ونيل السّعادة الأبديّة، وعدم وجود الطّغيان والتّعدّي في عصر الظّهور المشرق - كلّ هذه الأمور تطرق إليها أهل بيت الوحي والرسالة (عليهم السلام) من خلال أحاديثهم وخطبهم الواردة.
وإليكم هذه الرّواية الّتي تدعم وتؤيّد قولنا هذا: يقول الإمام الباقر (عليه السلام):
يقاتلون والله حتّى يوحّد الله ولا يشرك به شيء وحتّى يخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب ولا ينهاها أحد، ويخرج الله من الأرض بذرها، وينزل من السّماء قطرها، ويخرج الناس خراجهم على رقابهم إلى المهديّ، ويوسّع الله على شيعتنا، ولولا ما يدركهم من السعادة لبغوا(٧١).
لا شكّ ولا ريب في أنّ الغنى والفقر قد يكون منشأين لسعادة الإنسان، وقد يكونان عاملين للجريمة والخيانة على حد سواء، ومجموع ما يفهم من هذا المعنى أن الغنى والفقر يلعبان دوراً رياديّاً ومهمّاً في زيادة ومضاعفة الجناية، وقد يكونان وسيلة لإسعاد الإنسان وإدخال البهجة والفرحة عليه.
ونلاحظ أيضاً بصورة واضحة، أنّ الطّمع في الحصول على الثّروة هو العلامة الفارقة لظهور هذه الحالة وهذا المنهج، ولو تطّلعنا ونظرنا إلى ما حولنا، لعرفنا أنّ مصدرها يكمن في عدم وجود القدرة الكافية على السيطرة في مرحلة الغيبة والظّلمة.
وتبعاً لتجاهل الإنسان وعدم معرفته بالمقام الشامخ والسّامي للولاية وعدم عنايته وإكتراثه للمنزلة العظيمة والرّفيعة لأهل بيت الوحي والرّسالة (عليهم السلام)، سيسلب منه السّعادة، ويبعده كلّيّاً عن مقام الولاية، والّتي هي الضّمانة والدّعامة الوحيدة للسّيطرة على القدرات.
ولكن في عصر الظّهور، سوف تتسلّح الإنسانيّة فيه بالحصن المنيع والرّفيع للولاية الإلهيّة من كلّ جهة ومكان، وتحرسها وتحفظها القدرة الإلهيّة لولاية الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه). لذا فإنّ هذه النّعم والبركات والسّعادة المنشودة - الّتي لم نتذوّق طعمها إلى الآن - تؤدّي إلى حصول حالة من التّوازن، فكلّما ازداد مقدار الثّروة والمال عندهم، كلّما حافظوا على وضعيّتهم، ولا يتسبّب هذا الثّراء إلى طغيانهم وعنجهيّتهم.
نعم؛ ونتيجة إرخاء ظلال القدرات الموجودة في الولاية على رؤوس النّاس أجمع، فإنها تستوعب جميع القوى والقدرات والإمكانيّات تحت غطائها وتحفظها من خلال هذه الوسيلة، فإنّها تسيطر على كلّ مجريّاتها وتكبح جماحها.
وهذه هي عين السّعادة والسّرور الّذي صرّح به الإمام الباقر (عليه السلام) حين قال: «ولولا ما يدركهم من السعادة، لبغوا».
نعم؛ إنّ حصول القدرة والسيطرة للجميع، هي من الصّفات والميّزات الّتي ينفرد بها عصر الظّهور، فحينما تزداد فيه كلّ الإمكانيّات المتاحة من مال وثروة وقدرة وفعاليّة ونشاط وجماليّة، و....
ونظراً إلى بروز الإشعاعات النورانيّة للولاية، فإنّها تسجل حضوراً قويّاً في مهارها والتّحكّم بها، ومماشاتها مع العقل، وفي النّهاية الاستمرار في حياة ملؤها النّعم والسّعادة والحبور، بحيث لم ولن ير مثلها في أيّ زمان ومكان قطّ.
تمعّنوا في هذه الرّواية الجميلة الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام)(٧٢) فقد قال (عليه السلام):
تواصلوا وتبارّوا وتراحموا، فوالّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ليأتينّ عليكم وقت لا يجد أحدكم لديناره ودرهمه موضعاً، يعني لا يجد عند ظهور القائم (عليه السلام) موضعاً يصرفه فيه، لاستغناء النّاس جميعاً بفضل الله وفضل وليّه.
فقلت: وأنّى يكون ذلك؟
فقال: عند فقدكم إمامكم فلا تزالون كذلك حتّى يطلع عليكم كما تطلع الشّمس، آيس ما تكونون، فإيّاكم والشكّ والارتياب، وانفوا عن أنفسكم الشكوك، وقد حذّرتكم فاحذروا، أسأل الله توفيقكم وإرشادكم(٧٣).
في هذه الرّواية نقطة رائعة حول مسألة تطهير القلب من اليأس والشّكّ، وهذه قضيّة بنفسها تحتاج إلى بحث مفصّل ومستقلّ.
إنّ الجزء الّذي يهمّنا في الرّواية وموضع استدلالنا، هو قول الإمام الصّادق (عليه السلام) عن عصر الظّهور، فيصرّح الإمام (عليه السلام) إنّ في ذلك العصر لا يمكن العثور على شخص فقير حتّى يساعده الأغنياء من أموالهم، وذلك لاستغناء النّاس جميعاً.
أكثر من «٨٠٠» مليون شخص جائع في العالم
أمّا الآن فإنّنا نجري مقايسة ومقارنة بين عصر الظّهور العظيم - الّذي يتمتّع فيه النّاس جميعاً بمختلف النّعم الوفيرة بحيث لن تجد في أيّ زاوية من زوايا العالم أيّ جائع وبين زماننا الحاضر الّذي يتوزّع الجياع فيه في كلّ المناطق والأمكنة، ولا يتحمّل أيّ شخص أو منظمة مسؤوليّتهم قبال ذلك الأمر الخطير.
إليكم بعض التّقارير المنشورة، وبعض الإحصائيّات الرّسميّة لعدد الفقراء الموجودين في عالمنا اليوم:
«رئيس البنك الدّولي: يوجد في العالم مليار شخص يشكلون الطبقة الغنيّة، وأنّ ٨٠% من نسبة عائدات العالم تختصّ بهم، في حين أنّ بقيّة سكّان العالم وهم «٥» مليار نسمة، لا تشكل نسبتهم من عائداته سوى ٢٠%.
منظمة «فائو» الزراعيّة التّابعة للأمم المتّحدة: وصل عدد الّذين يعانون حالة الجوع في العالم إلى ٨٤٢ مليون شخص بعد إضافة ١٨ مليون شخص جديد لهم.
فرنسا - باريس - جريدة «ونت مينوت» اليوميّة الصادرة يوم الأربعاء بتاريخ ١٦ أكتوبر ٢٠٠٢ م (١٣٨١/٧/٢٤ ش).
يموت في كلّ ٤ ثوان شخص في العالم بسبب الجوع، ويعاني أكثر من ٨٤٠ مليون شخص آخر حالة سوء التّغذية، يعيش ٧٩٩ مليوناً منهم في الدّول النّامية.
وأعلنت حالة الطوارئ في أكثر من ثلاثين دولة في العالم، وهناك ٦٧ مليون شخص فقط في أفريقيا يحتاجون إلى مساعدات عاجلة. وإنّ هناك ١٩٤ مليون شخص في أفريقيا أيضاً لا يحظّون بتغذية مناسبة، ويعاني ٢٠% أي ٤٩٦ مليون شخص في قارّة آسيا من المجاعة.
«فائو»: يموت يوميّاً أكثر من ٢٤ ألف شخص نتيجة الجوع، ويموت أكثر من ٦ ملايين طفل سنويّاً أثر المجاعة حيث لا تزيد أعمارهم عن خمسة سنوات»(٧٤).
ومن الطبيعي فإنّ كلّ هذه الاُمور من المجاعة والعوز والبطالة(٧٥) و... دليل واضح وصريح على عدم كفاءة ولياقة ملوك ورؤساء العالم. فإذا كان السّياسيّون قد توصّلوا إلى إيجاد مكامن وعوامل النقص، وأقدموا على رفعها، لما بقيه أحداً على هذا الكون يعاني الجوع والحرمان.
ولا نذيع سرّاً إذا قلنا: إنّ واحدة من الأسباب والعلل الناجمة من شيوع حالة الفقر هي زيادة الأسعار، ولذلك يجب الحيلولة والعمل دون ارتفاعها، ولكن وللأسف الشديد فإنّنا لا نرى في الأفق القريب أيّ مشروع أو برنامج عملي يتكفّل هذا الموضوع.
والآن نلفت انتباهكم إلى إحصائيّة نشرت في إيران تبيّن حالة ارتفاع الأسعار(٧٦):

 

m-mahdi.com

 

هذا اُنموذج مصغّر لعدد من السّلع الموجودة في زاوية من زوايا العالم، وكما تشاهدون فإنّ عدد سكّان إيران قد تضاعف مرّتين في مدّة ٢٥ سنة، ولكن الزّيادة في الأسعار وصلت إلى ٢٠٠ ضعفاً، مع العلم أنّ النموّ والرّشد السّكاني ليس دليلاً على ارتفاع الأسعار خاصّة في هذا المقدار(٧٧).
إنّ ارتفاع الأسعار هذا ليس منحصر في إيران وحدها؛ بل إنّ الغلاء الفاحش في بقيّة البلدان الأخرى قد ضرب جذوره في الأعماق أيضاً، وأثر بشكل ملحوظ على حياة الفقراء وتزايد نسبتهم، ونرى أنّ هذا الأمر موجود حتّى في الدّول الّتي تعتبر نفسها في عداد ومصاف الدّول العظمى، أمثال الولايات المتّحدة الأمريكيّة واليابان(٧٨).
والنّاظر بموضوعيّة، يرى أنّ زيادة الأسعار وارتفاعها بشكل مفاجئ، يعود إلى السّياسة الاقتصاديّة المتبعة، الّتي ليست لها القدرة على السيطرة على حالة ارتفاع الأسعار ومهارها، ممّا تسبّب في إيجاد حالة من عدم التّعادل والتّوازن.
ومن الطّبيعي فإنّ الأغنياء عادة لا يكترثون لزيادة وارتفاع الأسعار؛ بل هم أنفسهم يسعون دوماً إلى وضع الخطط المناسبة لإيجادها حتّى يتمكّنوا من خلال هذا الاقتصاد المريض والارتفاع المجنون هذا من زيادة ومضاعفة أموالهم، طبقاً للمقولة القائلة: «إنّ السّارق يريد سوقاً مضطرباً».
وفي مثل هذا الجوّ، يكون المستضعفون والمحرومون هم الضحيّة وكبش الفداء لهؤلاء الأقوياء والظّلمة، ويا ليتهم رفضوا كلّ هذه الخدع ووقفوا أمامها بحزم! إذن؛ فإنّ أساليب السرّاق وطرقهم الملتوية تلك، تكون سبباً في حصول حالة الاضطراب وعدم استقرار الاقتصاد العالمي، وبالتالي وجود أكثر من ٨٠٠ مليون شخص جائع يعيشون في نصف الكرة الأرضيّة لا يجدون لقمة يأكلوها!
وإليكم التقرير التالي:
«صندوق النقد الدّولي: يعيش أكثر من ثلاثة ملياردات نسمة في العالم بأقلّ من دولار واحد في اليوم. الخبر الثّاني مفادّه: إنّ أكثر من مليار شخص دخلهم اليومي هو دولار واحد. وأنّ نصف سكّان العالم يعيشون تحت خطّ الفقر. وأنّ ثلاث مليارد شخص دخلهم اليومي أقلّ من ثلاثة دولارات.
الأمم المتّحدة: أصبحت ٥٤ دولة في العالم تعيش أكثر فقراً وحرماناً في العقد الأخير، ٤/٦ مليار نسمة منهم يعيشون في الدّول النّامية، وإنّ حدود ٨٠٠ مليون لا يتمتّعون بوجود الغذاء الكافي والّذي هو من الحقوق الطبيعية لهم»(٧٩).
وهذه بعض الأمثلة عن الأوضاع المأساويّة والقاسية الموجودة في العالم، نقلناها لأجل التعرّف ولو قليلاً على الظّروف العصيبة الّتي يعانيها عصر الغيبة، والأفضل الاكتفاء بها وذلك من المنطلق القائل: «يقع الطّير في السّجن بسبب لسانه»، وأيضاً لا نريد مضاعفة الهمّ والحزن وإشعال فتيله في النّفوس أكثر من ذلك.
إذن؛ نترك الحديث وننسى الأحزان والالام، ونضعه وراء ظهورنا، ونتطرّق إلى وصف المستقبل المشرق والتطلّع إلى أفاقه النيّرة، حيث لا يوجد فيه أيّ علامة أو أثر من الغشّ والخداع والظّلم والاستبداد ولا حالة الفقر ولا شخصاً فقيراً ولا وجود للكيل بمكيالين.
عصر كلّه نعم وبركات وزيادة في الثّروات والإمكانيّات، ومنهجيّة وخطّة قائمة على رفع الحرمان والفقر عن كلّ البشريّة. وبالتالي خلّو العالم من وجود ٨٠٠ مليون شخص جائع، ويتمّ فيه الكشف عن الأقنعة المزيفة لمن يقف وراء المشاريع الاقتصاديّة العاجزة، والّتي تجرّ المجتمعات الإنسانيّة صوب عناصر العجز والضعف.
وفيه أيضاً يمحى الفقر من خارطة العالم، ولا يدخل الغمّ في بيت، وعندئذ ينتشر الخير والفرح فيه، فيضحى كقطعة من جنّة الفردوس في ظلّ حكومة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) وتبسط حالة من النّشاط والفعّاليّة والحيويّة لدى الجميع، وتحلّ النعم الوفيرة محلّ النّقص الحاد والغلاء في الأسعار.
العالم مليء بالنّعم والثّروات
بعد أن وصل بنا الحديث عن الفترة المشرقة الّتي تكثر فيها النّعم والزّيادة في الثّروات، ننقل إليكم رواية عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لها صدد في موضوعنا هذا:
يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تنعّم اُمّتي في زمن المهديّ نعمة لم ينعموا مثلها قطّ، ترسل السّماء عليهم مدراراً، ولا تدع الأرض شيئاً من النّبات إلاّ أخرجته، والمال كدوس، يقوم الرجل يقول: يا مهدي أعطني، فيقول: خذ(٨٠).
من الواضح وحسب مداليل هذه الرّواية، فإنّ جميع المذاهب والأديان العالميّة سوف تنجو من حالة الضّياع والتّيه في ذلك الزّمن، ويشكل هذا الواقع انعطافة هامّة في تاريخهم واستراتيجياتهم، فيصبح الجميع في عداد أمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك بعد هيمنة الدّين الإسلامي وسيطرته وحاكميّته المطلقة فيه.
ولذا فإنّنا نقطع بأنّ أمّة رسول الرّحمة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّتي تحتضن العالم آنذاك تبرز فيها ظاهرة لها تداعيّاتها، وتكون من خصوصيّتين عموميّتين وشاملتين، وهذا عهد لا سابق له.
وهذا هو الأمر الّذي يؤدّي إلى فتح أبواب السّماء ونزول البركات الإلهيّة من السّماء والأرض إلى جميع الخلائق، وهاتان الخصلتان العامّتان هما الإيمان والتّقوى.
ولا تنحصر هاتان الصّفتان المعنويّتان في ذلك الزّمن في فئة معيّنة أو جماعة خاصّة، بل يدخل الجميع تحت مظلّتهما، ونتيجة شموليّتهما سيكون الجميع في منأى من العذاب الإلهي. ومن الطبيعي فإنّ هكذا أمّة تستحقّ سيلاً من العطاء بجميع أشكاله، وهذا أمر مذهل ومحيّر للعقول بالفعل.
ومن أجل إثبات الموضوع هذا، نلجأ إلى الكتاب والسنّة النّبويّة الشّريفة:
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): ولينزلنّ البركة من السّماء إلى الأرض حتّى أنّ الشجرة لتقصف بما يريد الله فيها من الثمرة، ولتأكلنّ ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء، وذلك قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقُوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(٨١).(٨٢)
ففي هذه الرّواية نقاط مثيرة تجلب النّظر إليكم بيان بعضها:
١ - تدلّ فاء التفريعيّة الموجودة في الآية المباركة الّتي استشهد بها الإمام (عليه السلام) «فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» على أنّ النتيجة الّتي يمكن الخروج منها في حالة الكذب بالحقائق الإلهيّة الناصعة، وعدم الإذعان والاعتراف بالأوامر الّتي جاء بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والعمل على مجانبتها، والتّلاعب بها لا يكون عاقبتها سوى غلق أبواب الرّحمة الإلهيّة، وبركات السّماوات والأرض وجلب التّعاسة والشّقاء إلى العالمين.
ومن هنا يجب أن ندرك إنّ أصل هذه الجرائم ومصدر القتل يعود إلى النقص والتخبّط والحاصل نتيجة إعراض الاُمّة عن وصايا الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعدم صيانتها والعمل والإيمان بها، وفي النّهاية عدم وجود التّقوى.
وهناك حقيقة علينا الإذعان لها وهي: إذا كان النّاس قد آمنوا بأنبياء الله سبحانه وتعالى والسّير على طريق التّقوى والإيمان لتمتّعوا في عيشة راضية مصونين عن أنواع البلايا والمكاره.
البركات في عصر الظّهور
٢ - ونتيجة الإيمان والتّقوى الّتي سوف يتمتّع بها النّاس في عصر الظّهور فإنّ الله عزّ وجلّ سينزل بركات السّماء والأرض عليهم؛ بحيث يمكنهم قطف أيّ نوع من الثّمار بإرادة البارئ عزّ وجلّ، وتكون تلك الثّمار - على أثر تشابه الظّروف المناخيّة للفصول الأربعة - غير مختصّة في فصل معيّن، لذا نرى وجود ثمار وفاكهة الصّيف في الشّتاء والعكس كذلك.
وعلى هذا الأساس فإنّ قضيّة البركة هي حقيقة كبيرة، وبفضلها يأخذ العالم طابعاً ويكتسي حلية جديدة، وتزول جميع المشاكل والمصائب المربوطة في عصر الغيبة المظلم(٨٣)، وستنعّم البشريّة بالرّفاه والعطاء الوفير.
وكما قلنا ستبرز سمات ومعالم جديدة لهذا الكون، وتكون حالة الازدهار والتّطوّر هي السّمة الأبرز في جميع المجالات، وتظهر الطّاقات الكامنة في كلّ بقعة منه، وتزول حالات البؤس والمحروميّة، وتقطع من دابرها، وترفع عنه مكامن الضّعف والعجز والقهر، وإحلال محلّها عوامل القدرة والقوّة والهيمنة، وتزرع الابتسامة فيه على كلّ الشّفاه الذّابلات، ويعمّ الفرح والبهجة والسّرور كلّ القلوب الحيرانة، وتنتشر البركة في ربوعه بواسطة الملائكة الموكّلين في الأرض والسّماء.
إنّ من المفروض - وحسب النّظرة المادّية - أنّ كلّ الأشياء تحصل حسب قوانينها الطبيعة، فمثلاً فإنّ زراعة الحنطة تحصل عن طريق البذرة والماء والتّراب فقط، ولكن من وجهة نظر الشّخص الّذي يؤمن بالغيب والماورائيات، فإنّه يرى ويعتقد بأنّ إيجاد الأشياء وتكوينها لا ينحصر بالوسائل الطبيعيّة والعادّية، وإنّما من الممكن حصولها عن طريق الأمور غير الطبيعيّة كذلك.
صحيح أنّ الله عزّ وجلّ أجرى الاُمور على أساس أسبابها، ولكن لا يعني هذا انشغالنا وانغماسنا بالأسباب، وترك مسبّب كلّ هذه الأسباب، والاعتقاد أنّ جميع الأسباب الّتي أوجدها محصورة في دائرة الأمور الماديّة ونحن على معرفة وإطّلاع كاملة بها.
٣ - إنّ حالة الضّياع والتّيه ستزول عن الإنسانيّة ويتّجه الجميع صوب الهداية الإلهيّة. وهذا دليل واضح على عالميّة الإسلام الواقعي، والإيمان القوي والرّاسخ بالحكومة العالميّة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء.
وخلافاً لما يجري في عصرنا هذا، فإنّ البشريّة حينذاك ترى الحقائق كما هي، فترفع الحجب والغشاوة عن أبصارها، وتذعن إلى الأوامر والتّعاليم الّتي جاء بها الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعملاً باعتقادهم هذا، فإنّهم يضعون التّقوى نصب أعينهم في كلّ خطوة يريدون خطوها.
ومن الطّبيعي فإنّ التّعاليم والأحكام الصّادرة من قبل رسول الرّحمة محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا تهدي النّاس إلاّ إلى القرآن الكريم وإتّباع العترة الطّاهرة، وتحسب أنّ أجر تبليغ رسالات السّماء هي المودّة في قرابته (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
يقول الله في محكم كتابه: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى»(٨٤).
إنّ الإنسانيّة ستقطع شوطاً طويلاً في تكاملها العقلي، فلذا نراها تتقبّل كلّ ما صدر من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وانطلاقاً من ذلك سوف تنشأ المحبّة والمودّة لأهل بيته (عليهم السلام).
إنّ مودّة أهل البيت (عليهم السلام) معناها هو المحبّة الباطنيّة والظّاهريّة الباعثة على تقّرب الإنسان إليهم (عليهم السلام).
المودّة؛ قرابة مستفادة(٨٥).
وعلى ضوء هذه الرّواية، فإنّ الإيمان والتّقوى العامّة للمجتمع تبرز وتظهر من خلال اللجوء إلى أهل بيت الوحي الرسالة (عليهم السلام) وكسب مودّتهم، وهم السرّ في فتح أبواب السّماء ونزول البركات الإلهيّة.
إذن؛ نستنتج من هذا: أنّ الاُمّة لو كانت قد أذعنت ومنذ بداية البعثة النّبويّة إلى أقوال الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأفعاله وأعماله، وتمسّكت بمقام الولاية لأهل بيته الكرام الأطهار (عليهم السلام)، لما حدثت وسادت حالة الظّلمة والظّلام الّتي جرت العالم إلى الضّياع والتّيه إطلاقاً، ولما كان البارئ عزّ وجلّ قد منع بركاته عنهم.
ولكن مع الأسف الشديد فقد خرجت اليد الظّالمة، وغرست في السّقيفة المشؤومة شجرة الخلافة الأبديّة الّتي كانت من ثمارها إيجاد الاختلاف والظّلم والجور، وإشعال فتيلهما، واستمرارهما إلى اليوم الّذي تظهر القدرة الإلهيّة قوّتها، وتخرج الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) إلى الوجود، فيقلع عناصر الظّلمة، ويحرق الشجرة السّرمديّة للخلافة، ويملأ الأرض من أقصاها إلى أقصاها عدلاً ورحمةً.
البشارة الّتي أطلقها الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول مستقبل العالم المشرق
إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان على علم بما سيجري على العالم من أمور وأحداث، وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطّلع الأمّة على نار الفتنة والفساد واستمرارها إلى ظهور ولده الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه)، وقد بيّن من خلال أحاديثه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كذلك الوضع العامّ للاقتصاد العالمي، وزيادة ووفرة النّعم في ذلك الزّمان المبارك.
وهنا ننقل إليكم عدد من البشارات الّتي ذكرها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول ظهور منتقم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والتّوسعة والتّنمية الاقتصادية الّتي تحدث فيه:
يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
اُبشّركم بالمهديّ يبعث في اُمّتي على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأُ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يرضى به ساكن السّماء، يقسّم المال صحاحاً.
قلنا: وما الصحاح؟
قال: بالسويّة بين النّاس، فيملأ الله قلوب اُمّة محمّد غنى، ويسعهم عدله حتّى يأمر منادياً فينادي: مَن له في مالٍ حاجة؟
قال: فلا يقوم من الناس إلاّ رجل، فيقول: أنا، فيقول له: ائت السادن - يعني الخازن - فقل له: إنّ المهدي يأمرك أن يعطيني مالاً.
فيقول له: اُحث - يعني خُذْ - حتّى إذا جعله في حجره وأبرزه [ندم] فيقول: كنت أجشع اُمّة محمّد نفساً أو عجز عنّي ما وسعهم؟
قال: فيردّه فلا يقبل منه، فيُقال له: إنّا لا نأخذ شيئاً أعطيناه(٨٦).
ففي هذه الرّواية عدّ الاختلاف والزّلازل والظّلم والجور الّذي يملأ الأرض، والفقر، هي من علامات ظهور الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه)، وستمحى جميع هذه الابتلاءات من الوجود لدى قيام الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، وتملأ قسطاً وعدلاً، ويصبح النّاس جميعهم في غنى ورفاهيّة.
ويصرّح الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في رواية اُخرى:
يحثي المال حثياً لا يعدّه عدّاً، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(٨٧).
عالم ملؤه الفرح والسرور
وكما قرأنا في الرّواية فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصرّح عن ذلك العصر الّذي تحيي فيه القلوب والنّفوس، ويسود العالم الفرح والسّرور، فيقول:
يرضى عنه ساكن السّماء وساكن الأرض، ولا تدع السّماء من قَطْرها شيئاً إلاّ صبّته، ولا الأرض من نباتها شيئاً إلاّ أخرجته حتّى تتمنّى الأحياء الأموات(٨٨).
وبناءً على ذلك فإنّ الأرض وسكّانها لا ينعمون وحدهم بذلك السّرور والفرح؛ بل يتعدّاه إلى أن يصل إلى السّماء فيرضى عنه أهلها، وهذا نفسه دليل قاطع على شموليّة حكومة الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) لما تحمل هذه الكلمة من معنى، بشكل تجلب معها رضى جميع أهل السّماوات والأرضين.
ومن المثير للعجب، أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي رواية آخر، لا يرى أنّ السّرور والفرح حالة مختصّة للإنسان في ذلك العصر فحسب، وإنّما تشمل هذه الحالة حتّى الحيوانات. يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
هو رجل من ولد الحسين (عليه السلام) كأنّه من رجال شنسوة، عليه عباءتان قطوانيّتان إسمه إسمي، فعند ذلك تفرح الطيور في أوكارها، والحيتان في بحارها، وتمدّ الأنهار، وتفيض العيون، وتنبت الأرض ضعف أكلها، ثمّ يسير مقدّمته جبرئيل، وساقته إسرافيل فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً(٨٩).
نعم؛ فإنّ الجيش العظيم لجبرائيل وإسرافيل - وهم الّذين يحملون العرش الإلهي - سينضويان تحت راية ذلك الجيش، الّذي ستكون مهمّته نجاة المستضعفين في الأرض، وبسط السّرور والفرح للجميع، فيشمل معها كلّ الموجودات الأخرى، ومن مهمّاته كذلك استرجاع كلّ الحقوق المغصوبة، ودفع القروض الّتي هي في ذمّة المقروضين مهما كانت قيمتها.
يخاطب المفضّل الإمام الصّادق (عليه السلام) قائلاً:
يا مولاي؛ من مات من شيعتكم وعليه دين لإخوانه ولأضداده كيف يكون؟
قال الصادق (عليه السلام): اوّل ما يبتدئ المهدي (عليه السلام) أن ينادي في جميع العالم: ألا من له عند أحد من شيعتنا دين فليذكره حتّى يردّ الثومة والخردلة فضلاً عن القناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والأملاك فيوفّيه إيّاه(٩٠).
الاستحياء
إلى الآن ذكرنا عناوين متعدّدة لعصر الظّهور، مثل عصر الحياة، عصر الخلاص، عصر الظّهور المشرق، عصر الظّهور العظيم، عصر الظّهور المبارك، عصر النور، عصر التكامل، عصر النّجاة، وعصر....
وبعد هذه المقدّمة، يجب أن نرى ماذا أعددنا وقدّمنا لأنفسنا من أجل وصول ذلك العصر المتألّق، وما هي الخطوات العمليّة الّتي اتّخذناها للتّعجيل في وصول الحكومة العادلة، وماذا بذلنا من ثرواتنا وأموالنا في هذا الطريق؟
وهل سعينا في التّفكير الجادّ، وتعيّن المسير الصّحيح والمتوازن والمتكامل الّذي ينبغي أن يكون عليه مستقبل العالم، وتشخيص الوظيفة الملقاة على عاتقنا، كما سعينا دوماً في التّخطيط لمجريّات حياتنا وأطفالنا وتأمين المستقبل لهم؟
فهل من الممكن أن يكون هناك شخص كوته نار الانتظار، ولا يقدّم على فعل شيء في هذا الاتّجاه؟
وهل تتلاءم قضيّة الهرولة الدّائمة وراء جمع المال وزيادته، وعدم الاعتناء بالوظيفة الإنسانيّة والدّينيّة لأجل إنقاذ العالم، مع مسألة الانتظار وحالة الإنسان المنتظر ليوم الخلاص؟
وهل من الصّحيح أن يكون الشخص - الّذي ليس فقط يعتقد بالظّهور بل - المنتظر الواقعي يسعى صباحاً ومساءاً جاهداً نفسه للتّطوير الجانب المادّي، وركن وظيفته الشّرعيّة جانباً؟
ويصل مستوى الحياء والخزي إلى أعلى درجاته، حينما يلوم مولانا صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) بعض أصحاب الأموال الطّائلة في عصر الظّهور، ويوبخ النّاس بسبب حرصهم الشّديد على الدّنيا الفانية، والتّوسّل بأيّ طريق كان من أجل جمع الأموال والثّروة.
ويشير الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية تهزّ الأعماق إلى تلك القضيّة فيقول (عليه السلام):
يجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها، فيقول للنّاس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدّماء الحرام، وركبتم فيه ما حرّم الله عزّ وجلّ، فيعطي شيئاً لم يعطه أحد كان قبله، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً كما ملئت ظلماً وجوراً وشرّاً(٩١).
نعم؛ يكون ذلك الزّمان هو زمان الخزي والعار والخجل والحياء لكلّ من كان له الإمكانيّة المادّيّة، ولم يحاول جاهداً للسّعي في نجاة البشريّة والتّخفيف عن بعض من همومهم وإزالة معاناتهم وحلّ مشاكلهم، والأنكأ من هذا ذلك الشّخص الّذي لم يمنع ماله وثروته عن المحرومين والمستضعفين، وإنّما حجر على الأموال الّتي هي حقّ للإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)، ولم يصرفها في الأمور والقضايا الّتي فيها رضى للمولى وإدخال السّرور على قلبه.
فلعمري؛ إلى متى يبقى هؤلاء غافلين عن أمرهم، ولا يعيدوا حساباتهم، في سلوكهم وأعمالهم؟!

 

٤ - إزالة الأمراض

 

إزالة الأمراض ومحوها عن الوجود
ما هو مصير الأشخاص الّذين يعانون من مختلف المصائب والويلات، والّذين أصابتهم الإعاقة الجسديّة بأنواعها المختلفة، وأنّى لهم العيش وسط عالم يسوده ويغمره الفرح والسّرور، وتنتشر المحبّة والنّشاط في كلّ زواياه المترامية الأطراف، وكأنّه عالم مقتطع من جنّة الفردوس العليا، ومشاطرة الآخرين، والاشتراك معهم في أفراحهم وأتراحهم؟!
وكيف تشع أنوار الولاية السّاطعة في كلّ مكان وعلى جميع الأشخاص، ويترك المصابون بالأمراض والمعوّقون والّذين حرّموا من نعمة الجسم السّليم؟! وكيف يتصوّر بقاؤهم في صراع مرير مع الألم والحزن؟
من الواضح أنّ قدرة ولاية أهل البيت (عليهم السلام) - ومن باب مشاركة الإنسانيّة جمعاء في تلك المسرّات - سترفع عنهم جميع البلاءات والأمراض بشكل كلّي، باعتباره أنّ واحد من المستلزمات الضرّوريّة والمطلوبة للحكومة الإلهيّة العادلة الّتي يحكمها الله سبحانه وتعالى، والّتي يكون فيها الجميع تحت مظلّة قدرة الولاية، وزوال كلّ أثار للشّيطان وأعوانه، هو نيل الجميع حقّ الرّاحة والسّكينة والسّلامة والصّحّة الكاملة.
ومن المناسب الآن الإشارة إلى البشارة العظيمة الّتي وردت عن لسان أهل البيت (عليهم السلام) إلى الأشخاص الّذين خيمت على وجودهم حالات اليأس والشؤم، كي تمتلئ قلوبهم مرّة أخرى بأمل مشرق، وترسخ حالة الانتظار في داخلهم، وتزال عن أفكارهم وعقائدهم وسوسة الشّيطان وحباله الخداعة والماكرة، وتزرع في أعماق قلوبهم العطاء والأمل بالحياة من جديد.
اُنظروا إلى هذه البشارة السّماويّة: يقول الإمام الباقر (عليه السلام):
من أدرك قائم أهل بيتي من ذي عاهة برأ، ومن ذي ضعف قوي(٩٢).
وفي مقام توضيح هذه الرّواية نقول: إنّ الشّفاء الحاصل في عصر الظّهور لا يشمل الأشخاص المصابين بالأمراض الجسديّة فقط؛ وإنّما ينتشر ليأخذ مساحة أكبر، فيغطي جميع من بهم أمراض روحيّة وحالات نفسيّة، باعتبار أنّ القوّة الممنوحة للأشخاص الضعفاء - الّتي وعد بها الإمام الباقر (عليه السلام) – لا تختصّ بالأمراض الجسديّة، وإنّما كلّ ذي ضعف من قبيل الضعف في التّصميم والإرادة والضّعف في العزيمة، وعدم القدرة على التّمركز الفكري، وكلّ ضعف ونقيصة موجودة فيه آنذاك، وبالتالي سرعان ما تتبلور فيه القدرة والصّحّة لتحلّ محلّها.
وعلى ضوء هذا، يمكن أن نستفيد من كلام الإمام (عليه السلام) «ومن ذي ضعف قوي» نقطتين أساسيّتين وهامّتين، وهما:
١ - إنّ ما جاء في كلام الإمام الباقر (عليه السلام) هو محمول على الإطلاق، وغير مختصّ بالضّعف والأمراض الجسديّة؛ بل هو شامل لكلّ شخص لديه ضعف من النّاحية النّفسيّة.
ومن الملاحظ، إنّ سبب الكثير من الأمراض الجسدّية نابع من الحالة النفسيّة وضعفها، ولذا فإنّ رفع هذه النّقيصة في عصر الظّهور يؤدّي إلى إزالة النّقص الجسدي بشكل ذاتي.
عودة القدرة والقوّة
٢ - إنّ النّقطة الّتي يمكن استنباطها من هذه الرّواية والجديرة بتسليط الضّوء عليها هي: إنّ البشارة الواردة فيها، لا تقتصر على مسألة إزالة الضّعف والمرض عن البشريّة جمعاء، وإنّما تتضمّن إحلال القدرة والسّلامة بدلاً عنهما.
لأنّ الإمام قال (عليه السلام): «ومن ذي ضعف قوي»، فلا يبقى على وجه المعمورة شخص ضعيف بل سوف يتمتّع الجميع بحالة من القدرة والقوّة والاستطاعة.
وهذه حقيقة وردت أيضاً في الرّواية الواردة عن الإمام الصّادق (عليه السلام)، عن الإمام الباقر (عليه السلام)، عن الإمام السّجّاد (عليه السلام)، حيث صرّح الإمام (عليه السلام) فيها:
إذا قام القائم أذهب الله عن كلّ مؤمن العاهة، وردّ إليه قوّته(٩٣).
ونظراً للمؤشرات والدّلائل الثّابتة والقائلة، إنّ عصر الظّهور هو عصر الإيمان ورجوع الإنسانيّة إلى فطرتها السّليمة، يتّضح أنّ الجميع سيتمتّعون بالسّلامة الكاملة، بالإضافة إلى إعادة قوّتهم وقدرتهم إلى سابق عهدها.
أليس من المناسب، أن يرفع الأشخاص الضّعفاء والعاجزون والمرضى، الّذين يملؤون العالم أيديهم بالدّعاء من أجل رفع هذه المصائب والأمراض، والتّعجيل بوصول موعد الخلاص من كلّ الويلات؟
أليس من حقّ الجميع معرفة الحقيقة القائلة: بأنّ عصر الظّهور هو عصر شفاء المرضى والمبتلين؟ أو أليس من حقّ النّاس أن تعلم أنّه وبعد انقضاء ملياردات من السّنين من خلق الأرض، وبعد مرور الألوف من السّنوات من خلق الإنسان، لم يتحقّق الهدف النّهائي والحقيقي من وراء خلق الإنسان في هذا الكون؟ وهل يظنّون أنّ الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون العظيم والبديع من أجل هذا الوضع المزري والحالة المأساويّة الّتي يمرّ بها الآن؟
أليس وجود كلّ هؤلاء الأشخاص الضّعفاء وذوي العاهات والمعلولين والمرضى وناقصي الخلقة، مع علم الله عزّ وجلّ وقدرته العظيمة، دليل على أنّ العالم لم يعيش إلى الآن في ظلّ الحكومة الإلهيّة العادلة؟
ألا يعلمون أنّ الله عظم شأنه سينجي كلّ ذي همّ وغمّ ممّا هو عليه ببركة وجود أهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام)؟!
نعم؛ في ذلك العصر الّذي ستشع فيه الأنوار الزّاهرة والمشرقة للولاية على سطح المعمورة، سينجي ويخلص البارئ عزّ وجلّ - وبفضل تلك الأنوار المتلألئة لأهل البيت (عليهم السلام) - جميع البشريّة من البلايا، بحيث لا يبقى أيّ شخص يعاني فيه من أيّ شيء يذكر.
يقول الإمام الحسين (عليه السلام):
... ولا يبقى على وجه الأرض أعمى(٩٤) ولا مقعد ولا مبتلى إلاّ كشف الله عنه بلاؤه بنا أهل البيت (عليهم السلام)(٩٥).
ونستفيد من هذا الكلام النوراني أنّه سترفع في ذلك العصر العظيم كلمات من قبيل المصائب والمشاكل، وسوف لن يبقى لها مكان في قاموس البشريّة، ويصل الحزن والغمّ إلى مراحله الأخيرة، ويمحى كلّ مرض وبلاء، ويعمّ السّرور والفرح كلّ شبر من الأرض، هذا كّله نتيجة الأثر الّذي تتركه قدرة ولاية أهل البيت (عليهم السلام) والّتي ستحكم وبإرادة الله عزّ وجلّ كلّ العالم.
والملاحظة الّتي يمكن أن تسجل هنا هي: «أنّه ومنذ زمان بقراط الطبيب اليوناني المعروف، فإنّ الأطبّاء وبعد البحث والدراسة قد توصّلوا إلى الآن من اكتشاف «٤٠٠٠٠» مرض يمكن أن تصيب الإنسان، وتشخيص علائمها وإيجاد العلاج اللاّزم والشّفاء منها»(٩٦).
إنّ هذه الإحصائيّة الّتي أوردناها تتعلّق بعشرات السّنوات الّتي خلت، ونظراً لزيادة المعاصي والآثام، فإنّ هناك أمراض جديدة ظهرت إلى الوجود تأييداً لما جاء في الرّوايات والأحاديث الواردة، حيث أنّ جميعها أكّدت أنّ المعاصي وزيادتها في المجتمع توجب حصول وظهور أمراض جديدة.
عجز العلم الحديث عن استئصال جذور الأمراض
أوضحت المؤشرات الكثيرة، أنّ الدّول العظيمة الّتي تدعي كلّ هذا التّطوّر والتّقدم في مجالات العلم والمعرفة، ظلت عاجزة عن اجتثاث جذور الأمراض واستئصالها؛ بل وحتّى عاجزة عن مواجهتها والحيلولة دون انتشارها.
إضافة إلى المعاصي الّتي ذكرناها فإنّ هناك الكثير من العوامل المساعدة الّتي تسوق الإنسانيّة إلى الابتلاء بالآلاف من الأمراض المختلفة والمتنوّعة، من قبيل قلّة الإمكانيّات العلميّة، وضعف الإرادة، والفقر الاقتصادي، وعدم توفّر الوسائل الصّحّية، وتلوث البيئة(٩٧)، والنّقص الحادّ في الأدوية وضعف العلاج على المستوى العالمي(٩٨).
ويعاني اليوم ملايين الأشخاص من الآلام والأوجاع بسبب مختلف الأمراض، ولم تستطيع الدّول المتطوّرة علميّاً وحضاريّاً - حسب ادّعائها - اكتشاف الفايروس الأصلي المسبّب لها والقضاء عليه.
أليس من المفروض أنّ «المريض يطلب العلاج»؟ فلماذا ظلّ العلم رغم تطورّه، لم يقدّم شيئاً لمعالجتها مع كلّ هذا التهويل الإعلامي؟ أليس أنّ لكلّ داء دواء بل أكثر من دواء، كما قال الشّاعر الإيراني المعروف سنائي ما مضمونه:

 

قد علمنا الأدواء من غير حدّ * * * كلّ داء منها حوي ألف داء

 

فلماذا لا يتمكنون هؤلاء الّذين يدّعون أنّهم قادة العالم وسادته من إيجاد علاج واحد من ألف - وليس الآلاف! - لكيلا يكونوا مصداقاً لقول الشّاعر الإيراني المعروف صائب، حين قال ما مضمونه:

 

يا فاتحاً للنّاس دكّانه * * * وليس فيه حاجة تشتري

 

إنّ هذه النّتائج الحاصلة جاءت كلّها نتيجة الافرازات النّاجمة عن عصر الغيبة المظلم، وابتعاد العالم عن الحكومة العادلة للإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه)، الشّاهدة على الخليقة، والمطّلعة على كلّ ذرّة في عالم الموجودات.
ومهما يكن من أمر، فإذا حكم خليفة الله في الأرض، ستمحى بكلّ تأكيد كلّ آثار الجهل والعجز، وذلك انطلاقاً من كون عصر الظّهور هو عصر إحياء كلّ العوامل الإيجابيّة والقيّمة، وإزالة العوامل المحبطة والسّلبيّة عن كلّ مناحي الحياة.
نعم؛ علينا أن نفهم أنّ حالة الضّعف والجهل ستفقد مصداقيتها وتولّي إلى الأبد في ذلك العصر، الّذي يكون الدستور الإلهي هو الحاكم الأوّل والأخير فيه، وستنتهي كلّ العوامل الهدامة والمحرّمة وتزول عن جادة الإنسانيّة، ولكن في عصر الغيبة فإنّ الوضع مختلف؛ حيث مزج الحقّ مع الباطل، وأصبح من الصعوبة بمكان فرز، وتشخيص العوامل الإيجابيّة عن السّلبيّة.
وبهذا الدّليل سيبقى معرفة العامل الأساسي الكامن وراء الكثير من الأمراض مجهولاً وغامضاً(٩٩).
ونبيّن هنا نموذجاً واحداً: لم تعرف أو تشخّص حالات الضعف الجنسي لدى الرّجال الحاصل بفعل الأمواج الّتي يتركها النّقّال.
«يقول العلماء البلغاريّون: يؤثر حمل النقّال القويّ على الرّجال تأثيراً كبيراً. ويقول الباحثون في جامعة «زكد» البلغاريّة أيضاً: تتمكّن الأمواج الصّادرة من النّقّال هذا من تقليل الحيامن في الرّجال إلى الثّلث.
وقدّمت نتائج هذا التّحقيق الّذي جرى على أكثر من ٣٠٠ رجلاً إلى مؤتمر معرفة الجنين والولادة الإنساني في أوروبا.
وهذا التّحقيق هو الأوّل من نوعه الّذي يجرى حول كيفيّة تأثير الأمواج الكترو مغناطيسيّة على حيامن الرّجال، واستطاع من الخروج بنتيجة مفادها: أنّ الرجال الّذين يستعملون النّقّال طوال اليوم معرضون إلى إمكانيّة انخفاض حيامنهم إلى الثّلث بالنّسبة إلى نظرائهم الّذين لا يستعملونه. بالإضافة إلى هذا الأمر فإنّ حركة الحيامن الباقية ستصبح غير عاديّة ممّا يؤدّي على التّأثير على المبيض وعلميّة التّخصيب.
وهذه النّتائج توضح أنّ النّقّال القويّ يؤثر بشكل سلبي على حيامن الرّجال وعمليّة الإنجاب عندهم.
وأظهر البرفسور «هانس ايورس» الرئيس السابق لجمعيّة الولادة في أوروبا: أنّ هناك الكثير من العوامل الأخرى الموجودة في هذا البحث قادرة على وضع بصماتها الواضحة على الرّجال، ولكنّها لم تأخذ نصيبها من البحث والدّراسة إلى الآن، لهذا يجب البحث وبشكل أكثر دقّة في التّأثيرات الجانبيّة للنّقّال على حيامن الرّجال»(١٠٠).
وأيضاً هناك تقارير تكشف أنّ الصّناعات الحاليّة هي عامل مهمّ أخر للكثير من الأمراض المختلفة:
١ - أحد هذه التقارير يقول: إنّ هناك تخوّفات من الإشعاعات الكترومغناطيسيّة الّتي يرسلها الجوال، حيث تصيب سلامة الإنسان وصحّته في الصميم، خصوصاً وأنّ هناك رأي قائل: إنّ هذه الأشّعة بإمكانها التّأثير على خلايا الجسم والدماغ، وأيضاً على كلّ النّظام الدّفاعي للجسم فتعرّضه إلى الإصابة بأمراض خطيرة وفتاكة مثل السّرطان أو الآلزايمر.
وتشير التحقيقات الأخيرة الّتي أجريت في المختبرات الأوروبيّة أنّ الأمواج والإشعّاعات الراديويّة الصّادرة من الهواتف المحمولة تدخل وباستمرار إلى DNA الإنسان والحيوان، وبالتّالي توجد تغيّرات في تلك الخلايا.
ومن الممكن أن تكون هذه التغيّرات هي العلّة الاحتماليّة لمرض السّرطان، ولكن هذه التحقيقات ظلّت تراوح في مكانها، ولم تؤكّد بشكل قاطع: هل أنّ هذه التغيّرات الحاصلة في الخلايا لها علاقة بمرض معيّن أم لا؟
وهناك دراسات أخرى تبيّن حصول تغيّرات بيولوجيّة مشابهة، ولكن لم تعط الدّليل الكافي حول تأثيراتها المباشرة على الإنسان وصحّته.
وعلى أيّ حال، فإنّ التّجارب الّتي أجريت على الفئران أوضحت بشكل لا يقبل الشكّ، أنّ الأمواج الصّادرة من الهواتف المحمولة لها القابليّة على الإضرار بسلامتها، ولكن لم يتّضح بعد: هل أنّ هذه النّتائج الّتي تمّ الحصول عليها تؤثر على الإنسان أم لا؟
وأوضحت أيضاً أحد الدّراسات الّتي أجرها علماء فنلنديّون في سنة ٢٠٠٢م أنّ الأمواج الكترومغناطيسيّة تؤثر على الأنسجة الدماغيّة، ولكن عاد هؤلاء وقالوا: أنّهم بحاجة إلى المزيد من الوقت لإجراء تحقيقات وتجارب إضافيّة لإثبات: هل أنّ هذه الأمواج لها ذلك التأثير على الإنسان الحيّ أم لا؟
وادّعى عدد من العلماء السويديّين أنّهم عثروا في سنة ٢٠٠٢ م على حلقة وصل وارتباط ما بين النّقّال الّذي يحتوي على نظام قديم بإسم «أنالو» وبين الأورام الموجودة في الدّماغ. وبيّنت هذه الدّراسة أنّ ٣٠% من الأشخاص الّذين استفادوا من هذا النّظام تعرّضوا إلى هذه الأورام المتقدّمة عن غيرهم، وكانت هذه النّتائج مثيرة للجدل، ولكن إلى الآن لا يوجد تحقيق أو دراسة مشابهة، توضح التّأثيرات الّتي تتركها الأجهزة الحديثةGSM على سلامة وصحّة الإنسان.
وهناك تقارير يشير أنّ الأشخاص يصابون بأوجاع في الرّأس وحالة من التّعب والإرهاق، أو فقدان التّمركز والسّيطرة بعد الاستفادة من النّقّال(١٠١).
٢ - إنّ الأمواج الراديويّة الّتي تنبعث من النّقّال تصيب خلايا الجسم وDNA، حيث أنّ التّعرّض المستمرّ ولفترات طويلة يؤدّي إلى إصابة تلك الخلايا، ولا يمكن في أيّ حال من الأحوال إعادتها إلى وضعها وعهدها السّابق.
ويمكن مشاهدة هذه النّتائج والّتأثيرات على الجيل الثّاني حيث أنّ حصول الطّفرة في DNA يكون بسبب مرض السرطان.
ولهذا السّبب فإنّ العلماء يؤكّدون ويوصون على عدم استفادة الأطفال من الهواتف النّقّالة إلاّ عند الحاجة الضّروريّة، باعتبار أنّ الطّفل يكون أكثر عرضتاً للإصابة في تلك الخلايا من الكبار.
بالطبع فإنّ الشّركات المصنعة للهواتف النّقّالة، تدعي أنّه لم يعرف إلى الآن أيّ تأثيرات جانبيّة تتركها هذه الأجهزة على جسم وخلايا الإنسان، في الوقت الّذي يستفيد أكثر من ١/٥ مليار شخص في العالم منها(١٠٢).
على أيّ حال فقد مضت سنوات كثيرة على اختراع الهواتف النّقّالة ولكن لم تعرف ما هي الآثار الّتي تتركها على نفسية وأعصاب الأشخاص، ولكن سيأتي ذلك العصر الّذي ينهل الجميع من النّبع الرّقراق لعلوم أهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام) حينما لا تبقى الاُمور مجهولة هكذا، وستكشف جميع مصادر وعلل الأمراض، وحينما يعمل على القضاء عليها ومحوها عن هذا الكون الرّحب.
إذن؛ ألا يستدعي وصول هكذا عصر وزمان الّذي ملؤه الصّحّة والسّلامة والقوّة دعاءنا وابتهالنا وتضرّعنا إلى الله عزّ وجلّ؟!

 

٥ - تكامل العقول

 

تكامل العقول
إنّ بناء الإنسان ووجوده هي من الأمور المعقدة والمثيرة للغاية، بحيث إذا استطاع الإنسان من معرفة نفسه بالّشكل الصحيح والمناسب، فإنّه قادر على القيام بأعمال خارقة للغاية، وأمّا إذا تجاهل القدرات المكنونة في وجوده، فإنّه سيهدر ويضيع أكبر رأس مال له، وهو فوات عمره وسنين حياته.
وقد بيّن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هذه الحقيقة مرّات ومرّات من خلال أحاديثه النيّرة، وحذّر الإنسان من تجاهل نفسه وقدراته واعتقاده بأنّه عنصر لا أهميّة له، جاهلاً في وجوده عالم محيّر وعجيب.
وما أروع ما قاله أمير البيان والبلاغة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين قال:

 

أتحسب أنّك جرم صغير * * * وفيك انطوى العالم الأكبر

 

ومع الأسف الشديد نقول: إنّ المجتمع آنذاك كان غير مؤهّل لأن يقوده الإمام العظيم ولم يثمن تلك القيادة الحكيمة، وإلاّ فقد كان يطلب من الجميع السؤال، ليس عن عوالم الأرض وعجائبها، وإنّما عن السّموات وطرقها أيضاً، فلم يجبه عن طلبه هذا سوى شخص فقط قام من بين الجموع، يسأله عن عدد شعرات رأسه! ولم يسجّل التّاريخ أيّ حالة اعتراض أو توبيخ قام بها النّاس اتّجاه سؤال هذا الشخص الجاهل.
واطّلع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الإنسانيّة على القدرات العجيبة للدّماغ، وأخبر عن القوى الخفيّة له الّتي يجب على الإنسان تأجيرها وتوظيفها، ولكن لم يأخذ بذلك إلاّ أصحابه المقرّبون، وظلّت البقيّة الباقية عاجزة عن معرفة ما للدّماغ من قدرات وطاقات وكيفيّة استعمالها بالشّكل المطلوب.
ومنذ ذلك اليوم فقد مضت القرون العديدة، ولكن بقي الكثير من النّاس في جهلهم يتخبّطون متجاهلين القدرات العجيبة الّتي يحملها الدّماغ وعدم قدرتهم على إدراكها جيّداً، وظلّت الكثير من قدرات الدّماغ جامدة وساكنة وخفيّة، لم يعثروا على وسيلة وطريقة لتفعيلها وتحريكها.
ضرورة إيجاد التغيّر والتحوّل في وجود الإنسان
يستفيد الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء من القدرات والقوى المعنويّة العظيمة والخارقة للعادة والطبيعة، يعني من مقام ولايته، للحفاظ على العالم وتركيبه وتنظيمه، وبهذه المنوال والصّورة يوجد التغيّر العالمي والتّكامل الإنساني.
إذن؛ كيف تقبل الإنسانيّة الأسرار العظيمة للخلقة، وتتمكّن من هضمها والتعرّف على المقام العظيم والشّامخ للولاية، ما دامت لم توظّف كلّ الطّاقات الموجودة في الدّماغ ولم تفعلها بالشّكل المطلوب، مضافاً إلى وجود الأفكار المنحرفة والقلوب المظلمة؟!
ولهذا السبب، فإنّ الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه) وقبل طرحه الأفكار العظيمة والحقائق والعلوم الإلهيّة إلى الناس، يحتاج وبشكل ملح إلى إيجاد حالة من التّحوّل والتّغيّر في وجود الإنسان وتركيبه، وحصول تغيّر شامل في البناء الدّماغي له.
وهذا التّغيّر هو ضرورة واقعيّة وحاجة ماسّة من أجل إيجاد الأرضيّة المناسبة لقبول الإنسان الأفكار الكبيرة، والتّطوّر العجيب والمتسارع في قضايا ومسائل الدّين والعلم.
إنّ هذا التّغيّر العالمي في أصل الإنسان أمر لا مناص منه، وذلك لزيادة قدرته واستيعابه، وفهم العلوم والمعارف المتعالية لأهل البيت (عليهم السلام) بدرجة أعلى، وسيكون هذا التّحوّل مصحوباً لتغيّرات عدّة في الكون.
ومن الطبيعي فإنّ شرط التّكامل واعتلاء الثّقافة في مستقبل العالم منوط في حصول هذا التّغيّر في النّظام الطّبيعي للأرض، وأيضاً التّغيّرات الأساسيّة في العالم والإنسانيّة.
وبوضوح أكثر نقول: إنّه وكما أنّ الطفل بحاجة إلى النموّ لإدراك كلام والديه والتّحدّث معهما ووضعهما في حالة من الاستعداد والتّقبّل، وكما أنّه يجب أن يصل إلى مرحلة الشّباب لأجل العمل والسّعي المتواصل والاشتراك في النّشاطات والفعاليّات الاجتماعيّة، وكما أنّه لا يمكن أن يدرك بعض الأمور والقضايا ما دامت هناك بعض الغرائز الإنسانيّة عاطلة عن العمل، لذا فلا يمكن للإنسان من درك القضايا والمسائل المتطوّرة وفهم العلوم العالية، حتّى تعمل عنده جميع القدرات الخفيّة والعظيمة المكنونة في قلبه ودماغه.
ولهذا الدليل يجب إيجاد هذا التّغيّر والتّحوّل الّذي قلناه في العالم والعالمين حتّى نستطيع من إيجاد نوع من الدّرك الصّحيح والفهم الواضح لها.
فهل من الممكن والصّحيح الحديث عن عظمة وصعوبة الوصول إلى الكوارتزات إلى طفل لم يتعلّم المشي وليس له العلم والقدرة في تشخيص الأخطار الّتي تواجهه نتيجة وجود الثّقوب السّوداء(١٠٣)؟!
وهل يمكن بيان وشرح وسعة العالم وتفهيمه إلى طفلٍ لم يشخص الفرق بين التّبر والتّبن؟!
وهل من المعقول التّحدّث مع طفل لم يعرف عدد أصابع يده الواحدة عن سعة الفضاء والسّحاب والكوارتز(١٠٤)؟!
ففي هذا الجانب يكون بديهيّاً أنّ الطّفل لا يصل إلى مرحلة درك وفهم هذه المواضيع وتعلّمها إلاّ بعد عمليّة النّموّ والرّشد الّتي يمرّ بها.
ومن هذا المنطلق فإنّ البشريّة بحاجة إلى مقوّمات الحياة القلبية، وتوظيف جميع الخلايا الدّماغية، وتجاوز مرحلة التّكامل العقلي، لأجل درك وقبول المسائل المهمّة عقلاً وقلباً.
الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا فداه وتكامل العقول
هناك بعض الأسئلة الّتي تطرح في هذا المجال وهي: هل يوجد شخص قادر على إيجاد التّحوّل في بناء ووجود الإنسان؟
وما هي القدرة الّتي يعتمدها والّتي يمكن بواسطتها توظيف وتوجيه حركة القوى الخفيّة والعظيمة المكنونة في أدمغة البشريّة، وجعل الجميع يتحلّون بالفضائل الأخلاقيّة الرّفيعة، والالتزام والعمل بالأحكام والقوانين الإلهيّة؟!
وهل يوجد شخص يستطيع من تزريق القدرة والقوّة والحركة وتعريف الجميع بالأفكار والعقائد الكبيرة والقدرات الخفيّة العظيمة في وجود الإنسانيّة من خلال حركة اجتماعيّة سوى مصلح عالمي؟!
للإجابة على هذه الأسئلة نأتي برواية في هذا المجال منقولة عن باقر علوم الأوّلين والآخرين (عليه السلام)، تميط اللّثام فيها عن السّرّ الكامن وراء تكامل العالم، ويوضح (عليه السلام) أنّ ذلك الشّخص القادر على فعل ذلك، هو الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) ويداه المباركة؛ إذ يقول (عليه السلام):
إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع به عقولهم، وأكمل به أخلاقهم(١٠٥).
ففي هذه الرّواية هناك نقاط مهمّة وغامضة لا يتمكّن الشّخص العادّي من تحليلها والعثور على أسرارها، وذلك لأنّ كلمات وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) تحمل على سبعين محملاً.
يروي زيد الزّرّاد رواية عن الإمام الصّادق (عليه السلام) يشير فيها الإمام إلى حقائق مهمّة عن علوم ومعارف أهل بيت الوحي والرسالة (عليهم السلام):
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): نخشى أن لا نكون مؤمنين.
قال: ولم ذاك؟ فقلت: وذلك أنّا لا نجد فينا من يكون أخوه عنده آثر من درهمه وديناره، ونجد الدينار والدرهم آثر عندنا من أخ قد جمع بيننا وبينه موالاة أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال: كلاّ إنّكم مؤمنون، ولكن لا تكملون إيمانكم حتّى يخرج قائمنا، فعندها يجمع الله أحلامكم، فتكونون مؤمنين كاملين ولو لم يكن في الأرض مؤمنون كاملون، إذاً لرفعنا الله إليه وأنكرتم الأرض وأنكرتم السّماء...(١٠٦).
يمكن الاستفادة من نقاط مهمّة ومتعدّدة موجودة في هذه الرّواية، نبيّن بعضها:
١ – لا يكمل الإيمان النّوعي للإنسانيّة إلاّ حين قيام الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه).
٢ - إعطاء المال والثّروة في زمن الغيبة أولويّة وأهميّة أكثر من الإخوان في الدّين.
٣ - تتمركز العقول وتتكامل في زمن حكومة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه).
٤ - وصول أبحاث الإنسانيّة إلى أعلى مراتبها بعد تكامل عقولها.
٥ - هناك أشخاص قلائل لهم الإيمان الكامل، قبل حصول عمليّة الظّهور.
٦ - وجود هؤلاء الأشخاص باعث لبقاء وجود أهل البيت (عليهم السلام) في الأرض.
٧- إذا خلت الأرض من وجود أهل البيت (عليهم السلام) وبركاتهم، فإنّ الإنسانيّة ستفقد حتّى ذلك المقدار النّزير من الإيمان.
٨ - النّقطة الأخرى الّتي يمكن استنباطها والاستفادة منها في الرّواية هي: أنّ هناك حالة من الصّفاء والمحبّة والاتّحاد تظهر بين النّاس، بحيث يجعلون الإيمان مقدّم على المال والثروة، ويتعاملون بعضهم مع بعض، وكأنّهم جميعاً شركاء في المال والثّروة، وهذه الحالة نابعة من تكامل عقولهم أيضاً.
عالم ملؤه الصّداقة والاتّحاد
ينقل المرحوم العلاّمة المجلسي رواية في كتابه «بحار الأنوار»، حيث قيل فيها للإمام باقر العلوم (عليه السلام):
إنّ أصحابنا بالكوفة جماعة كثيرة فلو أمرتهم لأطاعوك واتّبعوك.
فقال: يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته؟! فقال: لا.
قال: فهم بدمائهم أبخل.
ثمّ قال: إنّ النّاس في هدنة نناكحهم ونوارثهم ونقيم عليهم الحدود ونؤدّي أماناتهم حتّى إذا قام القائم جاءت المزاملة ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته لا يمنعه(١٠٧).
لا شكّ فإنّ عمليّة تكامل العقول تضفي نوعاً من الصّفاء والمحبّة في المجتمع، فيتحلّى الجميع بالصّداقة والاتّحاد، وتصل الحياة الاجتماعي فيه إلى قمّة العطاء والمحبّة والشّفقة، بحيث يرى الشّخص أنّ ماله وثروته هي ملك الآخرين، وأنّ مال الآخرين هو ماله، ويمكنه الاستفادة منه في أيّ لحظة يشاء.
وهذه الحالة المعقدة والمتشابكة لا تحصل إلاّ في ظلّ الحكومة الإلهيّة العادلة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، والّتي منحت فيها الإنسانيّة مكرمة الاستفادة من كلّ قدراتها الدّماغيّة، والولوج في عالم ملؤه الصّفاء والاتّحاد والمحبّة.
فانظروا الآن إلى هذه الرّواية: يقول الإمام الباقر (عليه السلام) لسعيد بن الحسن:
أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه، فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت: ما أعرف ذلك فينا.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): فلا شيء إذاً.
قلت: فالهلاك إذاً، فقال: إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد(١٠٨).
وعلى أساس ما جاء في الرّواية هذه، فإنّ المجتمع إذا بقي بعيداً عن تلك الخصال الإنسانيّة الرّفيعة والسّامية، فإنّه لا يمكن له الاستفادة من خصلة العقل الكامل، وحسب تعبير الإمام (عليه السلام) لم تعط إلى القوم أحلامهم.
وكأنّ استفادة المجتمع من جميع قواه العقليّة أمر غير ميسّر، حيث إنّ النّاس يأخذون قدراتهم الدّماغيّة معهم إلى القبر، مثلهم مثل الكنوز الذّهبيّة الّتي تخفى بين أكوام التّراب.
ولكن في ذلك العصر الّذي تتكامل فيه العقول، لا يمحى فيه البخل وحده؛ بل إنّ جميع الصّفات الرّذيلة ستقلع من الجذور، وستزول كلّ الطّباع السيّئة، وسوف يتمتّع الجميع بالخصال والصّفات الإنسانيّة المتعالية، وهذه بالطبع كلّها من ضروريّات ولوازم العقل المتكامل.
الغلبة على طباع السّوء في عصر الظّهور نتيجة تكامل العقل
إنّ الأولياء الصّالحين والأصحاب المقرّبين والمخلصين لأهل البيت (عليهم السلام)، قد وصلوا فعلاً إلى درجات الكمال المنشود، وتمكّنوا من التّغلّب على الطّباع والعادات السّيّئة الموجودة عندهم، والوصول إلى هذه المراتب والمنازل الرّفيعة. وذلك بواسطة قواهم العقليّة الّتي ازدادت نتيجة تقرّبهم إلى الله سبحانه وتعالى بأعمالهم المستحبّة والواجبة.
وهذا هو موضوع طبيعي؛ فعندما يتكامل العقل نرى الإنسان قادراً على تخطي حاجز الأعمال القبيحة وأفعال السوء، مضافاً إلى ذلك تغلّبه على طبايع السّوء أيضاً، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حين قال: والعقل الكامل قاهر الطّبع السّوء(١٠٩).
ولذا فإنّ العقل الكامل يستطيع التّغلّب على جميع مساوئه، حتّى تلك الذّاتيّة منها، ويجعلها ترفع راية التّسليم في مقابل قواه العقليّة.
والنّقطة الجميلة الّتي يمكن الحصول عليها من خلال كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، هي أنّه من الممكن أن تكون لدى أولياء الله الصالحين وأصحاب العقل الكامل طباع سوء، وذلك قبل وصولهم إلى المراتب العليا وحصولهم على الدّرجات العالية والمهمّة، وهذه بنفسها بشارة إلى الأشخاص الّذين يرون في أنفسهم أنّهم يحملون تلك الطّباع، فعليهم أن لا يستسلموا، وأن يراهنوا على الدّعاء والعمل الصّالح، كي يصلوا إلى درجات الكمال.
وحتّى أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الرّواية رسم الخطّ البياني ومشروع عمل إلى كلّ الأشخاص الرّاغبين في الوصول إلى الكمال، وعنونها (عليه السلام) على أنّها وظيفة، فقال (عليه السلام) في تكملتها:
وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدّين والرأي والأخلاق والأدب فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب ويعمل في إزالتها(١١٠).
إنّ كتابة الأخطاء وتدوينها والسّعي إلى اجتنابها ورفعها - الأمر الّذي أوصى به أمير المؤمنين (عليه السلام) كلّ العقلاء - هو بحدّ ذاته مشروع وبرنامج عمل يستحقّ الثّناء والعظمة، حيث أنّ الشّخص إذا استطاع من تنفيذه بحذافيره وتنزيله على أرض الواقع فسيهديه ويوصله إلى المنازل العالية ويقرّبه من الطّريق المعنوي، ويزيد من تجاربه الشّخصيّة، وإنّ الشّخص الّذي تزداد تجاربه بالطّبع يزداد عقله، والشّخص الّذي يزداد عقله ينضج ويستطيع قطع مسافة ألف ميل في مدّة قياسيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ زيادة العقل لآفاقه الواسعة نتيجة التّجربة هي نقطة أشار وصرّح بها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في بداية هذه الرّواية حين قال (عليه السلام):
العقل عقلان؛ عقل الطبع وعقل التجربة، وكلاهما يؤدّي إلى المنفعة(١١١).
وعلى أساس هذا، فبالإضافة إلى وجود العقل الذّاتي والعقل الفطري عند الأشخاص فإنّ هناك عقل تجربيّ أيضاً، وهذا مرده إلى التّجارب الّتي يكتسبها الإنسان وزيادتها يوماً بعد آخر، وينصهر كلا القسمين من العقل الذّاتي والتّجربي في بوتقة المنفعة، كما أشار إلى ذلك أمير البيان والبلاغة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
ويمكن استخلاص بعض النّقاط من المطالب الّتي ذكرناها آنفاً وكالآتي:
١ - العقل قسمان: ذاتي وتجربيّ.
٢ - كما وأن العقل الذّاتي يرشد الإنسان إلى المصالح والمنافع، فإنّ العقل الاكتسابي والتجربيّ لهما هذه الخصوصيّة أيضاً.
٣ - يجب على العاقل تدوين مساويه الأخلاقيّة والدّينيّة، والعمل للقضاء عليها.
٤ - عدم يأس الإنسان من الوصول إلى المقامات المتعالية بسبب الأخطاء الصّادرة منه في الماضي، والتّفاؤل بمستقبل مشرق ومتطلّع من خلال سعيه الحثيث وأخذه العبر الدروس والإرشادات من قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا.
٥ - إنّ جميع أولياء الله الصّالحين وأصحاب الأئمّة (عليهم السلام) المقرّبين لم يكن لديهم تلك الطّباع والعادات الحسنة في بداية الأمر، وإنّما حصلوا عليها من خلال رياضات خاصّة.
٦ - إنّ العاقل الكامل أو الأولياء الصّالحين هذبوا طباعهم السّيّئة بواسطة قواهم العقليّة.
٧ - إنّ الشّخص الّذي يحمل عقلاً كاملاً تكون لديه مقامات متعالية، باعتبار أنّ حامل هذه الصّفة ستأهّله للارتباط مع عالم الملكوت. وبالتّالي يصبح ملكوتيّاً. ومثل هذا الشخص ينشرح صدره ويكون له نور إلهي، يرى بواسطته الحقائق على حالها، يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز:
«أَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله اُولئِكَ في ضَلالٍ مُبينٍ»(١١٢).
نعم؛ إنّ الأشخاص الّذين نالوا مراتب الكمال العقلي، فهم أولئك الّذين تفتحت بصائر قلوبهم، ونجوا من عمى القلب الّذي هو أسوأ من عمى العيون.
يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): شرّ العمى عمى القلب(١١٣).
الارتباط مع عالم الغيب
من بديهيّات الأمور أنّ الشّخص الّذي ينجو من عمى القلب وينشرح صدره، فإنّه يرى الأنوار المضيئة بشكل أكثر وضوحاً وشفّافيّة وينجذب إليها. فتكون الجوارح الباطنيّة لهكذا قلب منفتحة، ويتنوّر بنور الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) ويكون مثله مثل «هالو»(١١٤)، فبمجرّد سماع صوت الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) علم من أيّ جهة من العالم ناداه، فيوصل نفسه إلى محضره المبارك. فهؤلاء الّذين تفتحت قلوبهم؛ فإنّهم يرون الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) بعيون قلوبهم.
يقول الإمام السجّاد (عليه السلام) في رواية طويلة:
ألا إنّ للعبد أربع أعين: عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه، وعينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللّتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته، وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه(١١٥).
المظهر الكامل للغيب
إنّ واحداً من موارد الغيب - بل من أهمّها - الوجود المقدّس للإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه)، الّذي يراه عدد قليل من المؤمنين والصّالحين بالعين الباطنيّة.
وقد عبّر القرآن الكريم في أحد آياته الشّريفة عن ذلك بقوله: «اَلَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»(١١٦)، وصرّح بهذا الموضوع أيضاً من خلال التّفاسير الواردة عن أهل بيت العصمة والطّهارة (عليهم السلام).
ونحصل من خلال الإطلاق الوارد في الرّواية السابقة، وانضمام هذه الآية المباركة إليها على نتيجة وهي: إنّ الأشخاص الّذين فتح الله عزّ وجلّ بصيرتهم فإنّهم يستطيعون بالتّأكيد من الارتباط مع الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) في عصر الغيبة، ويرون ذلك الإمام الهمام الّذي هو المظهر الكامل للغيب ببصائرهم القلبيّة.
حوادث مهمّة عن المرحوم السيّد بحر العلوم
لا شكّ في أنّ المرحوم السيّد بحر العلوم هو نموذج بارز وشاخص لهكذا أشخاص، فقد كان هذا العالم الجليل يرى وقائع وحوادث يعجز الآخرون عن رؤيتها، ونتطرّق هنا إلى ذكر بعض من محطات حياته الكريمة، لأخذ النتيجة النهائيّة من هذا البحث:
ينقل المحدّث النوري رحمه الله في كتاب «دار السلام» عن المرحوم الشيخ تقي ملاّ كتاب الّذي كان أحد طلبة المرحوم آية الله السيّد بحر العلوم قصّة فيقول:
كنت مع السيّد أعلى الله مقامه في أحد أسفاره، فحّطت القافلة الّتي كنّا فيها في أحد الخانات فنزلنا في طرف من أطرافه، فجاء رجل يسافر بمفرده وحطّ في الطرف المقابل لنا، ولما شاهد السيّد الرجل طلبه.
فجاء وقبّل يد السيّد وجلس بالقرب منه، ثمّ بعد ذلك شرع السيّد بالسّؤال عن الرّجال والنّساء فرداً فرداً والرجل يجيبه قائلاً: إنّ الجميع بصحّة وعافية.
ولمّا ذهب الرجل بدت عليّ علامات التّعجّب، فسألت السيّد قائلاً: إنّ مظهر الرّجل الخارجي يوحي أنّه ليس من أهل العراق.
فأجاب السيّد: نعم؛ إنّه من أهل اليمن.
فاستغربت أكثر، فقلت: يا سيّدنا؛ إنّك لم تذهب إلى اليمن قطّ، فمن أين لك معرفة أهلها؟
فتأمّل السيّد قليلاً قبل الإجابة على السّؤال، بعدها قال: سبحان الله؛ ما أعجبك إنّني إذا سُألت عمّن في الأرض جميعاً لعرفتهم.
يعلّق المحدّث النوري رحمه الله فيقول: إنّ ما يعاضد مقولة السيّد هذه هي معرفته بالأماكن الّتي تمّ إعادة بنائها وإصلاحها، مثل: مسجد الكوفة، مسجد الحنّانة، مرقد الصّحابي الجليل كميل بن زياد رحمه الله، مكان آخر ينسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقبر النّبيّ هود وصالح (عليهما السلام)، ولولاه لاندثرت وضاعت معالمها وطمست.
والجدير بالاهتمام فقد كان جميع علماء عصره يمتثلون لأوامره وإطاعته بكلّ شيء يقوله، ولم يشكل عليه أحد.
ومن اعماله فقد كان هناك قبران لنبيّ الله هود وصالح (عليهما السلام) في«وادي السّلام»، اعتادهما النّاس، وهما موجودان منذ زمن طويل، فقال السيّد: هذا ليس قبرهما. فهدمهما أمام أنظار الجميع، وغيّر محلّ بنائهما، وهو في وقتنا الحاضر المزار الأصلي لزيارة النّاس(١١٧).
جاء في كتاب «تاريخ الكوفة»: إنّ العلاّمة الكبير حجّة الحقّ السيّد محمّد مهدي النّجفي المشهور بالسيّد بحر العلوم قدس سره. له آثار خالدة وباقية من جملتها: المقامات المقدّسة في مسجد الكوفة والّتي بقيت مجهولة وغير معروفة عند النّاس، وكان عددها قليلاً لا يعرفها أحد إلاّ الّذين لهم البصيرة في الدّين وعددهم قليل جدّاً.
فأخذ السيّد رحمه الله على عاتقه مسؤوليّة تشخيص وتعيين تلك المقامات، وبنى عليها علائم ومحاريب، ووضع عموداً صخريّاً في محراب النّبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأجل تعيين القبلة، وهذا الشاخص يعرف اليوم بإسم «الرخامة»(١١٨).
ومن جملة آثار السيّد رحمه الله أنّ هناك مكاناً مخصوصاً في مسجد السّهلة للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) كان النّاس يجهلونه، فأمر السيّد ببناء قبّة عليه ليصبح مزاراً عظيماً. بالطبّع فإنّ عمله هذا ليس من الخوارق؛ لأنّه كان عارفاً ومطّلعاً ببصيرته على هذا الأمر(١١٩).
عندما جاء العلاّمة الكبير شيخ العراقَين (الكوفة والبصرة) الشيخ عبد الحسين الطهراني قدس سره إلى العراق لزيارة العتبات المقدّسة والإقدام على بنائها، فأوّل شيء أراد البحث عنه هو قبر المختار رحمه الله.
فأخذ البحث في أطراف مسجد الكوفة، وكانت العلامة الّتي لديه هو أنّ قبر المختار رحمه الله واقع في الصحن الشريف لمسلم بن عقيل (عليه السلام) وملاصق إلى الجامع الكبير، ويقع في تلّة مرتفعة أمام قبر هاني بن عروة رضى الله عنه، ولهذا بدأ بالحفر من هناك فظهرت آثار حمام فيه، ولهذا تيقّن أنّه ليس المكان الّذي فيه قبر المختار. ولكن بقي الشيخ يبحث عنه لكن بدون جدوى، إلى أن قال له العلاّمة الكبير السيّد رضا بن آية الله السيّد بحر العلوم رحمه الله:
إنّني كنت أشاهد والدي عندما كان يمرّ من الجانب الشرقي بالقرب من الحائط الواقع أمام مسجد الكوفة (المكان الّذي مزار المختار) يقول: نقرأ سورة الفاتحة للمختار رحمه الله ويقرأ.
فأمر الشّيخ بالحفر في ذلك المكان، فظهر حجر كتب عليه: «هذا قبر المختار بن أبي عبيدة الثّقفي»، وتبيّن أنّ قبر المختار في هذا المكان(١٢٠).(١٢١)
العلامة
توجد في بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) حقائق ونقاط مهمّة تدور حول عصر الظّهور المتألّق يصعب استيعابها وتحملها لبعض النّاس، مثلها مثل بقيّة المواضيع والقضايا الّتي تطرّقوا إليها، ولهذا السّبب فقد أمروا أصحابهم إخفاء هذه القضايا عن الأشخاص الّذين لا يملكون الأرضيّة المناسبة لها.
فبالإضافة إلى طرحهم (عليهم السلام) هذه الحقائق والنّقاط الخفيّة والصعبة، فقد كانوا (عليهم السلام) يصرّحون عن قضايا أخرى مهمّة، تستطيع الأمّة من قبولها واستيعابها وهضمها بسهولة، وذلك بسبب وجودها الخارجي.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الله سبحانه وتعالى ومن أجل إتمام حجّته وتقريب الحقائق إلى أذهان النّاس، يأتي بحوادث من الخارج مشابهة لها لتقريب المعنى الموجود في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) إليهم.
فأنّى للناس الّذين يعيشون في ظلمات عصر الغيبة، ولم يشاهدوا النّور المشرق لعصر الظّهور، من تجسيد ذلك العصر في أذهانهم؟
وكيف يمكن للنّاس الّذين وقعوا في أسر عصر الغيبة المظلم، ولم يروا حريّة عصر النّجاة تصديق قدرات وطاقات إناسه؟
وكيف يتمكّن السّياسيّون وأصحاب الأفكار الضيّقة والمحدودة، والّذين يعتقدون أنّهم أصحاب القرار في هذا العالم، تصديق أنّ حضارتهم الخاوية ستتغيّر بأيادي رجال مجهولين؟
إنّ المنحرفين فكريّاً وعقائديّاً فإنّهم ما داموا لم يروا الأشياء ويحسّوا بها، فإنّهم لا يقبلوها ولا يذعنوا لها، فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يثبت حجّته عليهم؟
شخص عادّي ولكن بدماغ عظيم!
عندما نستقرئ التّاريخ ونستنطقه، نرى أنّ الإجابة على هذه الأسئلة سهلة وبسيطة؛ حيث نرى إنّ الكثير من الإمدادات الغيبيّة والحوادث الماورائيّة الّتي وقعت فيه، لعلّها كافية وقويّة وأدّلة لا يستهان به، لإقناع أصحاب العقول المتحجّرة، وتعريفهم على عالم الغيب والشّهادة.
وبما أنّ الحوادث العجيبة والمحيّرة الّتي وقعت كثيرة لدرجة أنّها رسمت علامات الحيرة على وجوه كلّ الظّالمين، وتحتاج إلى كتاب خاصّ يفرد لها، لكنّنا نرجع إلى أصل البحث، وهو تكامل عقول الإنسانيّة في عصر الظّهور العظيم.
نقول في هذا الخصوص: كيف يمكن للإنسان التمتّع بقدرات خارقة للعادة وهو لا يملك سوى ذلك الدّماغ المحدود؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، ننقل إليكم قصّة رجل ونتيجة لإيجاد التّحوّل في دماغه، أصبح صاحب قدرات عجيبة وغير معروفة.
لا نخفي سرّاً إذا قلنا إنّنا لسنا بحاجة إلى الحديث عن هكذا حوادث وقصص، ولكنّنا ننقلها إلى الأشخاص الّذين هم بأمس الحاجة لها، لنقرّب تلك الحقيقة إلى أذهانهم، ومن ثمّ نصل إلى نتائجها ومعطيّاتها:
«بتر – هوركوس» رجل من هولندا لقّب بأنّه «أغرب رجل في العالم» أو «رجل الرّادار». وجاءت هذه التّسمية باعتباره يحمل حاسّة إضافيّة بالنّسبة إلى أقرانه من البشر، فهو من خلالها يقرأ الأفكار الّتي تدور في أذهان الآخرين ويقول بماذا يفكّرون.
وكذلك يتكلّم عن الأشياء والأماكن وبألسنة مختلفة، ويكشف أيضاً بحاسّته السّادسة عمّا جرى من حوادث في الماضي وعن مستقبل العالم والأشخاص وحياتهم، وتقع كلّها صحيحة بدون أيّ استثناء يذكر.
وهذه الحقائق صدقها وأمضى عليها كلّ الأطبّاء وعلماء النّفس الّذين امتحنوا «بتر هوركوس». واللّطيف في الأمر إنّ الشرطة في أكثر من ١٦ بلداً استعانت به، لفكّ ألغاز الحوادث الجنائيّة المستعصبة، ولديه هويّة رسميّة منحت إليه من قبل الشّرطة الدّوليّة «الإنتربول».
من أين له هذه القدرات؟
إنّ المحيّر في حياة «بتر» هو أنّ هذه الحاسّة - أي السّادسة - لم تكن معه حين الولادة، وتولّدت عنده في سنّ الثّانية والثّلاثين، حيث كان قبلها رجلاً طبيعيّاً مثل بقيّة النّاس، ولكن في أحد الأيّام من سنة ١٩٤٣ ميلاديّة وبينما كان يصلح أحد أجنحة الطّائرة، سقط من على ارتفاع عشرة أمتار، ففقد وعيه.
فيقول هو بهذا الصّدد: استحضر في ذهني وقبل السّقوط بأربع ثوان شريط كامل عن حوادث حياتي، حتّى تلك اللّحظة الّتي تعرّضت فيها لعضة كلب.
وفي تلك اللّحظات الّتي كنت فيها ما بين السّماء والأرض أفكر في شيء واحد وهو: «إنّني لا أريد إن الموت».
ولما وعى بعد أربعة أيّام شعر بأوجاع شديدة في رأسه، حيث كانت تتعالى صرخاته إلى عنان السّماء.
فقالت له الممرضة: إنّ جمجمتك كسرت بشدّة عند سقوطك، وحينما سمع هذا الخبر المشوّش وبدون أن يتمكّن من الإجابة رأى نفسه في حالة عجيبة، ولمّا خرجت الممرضة من الغرفة، التفت في تلك اللّحظة إلى المريض الرّاقد بجنبه، وبدأت من هناك معجزته العجيبة والمحيّرة.
ففي الوقت الّذي لم ير هذا المريض من قبل بتاتاً، ولم يتكلّم معه بأيّ كلمة، لكنّه في لحظة واحدة شعر أنّه يعلم كلّ شيء عن ماضيه وحاضره، فقد كان هذا الإلهام عجيباً ومفاجئاً، ولم يستطع من عدم البوح بما ألهم في ذهنه فقال له: «أنت إنسان لا تعرف الحقّ».
فالتفت المريض وقال له بعصبيّة: إنّي بالفعل كذلك! ولكن كيف علمت بهذا الموضوع؟
قال «بتر»: إنّ والدك توفّى منذ أسبوع وترك لك ساعة قيّمة، وإنّك قمت ببيعها في نفس الوقت!
فسأله المريض وعلامات التعجّب بادية على ملامعه: من أين لك هذه المعلومات؟
فلم يتمكّن من الإجابة، لأنّه نفسه لا يدري من أين وصلت إليه تلك المعلومات عن شخص لم يعرفه مطلقاً.
ومن هنا فقد اعتقد المريض أنّ «بتر» هو شيطان أو جنّ، وكان يخافه كثيراً، وبهذا الشّكل فقد علم ولأوّل مرّة إنّ لديه قوّة عجيبة بدلت حياته فجأة.
موجة مجهولة في دماغه، أحدثت هذا التّغيير
يقول «بتر» عن هذه الوضعيّة: إنّني لا أعلم بالضّبط ماذا حصل! ولكن اعتقد أنّ هناك موجة غير معروفة مثل الصّاعقة أتت فمحت كلّما كان في دماغي، ووضعت محلّها أفكاراً ومعلومات جديدة.
إنّ بعض النّاس كان يعتقد أنّني قد جننت، ولا أخفي سرّاً إذا قلت: إنّني كنت أتمنّى حصول هذا كي أتخلّص من الحاسّة السّادسة هذه الّتي أخذت تؤرقني وتعذّبني، حيث كنت أقرأ شخصيّة كلّ من يدخل إلى الغرفة من سيماهم، وكلّ ما يجري في داخلهم من آمال وأحزان. كنت أقول في نفسي: هذه سرقة! حيث كنت أشعر إنّ هذا الرّجل ضربته امرأته وهذا كذا وكذا....
وكان هذا الأمر يعذّبني بالفعل، وأرغب في عدم التّدخّل في شؤن الحريم الخاصّة للنّاس، ولكن ليس في اليد حيلة آذ إنّ دماغي يفعل من دون أيّ إيعاز أو طلب منّي.
وبعد أربعة أو خمسة أيّام رأى «بتر» إنّ مريضاً يريد أن يخرج من المستشفى، ولمّا أراد مصافحته علم أنّ هذا الشّخص يحمل جنسيّة غير هولنديّة وأنّ جنسيّته الأصليّة هي إنكليزيّة وهو يعمل جاسوساً لحساب المخابرات الإنكليزيّة، وقد نزل بواسطة مظلّة النّجاة إلى الأراضي الهولنديّة حتّى يرسل المعلومات إلى بلاده.
فعلم «بتر» في نفس الوقت إنّ المخابرات الألمانيّة «كشتابو» عرفت هويّته الواقعيّة وسوف تعتقله وتقتله، وخطر في ذهنه حتّى المكان الّذي يتوقّف عنده في المستقبل وهو زقاق يعرف بإسم «كالور» فأراد أن يقول له الحقيقة، ولكن هذا الشّخص استعجل وخرج.
فنقل هذه الحقيقة إلى الدّكتور وطلب منه نقلها إلى هذا الشّخص بأيّ صورة وثمن، وبعد يومين طاردت المخابرات الألمانيّة هذا الجاسوس في زقاق «كالور» وأردته قتيلاً، ولكن تنبؤ «بتر» لم يكن في صالحه آذ إنّ الشّرطة الهولنديّة شكت به وقالت: إنّك كنت تعلم بأنّ المخابرات الألمانيّة تطلب هذا الجاسوس، إذن أنت جاسوس لهم.
وهذا الشكّ أدّى إلى تعرّضه للخطر، فبعد يومين من هذه الحادثة جاءه شخصان لقتله في المستشفى، وكان خطة القتل تتمّ بواسطة خنقه بالوسّادة والملحفة، ولكن حاسّته السّادسة أنجته من الموت المحتم.
الكلام بلسان آخر
أحد هذين الشّخصين كان أسباني فعندما أراد أخذ الوسادة ووضعها على فم «بتر» وأنفه قال له: «بتر» وبلسان أسباني وهو في حالة صراخ - ذلك اللّسان الّذي لم يكن يعرف منه كلمةٍ واحدة -: كومو - آبودرو - دار - لاموئرنه! فوضع الرّجل الإسباني الوسادة جانباً وقال: عجبا، فإنّ هذا الرّجل يقول لي: أنت تخاف من قتلي! وفي هذه اللّحظة أخذت أفكر في هذه المسألة.
فخيم سكوت فظيع، وفي النّهاية أخذ الرّجل الإسباني يد «بتر» قائلاً: تيقّنت أنّ كلامك صحيح، ولكن لا تلمني فمن المستحيل القبول بالقوى العجيبة الموجودة في داخلك.
وعلى أيّ حال فقد أخذت قصص «بتر» تشتهر في المستشفيات، فشعر أنّه سيصبح رجلاً استثنائيّاً في القريب العاجل، فأخذ يتأقلم مع هذه الحاسّة، حيث لم يصبح يخاف منها، وإنّما أراد بمساعدتها تأمين حياته.
وحينما رجع إلى عائلته لم يعرفه أعضاءها، فقالت اُمّه: صار ولدي متفكّراً!
فيقول «بتر» نفسه: لا تعلمون العذاب الّذي عانيته وأعانيه، فحينما كان جيراني يتقرّبون إليّ ويجاملوني، كنت أقرأ ما يدور في أذهانهم، وإنّ ما يقولونه هو كذب محض، وفهمت أنّ حتّى اُمّي وأخي وأخواتي يخفون عنّي قضايا وأشياء كثيرة، لكنّهم لا يستطيعون الكذب عليّ، وهذا الأمر - أعني كشف حالات الكذب - كان يعذّبني.
قوى مجهولة أدخلت المعلومات في دماغه
هل كانت هذه الحاسّة السّادسة هديّة أم نقمة؟ لا أدري، ولكنّني أعلم شيئاً واحداً وهو: أنّ هناك شخصاً وقوى أخرى تنزل هذه المعلومات والتّنبّؤات وتضعها في ذهني. وحصلت لي القناعة الكاملة بأنّني يجب أن أتقرّب إلى الله أكثر من بقيّة النّاس، لأنّه خصّني من بين كلّ هذه المليارات من البشر بهذه الحاسّة العجيبة(١٢٢)، واتّخذت قراراً بأنّ أوظف هذه الحاسّة الرّاداريّة لخدمة النّاس.
وأوّل خطوة يجب عملها هي: عليّ أن أبدأ حياة جديدة، لأنّه من الصعوبة الرّجوع إلى عملي السابق، باعتبار أنّني فقدت الشعور والإحساس الطبيعي، وحلّ محلّه الشّعور الجديد.
كنت لا أستطيع أن أفكّر في موضوع ما أكثر من عشرة دقائق أو خمسة عشر دقيقة، باعتبار أنّ ذهني تدخله في كلّ لحظة الآلاف من المواضيع حول الآلاف من الأشياء، ألأمر الّذي يجبرني على التّفكير والتّركيز على موضوع واحد مثل دقّ المسمار، وفجأة يحمر وجهي وينقطع نفسي ويبدأ الكرسي الّذي أجلس عليه بالاهتزاز.
الكلام بالإلهام
عندما كان يدخل شخص إلى غرفتي، يبدأ ذهني بالتّفكير حوله، ويشرح ماضيه وحاضره ومستقبله، وهذا الأمر لم يختصّ بالأشخاص، بل تعدّاه إلى الأشياء الّتي كنت استفاد منها، أمثال الحقيبة والمجلّة والجريدة والصّورة والمنديل، فإنّها تشرح لي حالتها ووضعيّتها أيضاً.
هذه الحالة لم تفارقني حتّى في الصّحراء الكبيرة، فهناك تبدأ الأحجار والأشجار بشرح قصصها، ولم يبق خيار لي سوى الجلوس في غرفة خالية من كلّ شيء، ولكن يبدو لي هذا الأمر في غاية الصّعوبة فكيف لشخص مثلي عمره لا يتجاوز ٣٤ عاماً القدرة على العيش حياة الرّهبان، ولم يبق أمامي سوى خيار واحد، وهو تأمين حياتي، وذلك بالاستفادة من هذه الحاسّة وإطاعة أوامرها، ومنذ هذه اللّحظة بدأت حياتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً وقويّاً معها.
في البداية قمت بإثبات هذه الحاسّة في القرى والأرياف والأعياد الوطنيّة، فكنت أشرح حياة الأشخاص المتواجدين في القاعة لمدّة ساعة أو ساعتين.
برنامج الرّادار
واشتهر سريعاً في كلّ من هولندا وفرنسا، ومن ثمّ في جميع الدّول الأوربيّة، ويحمل «بتر» اليوم الجنسيّة الأمريكيّة، وله برنامج تلفزيوني عجيب يعرف باسم «الرّادار».
في هذا البرنامج يجلس هو في أحد الإستديوهات، ثمّ يبدأ المشاهدون بالاتّصال به من أمكنة بعيدة بالهاتف، فيبدأ بالإجابة على كلّ ما يطرحونه من أسئلة بدون أن يراهم ويشرح سيرة حياتهم، وما يجري عليهم في المستقبل يقول هو: إنّ الهدف من وراء ذلك هو مديد العون والمساعدة إلى كلّ الأشخاص الّذين يحتاجون مساعدتي، مثل العثور على الأطفال الّذين فقدوا عوائلهم.
وبالفعل فقد ساعد مئات الأطفال على العثور على عوائلهم، وقمت باطّلاع الشّرطة على عمليّات السّرقة الّتي ينوي المجرمون القيام بها، ومساعدتهم أيضاً على معرفة الجناة الحقيقين، وكشف المئات من المناجم، وأمّا المورد الوحيد الّذي لم يدخل الحاسّة السادسة فيه، هو المصالح الشخصيّة ولعبة القمار؛ لأنّه إذا أراد لعبتها فسوف يخطف كلّ ثروة العالم.
ويقول هو: إنّني أعلم أنّ الله منحني هذه النّعمة من أجل مساعدة النّاس وليس لجمع المال.
وفي أحد الأيّام أرادت الشّرطة الهولنديّة الاستعانة به من أجل معرفة المسبّب الرئيسي لإحدى الحرائق الّتي إندلعت في مدينة «ونيسكوتن»، باعتبارها عجزت عن كشفه بعد مضيّ أربعة أشهر من ذلك.
فقال: إنّني أشاهد امرأة تركت أحد قفازاتها في مكان الحريق، وإنّها تتعاطى ولها علاقة بالموادّ المخدّرة وتوزيعها.
وكانت الشّرطة إلى ذلك الوقت لم تعثر على القفاز، ولم تعلم بوجوده، وحينما ذهبت مرّة أخرى إلى مكان الحريق وجدته، وبعد التّحقيق وجدوا أنّه قد أبتيع من أحد المحلاّت الموجودة في مدينة «باريس» ومن الصعوبة العثور على الشّخص الّذي اشتراه.
ولكن هذا الرّجل الرّاداري لمّا نظر إليه تمكّن من تقديم علامة أخرى لهذه المرأة فقال: إنّها غير متزوّجة وتتعاطى المخدّرات.
بهذه الوسيلة بدأت الشّرطة بالبحث الدّقيق، فتمكّنوا من اعتقالها واعترفت أنّها مدمنة.
وكذلك تمكّنت الشّرطة وبمساعدته أيضاً، كشف عصابة كبيرة لتهريب المخدّرات، ونتيجة جهوده في هذه العمليّة فقد قدّمت الشّرطة الدّوليّة شهادة تقديريّة له.
في الحقيقة نحن جميعاً نملك الحاسّة السّادسة تلك! حيث أعلى البروفسور «بوهاريش»، وهو من أكبر الأساتذة الأمريكيين في مجال علم النّفس وبعد التّحقيق والدّراسة الّتي أجراها على «بتر» لمدّة سنة كاملة:
إنّه بالفعل فإنّ الحاسّة السادسة ل«بتر» تعمل عمل الرّادار، وهي قادرة على تشخيص كلّ شيء من بعيد، وليس في هذا شكّ، ولكن من النّاحية العلميّة لا يمكننا توجيهها وإعطاء الدّليل القانع لها، ولا نعلم سوى أنّ الحاسّة السّادسة ل«بتر» هو أكثر حسّاسيّة من البقيّة، وعندما يتمرّض أو يتعب أو تصيبه حالة من العصبيّة، فإنّنا نرى أنّ هذه الحاسّة تضعف أكثر من الحواسّ الخمسة الأخرى.
وهناك شخصان أو ثلاثة على مرّ التاريخ كانت لهم هذه الحالة ولكن «بتر» هو الشّخص الوحيد، الّذي لم تأته هذه الحالة من الولادة، وإنّما حصلت له وهو في الثانية والثلاثين من العمر وبعد أحد الحوادث.
يقول هو: إنّني أعتقد أنّ جميع البشريّة لهم هذه الحاسّة من بعيد أو قريب، فقد وقعت لك أحياناً حادثة كنت متنبّئاً لها من قبل، فمثلاً تدخل إحدى القرى وفجأة يخطر في ذهنك إنّك شاهدتها من قبل.
إنّني أعتقد أنّ الحاسّة السّادسة لها نقطة مخصوصة في دماغ الإنسان مثلها مثل بقيّة الحواسّ الخمسة الأخرى، وأمّا بخصوص حالّتي فإنّ التّصادف والسّقوط أبرز هذه الحالة وأخرجها إلى حيّز الظّهور(١٢٣).
حسب هذا التقرير العجيب، فإنّ طاقات «بتر» وقدراته حصلت بسبب عمليّة السّقوط وتعرّضه إلى الضّربة الدّماغيّة.
ولكنّ الإنسانيّة بأسرها ستنال هذه القوى والقدرات العجيبة والخفيّة بعد أن تتكامل عقولها في عصر الظّهور المشرق، الّذي تملؤه الألطاف والعنايات والنّعم الإلهيّة.
حرّيّة العقل
لا شكّ في أنّ الإنسان إذا توصّل إلى تلك القدرات والطّاقات الخفيّة في وجوده، ونال مرتبة الكمال العقلي، تحرّر عقله من جميع القيود والسّلاسل الشّيطانيّة والنّفسانيّة، وتعتبر هذه الحرّيّة هي من أكبر الحرّيّات الممنوحة إلى الإنسانيّة في عصر الظّهور، وحينها سيتمكّن الإنسان وبسهولة مطلقة من الاستفادة من جميع قدراته العقليّة على أفضل ما يرام.
إن كلّ إنسان يحمل جوهرة العقل، وفيه قدرات وطاقات هائلة مثله مثل الجيش الّذي يقاد من المركز، وقد تمّت الإشارة إلى هذا الموضوع في الأحاديث الواردة عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، والّذين لهم العلم التفصيلي بكلّ أبعاد الإنسان ووجوده، حيث بيّن الإمام الصّادق (عليه السلام) في رواية عظيمة أنّ جميع الأشخاص هم جنود للعقل(١٢٤).
وصرّحت هذه الرّواية بوجود سبعين صفة متعالية «لجنود العقل» وسبعين صفة رذيلة للجهل الّذي معناه النفس(١٢٥).
وإنّ عصر الغيبة المظلم - كما هو واضح - هو عصر صولة جنود النّفس بالنّسبة لكلّ الأشخاص - ما عدا ثلّة خاصّة - والّذي من شأنه الوقوع في هوي النّفس وشباكها والانسياق وراء ما تريده منهم، وأمّا في عصر الظّهور المتألّق فإنّ النّفس الإنسانيّة ونتيجة لتكامل العقول وتطهيرها من كلّ الشّوائب، فإنّها ستقع تحت قيادة العقل وسيطرته.
وعطفاً على ما قلناه فإنّ معنى التّكامل العقلي البشري هو وصول قدرات جنود العقل في الإنسان إلى مراحلها النّهائيّة، وبالتّالي إلى حالة التّكامل.
لذا نرى أنّ العلم والقوّة والإرادة في العقل ستكتمل، وتنهزم القوى النّفسيّة السّيّئة أمثال العجز والضعف والكسل والجهل....
العودة إلى الفطرة السّليمة
من الطبيعي أنّ الإنسانيّة ستعيش وتجرب حياة جديدة، ويرجع كلّ إنسان فيها إلى فطرته الأصليّة، وذلك بعد انهزام وتقهقر جنود النّفس وتكامل القدرات السّبع للعقل.
إنّ الرجوع إلى الفطرة الأولى معناه الحصول على القدرات الّتي لم يتمكّن الإنسان من توظيفها والاستفادة منها، وذلك نتيجة اعتياده على آثار الجهل وأتباعه أهواء النّفس والشّيطان.
نحن إذا أردنا أن ننقل تلك الرّواية الواردة في «أصول الكافي»، والّتي تدور مضامينها حول جنود العقل والجهل وشرحها فسوف يطول بنا المقام، ولذا نمتنع عن ذلك، ونكتفي بشرح الفقرة الّتي ذكرناها:
عندما ندرس هذه الفقرة من الرّواية ونتمعن بها، وهي التركيز على سبعين من جنود العقل وسبعين من جنود الجهل، نصل إلى نتيجة مفادها: إنّ المجتمع الإنساني غارق في مستنقع الهوى واللّعب، وواقع في فخّ جنود النّفس ولم يستفد - إلاّ بمقدار ضئيل - من جنود العقل.
وعلى ضوء ما جاء في الرّواية، فإنّ الشّخص الّذي له العقل الكامل سيتمكّن من الاستفادة القصوى من جنوده، وسيهزم جنود الجهل والقضاء عليها.
إنّ الغاية والهدف المنشود من وراء الثّورة العظيمة للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) ونهضته الميمونة، هو منح الحياة من جديد إلى جنود العقل والسّعي إلى تكامل المجتمع الإنساني. ومن البديهي فإنّ الحياة البشريّة ستخلو من جنود الجهل (النفس) ولا يبقى لهم آثار، وذلك بعد تكامل جنود العقل.
إنّ المحصّلة النّهائيّة من وراء انهزام جيش الجهل (النفس) وتكامل القوى العقليّة، هو حصول تحوّل عظيم ومدهش في المجتمع الإنساني، وستوجد صورة مختلفة الملامح، وستتلاشى الصفات القبيحة والسّيّئة وتخلى مكانها إلى الصّفات الحسنة والجيّدة.
ومن الطبيعي فإنّ نتيجة هذا التّكامل وإحلال هذه الصّفات محلّ تلك سيوجد تغيّراً عجيباً ومثيراً، وإنّ هناك موجودات أيضاً واقعة في طريق التّكامل - كما جاء ذكرها في روايات عديدة - ستتّجه صوبه وتصل إليه.
هل تصل الإنسانيّة إلى التّكامل العقلي قبل عمليّة الظّهور؟
يسود الاعتقاد عند البعض بأنّ من الضّروري أن تصل البشريّة إلى الرّشد العقلي والتّكامل الفكري حتّى تتحقّق عمليّة ظهور الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، وبعبارة أكثر وضوحاً: إنّ الظّهور لا يتحقّق إلاّ عند حصول هذا التّكامل. فهل هذه العقيدة صحيحة أم لا؟
من الممكن جدّاً أن نقول: إنّه في حالة نموّ العقل والتّكامل الحاصل فإنّ أرضيّة الظّهور لحكومة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) ستتحقّق، ولكن يجب الالتفات إلى أنّ عمليّة ظهوره (عجّل الله تعالى فرجه)، لا ترتبط في أيّ صورة من الصّور بمسألة رشد وتكامل جميع الأشخاص، ويتّضح من خلال الرّوايات الصّحيحة الواردة عن أهل البيت العصمة والطّهارة (عليهم السلام) بطلان هذه العقيدة المذكورة.
فإذا كانت عمليّة الظّهور ترتبط ارتباطاً وثيقاً في حصول حالة الرّشد العقلي للإنسانيّة، إذن؛ يجب علينا أن نضع كلّ الرّوايات الصّحيحة الواردة عن الحروب الّتي يقوم بها الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) وأصحاب الميامين جانباً!
من الواضح فإنّ وجود المعارضين ومحاربتهم ومعاداتهم للإمام (عجّل الله تعالى فرجه) هو خير دليل على عدم وصول هؤلاء إلى الرّشد الفكري والتّكامل العقلي.

 

إذن؛ كيف يمكن الادّعاء أنّه يجب على الإنسانيّة أن تصل إلى التّكامل العقلي قبل الظّهور، حتّى تستعدّ لقبول حكومة الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه)؟!
بالإضافة على هذا، فإنّ الرّوايات لها دلالة صريحة على أنّ النّاس في عصر الغيبة، ليس لهم الرّشد الفكري والعقلي الكافي الّذي يتمتّع به النّاس في عصر الظّهور.
وكذلك فإنّ هذه الرّوايات فضلاً عن أنّها تؤكّد على أنّ المراحل النّهائيّة من العلم والمعرفة مرتبطة بظهور ذلك المصلح العالمي الكبير أرواحنا لمقدمه الفداء، فإنّها في الوقت نفسه تشير إلى أنّ التّكامل العقلي والنموّ الفكري الحاصل للمجتمع منوط بظهوره (عجّل الله تعالى فرجه) أيضاً.
قدرة وعظمة العقل
الآن وبعد أن تطرقنا إلى بحث القدرات العظيمة للعقل نقول: إنّ الإنسانيّة لم تتمكّن وإلى يومنا هذا من توظيف عقولها وإيصالها إلى غاية استعمالها.
وأذعن الكثير من المفكّرين والكتّاب عن عجزهم وعدم قدرتهم من الاستفادة من جميع القوى العظيمة للعقل، ونأتي هنا إلى ذكر عدد من تلك الاعترافات:
... يستعمل عقلنا بشكله الطبيعي جزء قليل من قدراته، ومن المؤسف أن نستفيد أحياناً من تلك القدرات، مع أنّ هناك اختيارات وقدرات عظيمة جدّاً، وضعت تحت تصرّف كلّ إنسان...(١٢٦).
يمكن إصابة كبد الحقيقة إذا قلنا: إنّ الإنسان ومع كلّ هذا التّألّق والاستعداد، فإنّه لا يستعمل طوال عمره أكثر من واحد بالمليارد من قوى عقله(١٢٧).
لا يوجد أدنى شكّ، إنّنا إلى الآن لا نعلم ماذا يجري في عقولنا الواسعة - هذا العالم الخفي في وجود الإنسان - حين حصول عمليّة الإبداع والتّفكير والعمل.
على أيّ حال، فإنّ الأساليب التّجربيّة وبجانبها التّحقيقات والدّراسات الّتي أنجزت وضعت معلومات كثيرة تحت تصرّفنا بخصوص ذلك البناء العقلي للإنسان وأساليب تفكيره، وسهلت وساعدت كثيراً لتحديد مقايس عديدة، وأقلّها تشخيص وتعيّن طرق لأجل السّيطرة على قسم من العمليّات الذهنيّة(١٢٨).
ويوضح هذا الموضوع وجود قدرات عظيمة في العقل الإنساني وعدم الاستفادة الكاملة منها، وهذا هو الابتلاء الحقيقي للإنسان في عصرنا الحاضر.
ومن المؤكّد فإنّ تلك القوى والطّاقات الخفيّة الكامنة في عقول الإنسانيّة ستتجلّى وتصل إلى الكمال المنشود في العصر الّذي تظلّل فيه الرّحمة الإلهيّة جميع البشريّة، وتمسح وتلاطف اليد العظيمة والمباركة للإمام وليّ الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) على رؤوس الإنسانيّة المعذّبة والمحرومة في عصر الغيبة.
«إنّ أوعية الدّماغ الّتي هي مكان استقرار الأفكار ومخزن الذّكريّات وجميع الأنشطة الفكريّة كالعقيدة والهدفيّة والقيود والآمال كلّها تتشكّل من العوامل الأصليّة لخلايا صغيرة جدّاً لا يتجاوز عددها من ١٠ إلى ١٣ مليار خليّة، وكلّ واحدة منها تشبه جذور ورقة الشّجر، حيث تتبادل عمليّة انتقال الإيعازات الكهربائيّة بينها.
ولا شكّ في أنّ عمليّة التّفكير والذّكريّات، هي من عمل تلك العوامل الّتي هي دوماً في ارتباط مباشر بعضها مع البعض الآخر.
أثبتت التّجربة العمليّة أنّ أكثر البشر نبوغاً لا يصرف سوى مقدار صغير من تلك الذّخائر»(١٢٩).
ويتشكّل دماغ الإنسان من أربعة عشر مليارد خليّة عصبيّة، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ كلّ خليّة لها خمسة آلاف ارتباط مع بقيّة الخلايا الأخرى، ويمكن أن يقع هذا الارتباط وسط الخليّة في مختلف الحالات، ففي هذه الحالة فإنّ عدد الحالات والدّرجات المتحرّرة من خلايا الدّماغ بالقوّة ستفوق حدود تصوّر الإنسان.
ويمكن القول: إنّ كلّ إنسان سواء أكان عادّياً أم أنّه من النّوابغ، فإنّه لا يستعمل طوال فترة حياته سوى واحد بالمليارد من طاقة دماغه.
وإذا تمّ استعمال الواحد بالمليارد من طاقة وقدرة كلّ الدّماغ، سواء كان الشّخص نابغة أم شخصاً عادّياً، فسوف يشاهد أنّ هناك فرقاً بينهما، وهذا الفرق والاختلاف يكون كيفيّاً وليس كمّياً(١٣٠).
الآن وبعد أن علمتم إنّ جميع الأشخاص يستعملون مقداراً قليلاً من أدمغتهم إليكم هذا التقرير:
«تعمل ذاكرة الحاسوب الّتي تقع في نواته المركزيّة، بواسطة مليون خليّة معلوماتيّة، يطلق عليه في مصطلح الحاسوب إسم «بايت».
ولا شكّ فإنّ عمل دماغ الإنسان يشبه إلى حدّ كبير عمل هذا الجهاز، إذ أنّه يخزن أجزاء من الحافظة والخلايا العصبيّة للمعلومات ويهيّئها، ويقوم الطّفل في المهد في هذا العمل حتّى بشكل لا شعوري. بالطبع، فنحن نختزن ونحفظ على مدى حياتنا الكثير من المعلومات، ما تمكّننا من الاستفادة منها في الأيّام الّتي نحتاج إليها، ويندر أن نقبل أنّ دماغنا لا يطمئن بحافظته العلميّة.
إنّنا إذا أجرينا مقايسة بسيطة بين عمل دماغ الإنسان وبين جهاز الحاسوب، نرى أن النّواة المركزيّة للحاسوبات المتطورّة تعمل مع أنواع مختلفة من الأوامر تقدر بنحو عشرة ملايين أمر، ويمكن حفظ عناصر أكثر من خلال الاتصال بين مفتاح الذّخيرة، بينما نشاهد أنّ دماغ الإنسان يعمل بواسطة خمسة عشر مليارد خليّة منتظمة.
إذن؛ لماذا لا يكون من حقّنا أن نسأل: ما هو الدّاعي إلى الاطمئنان إلى الحاسوب أكثر من دماغ الإنسان؟ ومع أنّ تسعة أعشار من الأدمغة خالية والحاسوب يتملّك كلّ معلوماته؟»(١٣١).
يمكن بصعوبة فائقة تصديق أنّ دماغ الإنسان فيه خمسة عشر مليارد خليّة وأنّه يحفظ جميع الأحداث والوقائع الّتي تمرّ عليه منذ اللّحظة الأولى من عمره وإلى آخر لحظة منه.
وكذلك فإنّ الدّماغ له القدرة على تسجيل كلّما يقال أو يسمع أو يشاهد أو يفعل في مكانه المخصوص(١٣٢).
ويظهر في المراحل الأخيرة من عمر الإنسان شريط أمام عينه سيردّ عليه جميع ما قام به من أعمال وأفعال. وهذه حقيقة شخّصها لنا أهل الوحي والرسالة (عليهم السلام)، والّذين هم شهود على خلقنا. ولهذا الدّليل لا يوجد لدينا أيّ شكّ في القدرات غير المعروفة للدّماغ، وازدهارها في عصر الظّهور العظيم، والإذعان بكلّ ما قاله الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بدون أيّة زيادة أو نقصان.
تعدّد الذّاكرة غير الطّبيعيّة دليل على القدرة العظيمة للدّماغ
نظراً لاعتمادنا الكلّي على مصدر الوحي في القضايا العقائديّة إذن، فنحن ليس بحاجة على أقوال الآخرين في الاستدلال بالأحداث والوقائع الماضية، ولكن من أجل إثبات الموضوع للجميع حتّى لأُولئك الأشخاص الّذين لا يقبلون الحقائق إلاّ من خلال دركها بالحواسّ الظّاهريّة، ولهذا السبب نلفت عناية هؤلاء إلى وجود أشخاص لهم حافظة غير طبيعيّة، ليعلموا أنّ دماغ الإنسان له قدرات وقوى عظيمة وخفيّة(١٣٣).
هناك شخص يدعى «اكائون» تمكّن من حفظ جميع الكتب الّتي قرأها في حياته، والّتي عددها وصل إلى ٢٥٠٠ كتاب. والمحيّر في الأمر أنّه يتمكّن من قراءة أيّ فقرة منها عن ظهر قلبه بدون أيّ توقّف أو تأمّل(١٣٤).
عرضت وسائل الأعلام المختلفة في الآونة الأخيرة قضيّة شخص إسمه «حسين قدري»، يحمل صفات في الحفظ فريدة من نوعها، حيث يتمكّن هذا الشّخص من الإجابة فوراً على الأسئلة المتعلّقة بالتّاريخ والأحداث والشّخصيّات التّاريخيّة، وتشمل حافظته أيضاً على الكثير من سجلاّت وتواريخ الولادة للشّخصيّات التّاريخيّة.
والشيء العجيب هو كتابته تقويماً مخصوصاً به على الطّريقة المعهود بها في كتابة التقويم الإسلامي (هجري قمري)، وهذا التّقويم يحتوي على قسمين:
قسم منه رتّبه على شكل فترات مائة عام وأيّام الأسبوع، والتّواريخ من سنة ١٩٠١ إلى سنة ٢٠٠٠، وجمع فيه جميع الحوادث المهمّة شهريّاً.
القسم الآخر هو الّذي يبدأ من سنة ١٥٠١ وينتهي سنة ٢٠٧٠، ورتّبه حسب اليوم وأيّام الأسبوع والأشهر وتاريخ ولادة ووفاة الشّخصيّات المهمّة والبارزة.
وبالإضافة إلى هذين القسمين هناك دورة إضافيّة تبدأ من السّنة الأولى للتّاريخ المسيحي، وتمّ حسابها على أساس اليوم والشّهر المتقدّم وإلى سنة ٣٠٠٠(١٣٥)!
ومن المسائل الرّائجة الّتي نسبوها خصيصاً إلى النّوابغ الاُعجوبات في الرّياضيّات، هي مسألة أساسها المحاسبات التّقويميّة الّتي ينجزها هؤلاء العمالقة في أذهانهم من خلال الآلاف من القرون والسّنوات، ويكشفون فيها المئات من المحاسبات والعمليّات المستصعبة (الأسبوع الواحد مركّب من سبعة أيّام، واليوم مركّب من أربعة وعشرين ساعة، والسّاعة مركّبة من ستّين دقيقة وإلى آخره).
ويستطيع هؤلاء في مدّة ثواني معدودات القيام بمئات العمليّات، وفي النّهاية يعلنون إنّ يوم الأوّل من شهر «كانون الثاني» من سنة ١٨٨٠ كان يوم الجمعة.
وتجري جميع تلك المحاسبات طبقاً إلى السّنين، والكبيسة وتغيّر التّقويم الحاصل في سنة ١٥٨٢ م، وكذلك قيامهم بحسابات معقدة من هذا القبيل، فمثلاً يستطيع هؤلاء الأخبار بمقدار الثّواني الّتي مرّت اعتباراً من موت «نرون» إمبراطور الرّوم وإلى سقوط الدّولة القسطنطينيّة.
وفي إحدى المرّات وفي مقابلة تلفزيونيّة كان هناك شخصان متخصّصان بالإحصاء أحدهم يدعى «ايناودي» والآخر «داكير» يتبادلان الأسئلة فيما بينهم، فكانت أحد أسئلتهم تدور حول يوم ١٣ أكتوبر من سنة «٢٨٤٤٤٤» أيّ يوم من الأسبوع يكون(١٣٦)؟
إنّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص العمالقة في مختلف دول العالم، هو دليل على إثبات القدرات العجيبة لدماغ الإنسان، وأيضاً عجز الإنسان الحالي عن الوصول إلى الحضارة المتطوّرة والمتقدّمة في عصر الغيبة المظلم!
لا شكّ في أنّ بعض المسائل والعمليّات الرّياضيّة الّتي يحلّها هؤلاء النّوابغ في مدّة لا تتجاوز عدّة ثواني تطلب وحسب رأي علماء الرّياضيّات إلى عدّة أشهر لحلّها، وأيضاً تحتاج إلى مدّة طويلة لدراستها وتأييدها بالطّريقة المعهودة من ثمّ مطابقتها مع الحاسوب لأجل التّأكّد من صحّتها.
علاقة الدّماغ بالقدرات فوق الطّبيعيّة
وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: ما هي الطّرق والأساليب الّتي يستعين بها هؤلاء النّوابغ والعمالقة في الرّياضيّات؟ وهل إن هذه الاستعدادات المنحصرة بهم نمت عندهم في السّنوات الأولى أو في سنوات الشّباب، أو أنّهم اكتسبوها من خلال التّجارب الّتي مرّت عليهم في حياتهم وممارسة مختلف التّمارين والمحاسبات، ومن ثمّ تكاملت؟
إنّ هناك محاولات وسعي من أجل بيان إنّ هذه القدرات هي من نتاج الحافظة الواسعة، والّتي سمّاها علماء النّفس بحدّ الحافظة. ولا شكّ في أنّنا في هذا المورد الخاصّ أمام ظاهرة فيها الذّاكرة قويّة جدّاً، وفي نفس الوقت لا يمكننا توضيح هذه الظّاهرة بالاتّكاء على مجرّد الذّاكرة فقط(١٣٧).
ومن الطريف هنا، إنّ الكثير من نوابغ الرّياضيّات لا يوجد عندهم أيّ تصوّر عن كيفيّة قيامهم بتلك العمليّات في أدمغتهم.
يقول هؤلاء: نحن نقوم بالمحاسبات فقط، والكيفيّة لا يعلمها سوى الله. إنّ الإجابة بهذه الكيفيّة لا تبعث على الحيرة قطّ باعتبار أنّ بعض هؤلاء كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة... إنّ علماء النّفس وعلماء الرّياضيّات أولوا أهميّة خاصّة وعلاقة إضافيّة إلى هكذا أفراد، وسعوا دوماً إلى كشف السرّ وراء قدرتهم وطاقاتهم(١٣٨).
البعض تجاوز هذا الحدّ ولم يسع فقط لمعرفة السرّ الخفيّ وراء هكذا أشخاص، وإنّما تكلّم عن طريق تكامل العقول.
تكامل العقل من وجهة نظر العلم الحديث
شغل بحث تكامل العقل وحتميّة وكيفيّة ذلك، بال الكثير من علماء الغرب، وحسب نظريّاتهم بالنّسبة إلى تطوّر العلم، فهم يعتقدون إنّ العقل البشري سيصبح يوماً أقوى ممّا هو عليه الآن بملايين المرّات.
يقول أحد هؤلاء وإسمه «كرزويل»: تستطيعون إيجاد حدود ١٠٠ تريليون اتّصالاً في دماغكم فقط. وهذا من الممكن أن يكون رقماً كبيراً، ولكن طريقة حفظ المعلومات فيه غير مناسبة؛ بحيث أنّ الشّخص المتبحّر في أحد مجالات العلم، يستطيع أن يتذكّر حدود ١٠٠ ألف قطعة منه فقط(١٣٩).
وسيكون ذكاء الأحياء غير البيولوجيّة في انتهاء القرن الواحد والعشرين أقوى بتريليونات المرّات من ذكاء الإنسان(١٤٠).
إنّ النقطة الّتي يجب التّدقيق فيها، هي: إنّ هؤلاء العلماء وبسبب جهلهم وعدم معرفتهم بالحقائق الكونيّة وابتعادهم عن التّعاليم الّتي جاء بها مذهب أهل بيت الرّسالة (عليهم السلام)، يقعون في أخطاء عديدة، فبالرغم من قبولهم حالة التّكامل العقلي، لكن ليس لهم العلم والمعرفة بالكيفيّة:
«فيعتقد الكثير منهم بوجوب كون الدّماغ البشري أسوة ونموذجاً للذّكاء الصّناعي، والبعض من أمثال «كرزويل» يتكلّم عن إدغام الدّماغ بالأنظمة الإلكترونيّة الذّكيّة، وذلك من أجل زيادة قدرتها وفعّاليّتها ويقول: إنّ هناك أنظمة ذكيّة صغيرة في أدمغتنا تتحرّك إلى الأعلى والأسفل، وهي العامل الرّئيس والمسبّب في زيادة أحاسيسنا وشعورنا»(١٤١).
إنّ ابتعاد هكذا أشخاص عن مذهب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) جعلهم يتخبّطون وينظرون إلى كلّ شيء بما في ذلك قضيّة تكامل العقل المهمّة جدّاً نظرة مادّيّة بحتة، ويظنّون بإمكانهم منح التّكامل لقولهم وأفكارهم بواسطة هذه الأنظمة الصّغيرة.
التّكامل العقلي والإرادة
إطلعنا في هذه البحوث على قدرات العقل، وأدركنا أنّ البشر لم يتمكّن وإلى زماننا الحاضر من الاستفادة القصوى من الجزء الأعظم من قدرة وجوده. ونبدأ الآن البحث حول تكامل العقل وقدرة الإرادة، فنقول:
إنّ من أهمّ تداعيات وآثار تكامل العقل الإنساني هو زيادة إرادتهم وصلابتها؛ لأنّه - وكما جاء في حديث جنود العقل - إنّ إرادة جنود العقل عندما تكمل فإنّ الإرادة تظهر قدرتها وتزيد من قوّتها، ومن الطبيعي فعندما تنشط الإرادة وتعمل بكلّ طاقاتها، فإنّها توجد تحوّلاً وتغيّراً أساسيّاً في حياة الإنسان.
وعلى ضوء هذا، فإنّه إذا تكاملت الإرادة يستطيع الإنسان القيام بأعمال خارقة وعجيبة في نفس الوقت، باعتبار أنّه في حالة وصولها إلى مراحلها النّهائيّة يصبح موجد وناقل ومطلع و... وهذا معناه: أنّ الإنسان يستطيع من إيجاد حالة أو خصوصيّة في شخص ما أو شيء ما أو اظهاره أكثر أو حذفه أو الإتيان به أو نقله إلى مكان آخر، أو يستطيع بواسطة الإرادة الاطّلاع على شيء لم يكن يعلمه و....
وكما قلنا فإنّ الإرادة هي شعبة من شعب قدرة العقل، وبتكامله فإنّ القدرات العقليّة تصل إلى التّكامل. لذلك فإنّ إرادة الناس ستصبح كاملة وقويّة في عصر الظّهور المشرق، نتيجة لتكامل عقولهم.
إذن؛ فسوف يتخلّص الإنسان فيه من قيود وأسر الشّيطان والنّفس وتتخلّص جيوش العقل من الضّعف والعجز، وتظهر وتنشط القدرات الخفيّة فيه.
إنّ الكثير من الأشخاص في عصر الغيبة المظلم يتركون هذه الدّنيا وهم لم ينالوا ما تمنوّه وتطّلعوا إليه، ولكن في عصر الضّياء والنّور عصر الظّهور، فإنّ كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه، فإن أراد الاطّلاع ومعرفة شيئاً مجهولاً يرفع عنه السّتار جانباً، ويطلع بالإرادة الّتي أعملها على ما أراده.
وهذه حقيقة بيّنها لنا أهل البيت (عليهم السلام)، ونقبلها بكلّ وجودنا، وسوف نلمسها في عصر الظّهور إن شاء الله. لذا فإنّه في عصر الظّهور تحصل الإرادة أوّلاً، من ثمّ تتحقّق المعرفة والعلم.
ولأجل دعم هذا الكلام وتوثيقه بالأحاديث الواردة عن بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، ننقل إليكم هذه الرّواية الواردة عن الإمام الحسين (عليه السلام):
إنّ الله ليهب لشيعتنا(١٤٢) كرامة لا يخفى عليهم شيء في الأرض وما كان فيها حتّى أنّ الرجل منهم يريد أن يعلم علم أهل بيته فيخبرهم بعلم ما يعملون(١٤٣).
فإنّنا إذا أدركنا ذلك الزّمان - إن شاء الله - سنشاهد تلك الحقائق كلّها، ونقبل بكلّ ما قرأناه في زمان الغيبة عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، لأنّنا نعلم علم اليقين أنّهم (عليهم السلام) على إطّلاع كامل بكلّ الأحداث والوقائع الّتي جرت وتجري الآن وفي المستقبل؛ كمن رأى تلك الوقائع بعينه، وهذا عهد منّا أبرمناه معهم (عليهم السلام) في عالم الذرّ، ووظيفتنا الشّرعيّة تحتم علينا التّمسّك بهم إلى أبد الآبدين.
ومع كلّ الّذي مضى، يجب أن نعلم أنّه قد كان هناك أشخاص متميّزون ونخب، وصلوا في عصر الغيبة إلى ساحل النّور، وتبلورت إرادتهم نحو البحث عن الحقيقة.
ونحن في هذا البحث نقلنا لكم قصصاً رائعة عن الحوادث الّتي جرت على المرحوم السيّد بحر العلوم؛ فإذا كان قبولها عند البعض أمر صعب لا يمكن هضمه بسهولة، لكنّنا قد هيّأنا الظّروف، وفتحنا أبواب البحث على مصرعيها، لكي تتفتّح أذهانهم وعقولهم.

 

٦ - التكامل المعنوي

 

التكامل المعنوي
إنّ الاتّجاه صوب العلوم الطّبيعيّة والانبهار بها والتّمرّغ على أعتاب القضايا المادّيّة، تمنع الإنسان من درك الأمور المعنويّة والإمدادات الغيبيّة، والتّوجّه إلى الحقائق القيّمة.
ولهذا السبب، فإنّ الشّخص الّذي ذهب وراء الأمور والقضايا الطّبيعيّة ووقع في شباك القضايا المادّيّة، سيضعف عنده الاعتقاد والتّفكير بالمسائل المعنويّة.
وعلى ما يبدو، فإنّ الكثير من الأشخاص ونتيجة تعاملهم واختلاطهم مع هكذا أناس، فقد أصابتهم العدوى ووقعوا تحت تأثير تلك الأفكار والمعتقدات الخاطئة، والسّبب هو ابتعاد هذه الشّريحة عن حقائق عالم الوجود وعدم علمهم بالأمور المعنويّة والإمدادات الغيبيّة العجيبة الموجودة لدى لأهل البيت (عليهم السلام).
إذن؛ من المفروض عدم الانجراف إلى عالم المادّيّات، وذلك من أجل درك الحقائق وزيادة الإيمان والحصول على الأمور والقضايا المعنويّة والإمدادات الغيبيّة، باعتبار الشّخص الّذي وضع على عينيه نظارة المادّيّات، كيف له رؤية الكون وما به من عجائب على حقيقتها الواقعيّة؟
وهل يكون الشّخص قادراً أن يرى الألوان والأشياء على طبيعتها بعد أن وضع نظارة ملوّنة على عينيه؟ وهل يتمكّن الإنسان الّذي احاطة نفسه بسور حصين من المادّيّات الاطّلاع على العالم الخارجي الّذي يقع خلف ذلك السور؟
وهل أنّ الشّخص الّذي حبس نفسه في مكان مغلق ومظلم يستطيع من مشاهدة الأفراح والمسرّات الّتي تقع في خارجه؟
إنّ مثل النّاس الّذين ولدوا في عصر الغيبة وعاشوا فيه وتأقلموا مع ظلمته وعتمته، مثل الّذين حبسوا أنفسهم في مكان وعجروا عن إيجاد منفذ للهروب؛ بل وإنّ هؤلاء أسوأ بمراتب عن الأشخاص الّذي يتحمّلون عقوبة السجن؛ لأنّ السّجين يعمل صباحاً ومساءاً للخلاص منه والتّفكير بالنّجاة من قيوده.
ولكن للأسف نقول: إنّ الإنسانيّة في عصر الغيبة لم ترفع الحجب والغشاوة عن أبصارها وبصائرها، فبقوا يعشون في مجهولات عمّا يدور وما يجري وراء زمانهم، لأنّهم لم يتذوقوا المذاق الطيّب لعصر الظّهور، ولم يكن هناك شخص يخبرهم عن عظمته وحلاوته.
ولهذا تراهم قد انسجموا مع صعوبات وملائمات وظلمات عصر الغيبة، ولم يفكّروا يوماً في الخروج من عنق الزّجاجة والنّجاة من معضلاته.
ومن الطّبيعي أنّنا جميعاً سجناء في سجن الغيبة، نتيجة لغفلتنا عن عصر الظّهور المشرق، وبقت هذه الحالة تتكرّر. إذن؛ فإنّ السّجن الّذي نحن فيه، هي غفلتنا الّتي لم نبرح لحظة واحد عن تركها.
ومهما يكن من أمر، فإنّ وقوع المجتمع في دائرة قيود الغيبة والغفلة، جاء بسبب نسيانهم وابتعادهم مسافات بعيدة عن القضايا المعنويّة والرّوحيّة.
البُعد المادّي والمعنوي للإنسان
وكما تعلمون فإنّ الإنسان يتركّب من بعدين: البُعد الرّوحي والبُعد الجسمي. ومن هذا المنطلق، يجب عدم الأخذ بالبُعد المادّي والجوانب الدنيويّة والجسمانيّة فقط، وركن البُعد المعنوي ووضعه على الرّف؛ بل السّعي دوماً لإيجاد حالة من التّوازن بينهما، وإلاّ فإنّ الاهتمام بأحد الأبعاد وترك الآخر، يؤدّي إلى نسيان البُعد الوجودي، وهو البُعد المعنوي.
على العموم فإنّ الإنسانيّة لم تستفد في عصر الغيبة تلك الاستفادة المطلوبة من ناحية البُعد المعنوي، ولكنّها في عصر الظّهور - الّذي هو عصر التّكامل الإنساني - سيصل إلى حالة التّكامل في كلا البُعدين المادّي والمعنوي، ويستمرّ في مسيرته الحياتيّة في فضاء عامر بالنّور والعلم والمعرفة.
وفيه أيضاً تكون جميع القوى النّظريّة والعمليّة للإنسانيّة آنذاك طاهرة؛ بحيث تكون أفكارها وأعمالها كلّها مطابقة لمذهب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ولهذا سيكون وجودهم خير وصلاح.
إذن؛ على هذا الأساس فإنّ المشاعر والإدراكات الإنسانيّة ستكون خالية من كلّ الشّوائب، وبالتّالي لن توقعهم المكاشفات الشّيطانيّة في حبائلها وشبّاكها.
فطوبى للأشخاص الّذين يدركون ذلك الزّمان، وهم على بيّنة من أمرهم، ويطيعون أوامر الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) كذلك كانوا يفعلون في زمان الغيبة.
وهذه حقيقة جاءت على لسان الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، حيث أنّ الرّوايات الّتي تبيّن وتوضح ملامح عصر الظّهور، تحتوي على نقاط مهمّة ودقيقة تعرف الإنسان على أهمّ وظائفه في زمن الغيبة، وترسم له منهاج عملي، وأيضاً تبيّن حالة السّرور والفرح الّتي تغمر أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
ينقل الإمام الصّادق (عليه السلام) عن الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله:
طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتد به قبل قيامه، يتولّى وليّه ويتبرّأ من عدوّه، ويتولّى الأئمّة الهادية من قبله، أُولئك رفقائي وذوو ودّي ومودّتي، وأكرم اُمّتي عليّ(١٤٤).
وعلى هذا الأساس يجب أن يكون الدّرك والفهم والمقدار المعرفي للإنسان، بحدّ يستطيع معه تشخيص محبّين الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) عن غيرهم، الّذين يدعون محبّته كذباً وبهتاناً، وعدم الانجراف وراء قطاع الطّرق واللّصوص، على أنّهم أتباعه وأنصاره (عجّل الله تعالى فرجه).
صحيح أنّ الرّواية الّتي نقلناه تتعلّق بعصر الظّهور المشرق، لكنّها تبيّن أيضاً الكثير من الوظائف والبرامج العمليّة المهمّة لعصر الغيبة، وللأسف نكرّر قولنا فنقول: إنّ الكثير لم يعدوها من التّكاليف والوظائف الملقاة على عاتقهم، ولم يولوها أيّة أهميّة تذكر.
وظائف النّاس
إنّ الإنسان الّذي من حقّه الافتخار في عصر الظّهور، هو ذلك الشّخص الّذي عمل بوظائفه ومسؤوليّاته في عصر الغيبة، وها نحن نبيّن عدداً منها:
١ - إنّ وظيفة الأمّة هي معرفة أوامر ومطالب الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، وتنفيذها بالشّكل الصحيح. ولا تكتمل عمليّة محبّة الإمام وانتظار ظهوره وفرجه ودركه (عجّل الله تعالى فرجه) طالما ظلّ الإنسان متمرّداً عن أوامره وقيادته (عجّل الله تعالى فرجه).
٢ - محبّة أتباع وأنصار الإمام (عجّل الله تعالى فرجه).
٣ - إنّ محبّة هؤلاء مبنيّة على أساس معرفتهم، فاذا جهل الإنسان ذلك، تكون عاقبته عدم إبراز المحبّة لهم والبراءة من أعدائهم.
٤ - من الواجب إظهار النّفرة والغضب والتّبري من أعداء الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه).
٥ - إنّ عمليّة التّبري والتّنفّر تتوقّف على معرفة هؤلاء الأعداء، إذن؛ علينا معرفتهم وصبّ جام غضبنا عليهم.
بالإضافة إلى هذه الوظائف فإنّ الشخص له وظيفة أخرى، وهي: أنّه في حالة أدراك زمن ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، عليه أن يقدّم فروض الطّاعة والولاء لجميع ما يصدر عن ذلك الإمام المقدام (عجّل الله تعالى فرجه).
ويبيّن الإمام الصّادق (عليه السلام) هذه الحقيقة لأبي بصير، فيقول (عليه السلام):
يا أبا بصير؛ طوبى لمحبّي قائمنا، المنتظرين لظهوره في غيبته والمطيعين له في ظهوره، أوليائه أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون(١٤٥).
وعلى ضوء هذه الرّواية، فإنّ أولياء الله وأتباع الإمام صاحب العصر والزمان أرواحنا لمقدمه الفداء، هم الأشخاص الّذين علاوة على أنّهم محبّون ومنتظرون ذلك الإمام، فهم في حال دركه وظهوره يكونون من أوّل المطيعين لأوامره وتعاليمه والمضحين بين يديه. وليس من المجموعة الّتي تقف ضدّ جيش الإمام في بداية الظّهور وتلتحق بصفوف أعدائه.
إنّ هؤلاء في الواقع لم يكونوا في انتظار ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، بل كانوا في انتظار الوصول إلى المناصب والجاه و... وعندما شاهدوا أنّ أحلامهم ذهبت أدراج الرّياح، ولم تتحقّق الأهداف الّتي رسموها على أرض الواقع، عارضوا الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء، ونصبوا له الحرب والعداء.
دعوة عامّة صوب التّكامل
من المشاريع والبرامج المهمّة الّتي ينجزها الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)، هي دعوة النّاس العامّة إلى الدّين الإسلامي الحنيف؛ بحيث يدعو جميع الإنسانيّة - أتباع أيّ دين أو مذهب كانوا - إلى الإسلام، ويطلب من الجميع العدول عن طريق الباطل والإسراع في الدخول إلى دين الله سبحانه وتعالى ومذهب التّشيّع.
وبما أنّ هذه الدّعوة تتزامن مع أحداث لها طبع ووقع جديد عليهم، وتكون مصحوبة بمعاجز عظيمة تهزم عساكر الكفر الكبيرة، فإنّها سوف تأخذ مأخذها من قلوبهم، وسيدخلون زرفات ومجاميع في الدّين الإسلامي.
فيقول البارئ عزّ وجلّ في محكم كتابه: «إِذا جاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ × وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دينِ الله أَفْواجاً»(١٤٦).
لذا فإنّ الناس في ذلك العصر يؤمنون بالإسلام ليس فرداً فرداً، وإنّما على شكل أفواج.
وبعد عمليّة دخول هؤلاء إلى الإسلام وتوجّهم العامّ صوب الدّين الإلهي بعد الدّعوة الّتي يطلقها الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء من أجل قبولهم الإسلام، ونتيجة للوقائع والأحداث العظيمة الّتي يرونها منذ بداية عمليّة الظّهور من الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) وأصحابه الميامين. ولهذا ستتّضح أحقّيّتهم وما هم عليه للنّاس فيدخلون مجاميع مجاميع إلى الإسلام.
يقول الإمام الصّادق (عليه السلام):
إذا قام القائم (عليه السلام) دعا النّاس إلى الإسلام جديداً، وهداهم إلى أمر قد دثر وضلّ عنه الجمهور. وإنّما سمّي القائم مهديّاً؛ لأنّه يهدي إلى أمر مضلول عنه، وسمّي القائم لقيامه بالحقّ(١٤٧).
ويمكن أن نستفيد من هذه الرّواية، إنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) وبعد قيامه، يدعو النّاس من جديد إلى الإسلام، ويهديهم إلى أمر أصبح قديماً، وقد ضلّوا عنه.
ولا يوجد فيها أيّ حديث أو كلام عن القتل وإراقة الدّماء؛ بل إنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) وبعد قيامه ونهضته تبدأ قضيّة الدّعوة إلى الإسلام والهداية والإرشاد بطرق سلمية ومقبولة.
ومن الطبيعي تحتاج عمليّة دعوة الإنسانيّة إلى الإسلام، وهدايتهم إلى الطّريق الصّحيح والحقّ إلى دليل وبرهان، وهذا ما سيقوم به - طبقاً للرّوايات الصّحيحة الواردة - الإمام صاحب العصر والزمان أرواحنا لمقدمه الفداء.
ولا شكّ فإنّ نتائج ومحصّلة مثل تلك الدّعوات المدعومة بالبرهان والدّليل والإعجاز وفيها جميع مقوّمات وعوامل الهداية والإرشاد هي الهداية الجماعية، الّتي تكون سبباً في الاتّجاه أفواجاً أفواجاً نحو الدّين الإسلامي الحنيف، ويعود القرآن الكريم في ذلك الزّمان إلى طراوته وحيويّته، وتدبّ الحياة من جديد إلى التّعاليم الإسلاميّة من بعد اندثارها وانطماسها.
وقد جاء في زيارة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):
اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أَبَا الْإِمامِ الْمُنْتَظَرِ، اَلظَّاهِرَةِ لِلْعاقِلِ حُجَّتُهُ، وَالثَّابِتَةِ فِي الْيَقينِ مَعْرِفَتُهُ، وَالْمُحْتَجِبِ عَنْ أَعْيُنِ الظَّالِمينَ، وَالْمُغَيَّبِ عَنْ دَوْلَةِ الْفاسِقينَ، وَالْمُعيدُ رَبُّنا بِهِ الْإِسْلامَ جَديداً بَعْدَ الاِنْطِماسِ، وَالْقُرْآنَ غَضّاً بَعْدَ الإِنْدِراسِ(١٤٨).
وقد جاءت كلمة «الانطماس» في اللّغة بمعنى «الفناء» أيضاً، والمقصود هنا من كلام الإمام (عليه السلام) هو واحد من هذين المعنيين، وهذا دليل واضح على حصول التّغيّر في معالم الإسلام الحقيقي في عصر الغيبة، والّذي تعاد أصالته ومكانته مرّة ثانية عند قيام الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه).
إنّ أغلب الدّول الإسلاميّة الّتي تراها اليوم لا تعمل بأحكام الدّين الإسلامي، وعلى هذا الأساس فإنّه قد انطمس ولم يبق منه سوى رسمه.
الأمر العظيم
من الواضح فإنّ هناك روايات عبّرت أحيانا عن ما يأتي به الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) بالأمر العظيم، وأحياناً أخرى بالأمر الجديد.
يقول أبي سعيد الخراساني: قلت للإمام الصّادق (عليه السلام):
المهديّ والقائم واحد؟ فقال: نعم.
فقلت: لأيّ شيء سمّي المهدي؟
قال: لأنّه يهدي إلى كلّ أمر خفي، وسمّي القائم؛ لأنّه يقوم بعد ما يموت، إنّه يقوم بأمر عظيم(١٤٩).
وكما ترون فإنّ الرّواية صرّحت بأنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) ينهض من أجل أمر عظيم وكبير.
ولا شكّ فإنّ تسمية الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) بالقائم، جاءت نتيجة عظمة ووسعة العمل الّذي يقوم من أجله.
وهنا يطرح سؤال هو: هل إنّ هذا الأمر العظيم الّذي يقوم من أجله الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، هو نفس المشروع والبرنامج الّذي دعا إليه الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، وطلبوا من الاُمّة الخضوع له والعمل به، ثمّ نسي بمرور الزّمان، وذلك بسبب غصب الخلافة وظهور البدع والفساد؟ وهل هناك أمور أخرى بقت مسكوتة عنها، ولم يفصح عنها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، فبقيت خافية عن النّاس وسوف يبيّنها الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) ويظهرها إليهم؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال، إليكم هذه الرّواية الواردة عن الإمام الصّادق (عليه السلام):
إذا قام القائم (عليه السلام) جاء بأمر جديد كما دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بدو الإسلام إلى أمر جديد(١٥٠).
وفي هذه الرّواية نرى أنّ الإمام الصّادق (عليه السلام) يشبه الأمر الّذي يأتي به الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) بالّذي جاء به الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بداية بعثته المباركة وظهور الإسلام.
وإذا كانت هذه الرّواية لم تصرّح بطبيعة هذا الأمر الجديد، ولم تبيّن ماهيّة ذلك الأمر الّذي يأتي الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، ولكنّنا نفهم منها - كحدّ أدنى - وجود أمر جديد في دعوته.
ومن الممكن أن لا يلتفت البعض بدقّة إلى التّشبيهات الّتي ذكرها الإمام الصّادق (عليه السلام) وعدم قبولهم، رغم وضوحها وصراحتها أو الظّهور الموجود فيها، ويبرّرون ذلك بأنّ الكثير من أحكام الإسلام وتعاليمه لم تصل إلى الإنسانيّة. إذن؛ فمن الطبيعي عند وصولها وتبليغها تصبح وكأنّها مسألة جديدة، ولهذا السّبب يقولون: أنّها «أمر جديد».
وفي مقام الإجابة على مزاعم هؤلاء نقول: إذا سلّمنا لما يقولون به هؤلاء، وغضضنا أبصارنا عن الصّراحة والظّهور الموجود في تلك الرّواية، فإنّ هناك نقطة أخرى الجدير نذكرها، وهي الحديث الشّريف الوارد عن الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين قال:
إنّا معاشر الأنبياء نكلّم النّاس على قدر عقولهم(١٥١).
وبالنّظر إلى هذه الرّواية، وكذلك قضيّة تكامل عقول الإنسانيّة في عصر الظّهور المتألّق، سوف نصل إلى نتيجة مفادها أنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) يطرح مواضيع جديدة لم يذكرها بقيّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) إلاّ إلى بعض من خواصّهم وأصحابهم المقرّبين، وذلك بعد وصول النّاس إلى الرّشد والتّكامل العقلي.
لذلك لا توجد أيّ نقطة مبهمة حينما يأتي الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) بأمر جديد وتعاليم وقضايا جديدة، ويبيّنها للنّاس، بعد أن كانوا يجهلوها قبل ذلك الزّمان.
ولابدّ لنا من التّوجّه إلى نقطة في غاية الأهمّيّة وهي: أنّ كلّ أمر ودستور وحكم جديد عليه أن يصبّ في خانة التّعاليم الإسلاميّة ولن يطرح على أنّه دين جديد، يأتي به الإمام صاحب العصر الزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) ويقدّمه إلى الأمّة.
ما هو الأمر العظيم؟
يقزّ هنا سؤال إلى الأذهان، وهو: هل إنّ الأمر الجديد الّذي صرّحت به هذه الرّواية، هو نفسه الأمر العظيم الّذي ذكرته الرّواية الّتي وردت قبلها، فإذا كان المقصود منهما (الأمر الجديد والأمر العظيم) هو شيء واحد، إذن؛ ما هو ذلك الأمر الّذي يقوم من أجله الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء؟
من البديهي، فإنّ الأشخاص الوحيدين الّذين يملكون القدرة على الإجابة على هذا السؤال، هم أولئك المطّلعون على الأسرار، وأمّا نحن فلا نجد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) سوى إشارات كليّة ونقاط غامضة ومبهمة.
ولا يعلم معنى وتفسير هذا الموضوع سوى بعض الخواصّ الّذين لهم المعرفة الكاملة بكلمات أهل البيت (عليهم السلام)، وعمقها وعظمتها، وبالتّالي يستنبطون منها النّقاط العظيمة والرّفيعة.
وهؤلاء هم الوحيدون والقادرون على استنباط النّقاط المجهولة من كلمات وأحاديث الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
يقول الإمام الصّادق (عليه السلام) في رواية:
حديث تدريه خير من ألف ترويه، ولا يكون الرّجل منكم فقيهاً حتّى يعرف معاريض كلامنا، وإنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج(١٥٢).
في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) يقال لهكذا أشخاص - الّذين لهم القدرة على درك وفهم المعاني المختلفة للأئمة الأطهار (عليهم السلام) -: «الفقهاء»، إذن؛ فإنّ الشّخص الفقيه هو ذلك الشّخص الّذي يفهم تعاريض كلامهم ومقاصدهم (عليهم السلام).
وعلى أيّ حال فإنّ وسعة وعظمة الأمر العظيم، قد يؤدّي إلى جرّ القلم إلى بحوث أخرى، ولكن نبقى في دائرة البحث نفسه.
بما أنّ توضيح وبيان الأمر العظيم هو خارج عن عهدت هذا الكتاب، ولكن قبل الإجابة بشكل إجمالي عليه، نتطرّق إلى نقطة تشحذ الهمم وتزيد التّقوى، وهي: هنيئاً لمن لبّى النداء الملكوتي للإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) من جوار بيت الله الحرام، وأطاعوا أوامره (عجّل الله تعالى فرجه) وجاهدوا بين يديه.
وهنيئاً لكلّ الأشخاص الّذين أدركوا العصر الذهبي للظّهور وتركوا كلّ دين منحرف، وانضووا تحت رايته العظيمة، وعاشوا في ظلّ حكومته الإلهيّة العادلة.
وستصل البشريّة جمعاء في ظلّ حكومة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)، وبفضل البناء الوجودي الأكمل لها والحياة القلبيّة والتّكامل العقلي إلى أعلى مراتب المعارف المتعالية، ويطّلعون على الأمر العظيم بعد اكتشافهم سرّ ورمز الخلقة.
وسيفهم أناس ذلك العصر أنّهم كانوا معادن ثمينة مثل معادن الذّهب والفضّة والماس...(١٥٣)، ولكن لم يطلع أحد منهم في عصر الغيبة على عظمة وجودهم!
وسيفهم أناس ذلك العصر أيضاً أنّ الله سبحانه وتعالى الّذي أطلق على نفسه من خلال خلقه الإنسان بأنّه أحسن الخالقين، ماذا أخفى من قدرات وطاقات كبيرة وعظيمة في وجودهم، ولكنّهم ظلّوا في عصر الغيبة يجهلون الأنوار المشعّة الّتي كانت تسطع على قلوبهم من قبل أهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام)!
وستكمل اليد المباركة والشّافية للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في نهاية المطاف عقولهم، وتغمر قلوبهم الحياة المعنويّة، فينظرون إلى عالم الملكوت.
والآن نوضح السؤال السّابق الّذي عنوناه، والّذي كان يدور محوره حول الأمر العظيم. نقول: إنّ الأمر العظيم هو نقطة مهمّة في خصوص ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما سيدركه النّاس في عصر الظّهور.
إنّ معرفة رمز الولاية والسّرّ الكبير والعظيم لأهل البيت (عليهم السلام) أمر محال في عصر الغيبة المظلم، باعتبار أنّ ميزان دركهم وفهمهم وحدود عقلهم ودرايتهم تكون كلّها أمور محدودة، وهذا الأمر يستمرّ حتّى عصر ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)؛ حيث - وكما ذكرنا سابقاً - فإنّه ستكتمل عقولهم بواسطة اليد المباركة والشّافية للإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، ومن هنا ستتهيّأ الأرضيّة المناسبة لقبول القضايا المعنويّة الكبيرة.
وفي ذلك الزّمان تتكامل العقول وتتخلّص من حالة الاضطراب والتّخبّط والحيرة، فيبيّن الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) النّقاط العالية للمعارف والعلوم، وهذا ما يشهد القرآن الكريم بصحّته.
وهناك مقولة نقلت عن محمّد بن عمرو بن الحسن يقول فيها:
... إنّ أمر آل محمّد (عليهم السلام) أمر جسيم مقنّع لا يستطاع ذكره، ولو قد قام قائمنا لتكلّم به وصدّقه القرآن(١٥٤).
فعلى ضوء هذا البيان، يتّضح أنّ أمر الولاية - وهي قضيّة في غاية العظمة – لا يمكن بيانه إلى عموم النّاس في عصر الغيبة المظلم إلاّ في زمان إزالة الظّالمين، والّذين هم السّبب والعامل الرّئيسي في إيجاد حالة الظّلمة، والمانع من تكامل الإنسانيّة، وبواسطة ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) تكتمل العقول والإدراكات، وفي ذلك الوقت يمنح الله سبحانه وتعالى الإذن بظهور إمام الحقّ (عجّل الله تعالى فرجه).
ومن البديهي فإنّ الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء سيكون سبباً لظهور الحقّ والحقيقة، ولا يبقى للنّاس أيّ شكّ أو تردّد.
فيقول الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) في إحدى رسائله:
إذا أذن الله لنا في القول ظهر الحقّ، واضمحلّ الباطل، وانحسر عنكم(١٥٥).
المعارف الإلهيّة
هناك الكثير من الرّوايات الّتي وردت على لسان أهل بيت الوحي والرّسالة (عليهم السلام)، تحدّثت عن ظلمة وعتمة عصر الغيبة، وأعطت صورة واضحة المعالم ومشخّصة لعصر الظّهور المتألّق.
وعرفت أيضاً أشخاص ذلك الزّمان، ووصفتهم بالصّادقين والسّعداء، وأعطتهم وصفاً آخراً وقالت عنهم بأنّهم أناس قد تخلّصوا من الهلاك وصرّحت قائلة: طوبى للّذين يدركون ذلك الزّمان.
يقول الإمام الصّادق (عليه السلام) في خصوص الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه):
هو المفرّج للكرب عن شيعته بعد ضنك شديد وبلاء طويل وجور، فطوبى لمن أدرك ذلك الزمان(١٥٦).
نعم؛ طوبى لمن يرى ذلك العصر والّزمان.
إنّ وصول ذلك العصر يعني وصول العصر الّذي يتكامل فيه العالم من جميع نواحيه، والّذي هو الهدف النّهائي والمنشود من خلق الكون أجمع، العصر الّذي يعبد الناس فيه الله عزّ وجلّ حقّ عبادته، بعد أن انتصروا على أهوائهم النّفسيّة وهزموا الّشيطان، وتكاملت عقولهم، وتعرفوا على المقام النّوراني لأهل بيت الوحى والرّسالة (عليهم السلام).
يصرّح البارئ عزّ وجلّ: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ)(١٥٧).
وقد فسّر الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) في رواياتهم بأنّ العبادة والعبوديّة هي المعرفة والبيّنة بالأمر. ولذا فإنّ هدف الخلقة وسرّها سيتحقّق بشكل عملي بعد مرور قرون طويلة، وذلك بواسطة وصول ذلك العصر الّذي هو عصر العلم والمعرفة.
وتقع الإنسانيّة في ذلك العصر الّذي لم يشهد له مثيل ولا نظير في مسير التّكامل، ويتحقّق لهم التّكامل العقلي، والنّجاة من وسوسة النّفس والأفكار الشّيطانيّة، عن طريق اليد الكريمة والمباركة لمنجي العالم ومصلحه الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) وفي النّهاية نيل مقام المعرفة.
أمّة ذلك العصر على لسان الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
سيتجوّه النّاس في عباداتهم في ذلك الزّمن نحو الله الواحد الصّمد، ويطّلعوا فيه على المقامات النّوراني لأهل البيت (عليهم السلام)، ويعرفونهم حقّ معرفتهم، ولهذا سوف يتمتّعون بسيرة طاهرة ووجوه نورانيّة.
ويقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنهم بأنّ مثلهم مثل المسك والقمر المنير.
وينقل الإمام الجواد (عليه السلام) - وفي رواية طويلة - عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حادثة خروج منتقم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
في هذه الرّواية يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اُبيّ بن كعب:
... يخرج وجبرئيل عن يمنته وميكائيل عن يسرته، وسوف تذكرون ما أقول لكم ولو بعد حين واُفوّض أمري إلى الله عزّ وجلّ.
يا اُبيّ؛ طوبى لمن لقيه، وطوبى لمن أحبّه، وطوبى لمن قال به، ينجّيهم من الهلكة. وبالإقرار بالله وبرسوله وبجميع الأئمّة، يفتح الله لهم الجنّة، مثلهم في الأرض كمثل المسك الّذي يسطع ريحه فلا يتغيّر أبداً، ومثلهم في السّماء كمثل القمر المنير الّذي لا يطفأ نوره أبداً(١٥٨).
ولا شكّ في أنّ الوجوه الّتي تشبه فلقة القمر والأنوار المشعّة للعلوم الإلهيّة ستمنح أناس عصر الظّهور مظهراً ملكوتياً، وتجلّيهم، فينظرون إلى عالم الملكوت، وما أحلى وأجمل النّظر إليه!
ينقل الإمام الجواد (عليه السلام) رواية عن الإمام الصّادق (عليه السلام)، يقول فيها إلى إلياس النّبيّ (عليه السلام)(١٥٩):
فوددت أنّ عينيك تكون مع مهديّ هذه الاُمّة، والملائكة بسيوف آل داود بين السّماء والأرض، تعذّب أرواح الكفرة من الأموات، وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء، ثمّ أخرج سيفاً، ثمّ قال: ها! إنّ هذا منها(١٦٠).
أيّ عظمة وأيّ جمال سيكون النّظر إلى الملائكة، وهي تحمل سيوف ملطخة بدماء الكافرين وتسوقهم إلى جهنّم زمراً.
الحكومة في العالم الظّاهري والباطني
إنّ واحدة من القضايا العقائديّة الّتي نؤمن به وورثناها عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، هي مسألة وقضيّة علم الإمام (عليه السلام). فحسب اعتقادنا فإنّ علم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) - وكما جاء في الرّوايات - هو من المواضيع المهمّة والحسّاسة في البحوث العقائديّة.
فنحن نقرأ في زيارة الإمام صاحب الزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء:
قد آتاكم الله يا آل ياسين خلافته، وعِلْم مجاري أمره فيما قضاه ودبّره ورتّبه وأراده في ملكوته(١٦١).
وبعد بيان هذه المقدّمة، علينا أن نفهم أنّ عصر الظّهور المشرق هو عصر حكومة العلم والمعرفة، ويقوم الامام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء بتطبيق العدالة في جميع المعمورة على أساس علمه ومعرفته، فيمنح العالم الظّاهري وغير الظّاهري حياة جديدة.
من الأمور الّتي يمكن الاستفادة منها في الرّوايات الواردة عن عجائب عصر الظّهور، إنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) لا يعمل على تكميل وتطهير العالم الظّاهري فحسب، وإنّما يطهّر العالم الباطني من جميع الموجودات الشّريرة أيضاً.
ويتّضح من هذا أنّ قيامه وثورته (عجّل الله تعالى فرجه) لا تحمل جنبة ظاهريّة، فبالإضافة إلى العالم الظّاهري فإنّه (عجّل الله تعالى فرجه) يقوم بتكميل العالم غير الظّاهري، ويجعل موجوداته تعيش في ظلّ القدرة والحكومة الإلهيّة للإمام (عجّل الله تعالى فرجه).
إذن؛ فإنّ مشروع نهضته (عجّل الله تعالى فرجه) هو شامل وجامع وكامل، ويشمل جميع أبعاد هذا الكون الرّحب، فيتكامل كلّ من العالم الظّاهري والباطني.
لذلك لا يمكن القول: إنّ ثورة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) وقدرته المباركة تخصّ النّاحية المادّيّة والظّاهرية، وتستوعب العالم الظّاهري فقط؛ بل علينا أن نعلم أنّ الموجودات غير الظّاهريّة - مثل الجنّ والشّياطين - أيضاً تكون ضمن دائرة وشعاع حكومته (عجّل الله تعالى فرجه)، فتطهّر وتصل إلى التّكامل.
عالم الملك وعالم الملكوت
من الواضح فإنّ الدّخول والولوج إلى عالم الغيب وعالم الملكوت، يجب أن يتمّ بواسطة القوى الباطنيّة والحواسّ الدّاخليّة، واستناداً لجميع المعطيّات فإنّ عصر الظّهور هو عصر تكامل عالم الملك والدّخول فيه إلى العالم الملكوتي العظيم، وتكون حالة التّعرّف على عالم الملكوت في عصر الظّهور هي حالة عامّة وتضحى قضيّة عاديّة وطبيعيّة للنّاس.
ومع أنّ الإنسان في عصر الغيبة يتمكّن من الدّخول إلى عالم الغيب وأيضاً فإنّ قدراته الدّاخليّة تسمح له وتوصله إلى عالم الملكوت، ولكن هناك أفراد قلائل يدخلون فيه إلى العالم الملكوتي العظيم.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الأشخاص الّذين فقدوا بعض حواسّهم منذ الولادة - مثلاً ولدوا وهم لا ينظرون أو لا يسمعون - فإنّهم لا يستطيعون درك عمليّة الرّؤية أو السّمع كما ينبغي، فاذا أنكروهما فإنّه لا قيمة لإنكارهم، لأنّه ناشئ عن عجزهم ووجود خلل ذاتي فيهم، وليس دليلاً على عدم وجودهما من الأصل.
وكذلك فإنّ هذا المثال ينطبق على الأشخاص الّذين يجحدون العالم الملكوتي الكبير، فهو دليل على نقصهم وعجزهم عن دركه، وليس مقياساً على عدم وجوده.
والحالة في عصر الظّهور تكون بمثابة الشّخص الأعمى الّذي تحدث معه معجزة واستطاع بواسطتها الحصول مرّة اُخرى على بصره حينها تصبح عنده عمليّة النّظر، وبمرور الوقت قضيّة طبيعيّة وعاديّة، ويتعرّف على عالم المشاهدة وعالم الملك، ويتعامل معهما بصورة عاديّة.
ففيه ستتعرّف الإنسانيّة على عالم الملكوت العظيم، وتصبح لديهم هذه العمليّة شيئاً مألوفاً بعد توظيف الحواسّ الباطنيّة والقدرات الدّاخليّة فيستأنسوا به. ولذا فإنّ مشاهدة الملائكة والجلوس والسير معها ستكون من الأمور الطبيعيّة الّتي صرّحت بها الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام).
وسيدرك أناس ذلك العصر كيف أنّهم تعلّقوا بعالم الملك والماديّات؟! وكيف غفلوا عن عالم الملكوت العظيم؟! وكيف انقضت سنوات عمرهم وهم بمعيّة الإمام المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء في ذلك الزّمان ولم يتمكّنوا من توظيف قدراتهم الدّاخليّة وحواسّهم الباطنيّة؟
وتزداد آهاتهم وحسراتهم وزفراتهم عندما يعيدون شريط ذكريّاتهم مع أعزائهم وأقاربهم، ويدركون أنّهم فقدوا الكثير منهم في عصر الغيبة، وتوسّدهم التّراب من دون أن يشاهدوا شيئاً من مظاهر عالم الملكوت الكبير والعظيم، ومثلهم مثل الأشخاص الّذين فقدوا بصرهم منذ الولادة أو فقدوه بعدها وخرجوا من الدّنيا وهم كذلك، فهم لم يحظّوا في الدّخول إلى عالم الملكوت وإدراكه.
ولهذا فإنّهم يتمنّون ويقولون: يا ليت؛ كانوا أحياءً ويتمتّعون بعصر الظّهور السّعيد - عصر تكامل القدرات العظيمة للإنسان - ومشاهدة العالم الملكوتي الكبير والعيش معاً.
هذه الحقيقة صرّح بها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) تكراراً ومراراً، ولكن وا أسفاه فإنّ عالم المادّيّات شدنا بأواصر محكمة بعالم الملك إلى حدّ جعلنا نغفل عن درك حقائق عالم الوجود الكبيرة.
الدّخول إلى عالم الملكوت من صفات عصر الظّهور
وكما أشرنا سابقاً فإنّ الناس في عصر الظّهور جميعاً هم أصحاب عقيدة سليمة، ويحملون كلّ معاني الشّرف والصّلاحيّة، وإلى جانب ذلك فلديهم كلّ مقوّمات الصّلاح رجالاً ونساءً، باعتبار أنّ الحكومة هي للصّالحين، فترشد إلى الصّلاح والخير والحثّ على القيام بالأعمال الصالحة.
القرآن الكريم يصرّح عن هذا الموضوع فيقول: (إِنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(١٦٢).
وفي هذا السّياق نشير إلى أنّ واحدة من الخصائص المهمّة والرّئيسة في الدّولة الكريمة للإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) هي عمليّة إصلاح وهداية المجتمع.
وهذا الأمر ناتج بعد انهدام وزوال عوامل الفساد والضّلال وإحلال البدائل الخاصة بالهداية والرّشاد الّتي تحدّ من ظهور الانحراف، وهذا التّغيّر الحاصل في طبيعتهم سيؤدّي بالتّأكيد إلى اتّجاههم صوب الرّشد والتّعالي، ولهذا فسوف يتشكّل المجتمع الإنساني من أمّة صالحة، يتسابقون فيه إلى الأعمال الحسنة والصّالحة.
وفي هذه الحالة تفتح أبواب العالم الملكوتي لهم للدخول ومشاهدة عالم الملكوت الباطني، باعتبار أنّ هذا الموضوع من ضروريّات وأولويّات العمل الصّالح والحسن.
ومن الطبيعي فإنّ العمل الصّالح يحدث تغيّراً وتحوّلاً في وجود الإنسان، ويفتح له جميع الأبواب الموصدة.
وكما جاء في صحيفة النّجاة للنّبيّ إدريس (عليه السلام): وبالعمل الصالح ينال ملكوت السّماء(١٦٣).
وعلى ما يبدو، فإنّ ما توصل إليه العالم في مجال الفضاء والسّماء هو غيض من فيض في الجانب المادّي، وليس الجانب الملكوتي منه؛ ولكن في عصر الظّهور وبما أنّ العمل الصّالح ينشر ظلاله بين كلّ أوساط النّاس وتقلع جذور الأعمال القبيحة والطّالحة من أساسها فستنال البشريّة بعملها عالم الملكوت والسّماء والفضاء.
إذن؛ إنّ المجتمع الإنساني في ذلك الوقت سيكون مجتمعاً ملكوتيّاً، وسيتمتّع بخصائص عظيمة تتناسب مع عظمة ذلك العصر المتطوّر والمزدهر.
ندعو الله سبحانه وتعالى أن يعجل في ظهور مولانا صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)، والإسراع في وصول ذلك الزّمان، الّذي تصل فيها الإنسانيّة إلى أعلى درجات الكمال والحضارة.
ففي هذه الدولة المباركة للإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) تظهر للإنسانيّة جميع عجائب عالم الخلقة، ويتمكّن الجميع النّظر إلى الحقائق الّتي لم يروها سابقاً، وكشف الكثير من الدّقائق المعرفيّة، ويأتي هذا بالطّبع بسبب طهارة ونقاوة أبصارهم وغضّها عن المحارم.
يقول النّبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): غضّوا أبصاركم، ترون العجايب(١٦٤).
وهذا الأمر حاصل بالطّبع باعتبار أنّ عجائب وأسرار عالم الوجود موجودة في إطار عالم الغيب والشهادة، ومع أنّ هناك الكثير من العجائب والأسرار في عالمنا الظّاهري ولكن إذا ما قورنت مع حقائق العالم الباطني فإنّها قليلة ونسبة لا تقارن.
إنّ رؤية حقائق عالم الخلقة والقضايا الكونيّة الظّاهرة وغير الظّاهرة إنّما يتحقّق شريطة أبعاد العين عن النّظرة المحرّمة وصيانتها، وإنهاء أيّ وسيلة من وسائل التّعلّقات الإنسانيّة.
فإذا استطاع الإنسان إزالة الأسباب الكامنة وراء حصول التعلّقات الدّنيويّة وعدم الانجرار وراء المظاهر الخداعة لها، وتطهير قلبه من جميع الشّوائب، فإنّه يستطيع إلى النّظر إلى حقائق الخلقة وعجائب الكون.
يقول الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خصوص هذا الأمر:
لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم، لنظروا إلى الملكوت(١٦٥).
وعلى ضوء هذا، ففي اليوم الّذي يهلك فيه إبليس والشّياطين ولا يوجد لوساوسهم شيء، فذلك اليوم الّذي يصفي فيه الله قلوب الإنسانيّة، وتمتلئ نوراً ومحبّة، عندها سينظروا إلى العالم الملكوتي النّوراني، وتزداد قلوبهم صفاءً ونورانيّةً.
النقطة المهمّة: الإحساس بالحضور المبارك!
يجب الالتفات إلى نقطة مهمّة وهي: هل إنّ هناك وجوداً أكثر ملكوتيّاً وقدسيّة من الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) في عالم الملك والملكوت في عصر الظّهور؟ إذن؛ فإنّ البشريّة تتمكّن وفي أيّ نقطة من نقاط هذا العالم الرّحب النّظر إلى الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، وترى وجودها في حضوره المبارك، ولأجل توضيح هذا الحضور يمكن لكم الرّجوع إلى رواية رائعة في هذا المضمون عن أبي بصير(١٦٦).
وهنا نقطة يجب أخذها بنظر الاعتبار إلاّ وهي: إنّ هناك عاملين مهمّين يمنعان من الإحساس بهذا الحضور ويحولان دون نظر الإنسانيّة وولوجها إلى عالم الملكوت:
العامل الأوّل: الشّيطان، والعامل الثاني: النّفس الأمّارة بالسّوء. وهذا العاملان مرتفعان بالتّأكيد في عصر الظّهور؛ حيث أنّ الأوّل زائل لا محالة، والثّاني تتحوّل فيه النّفس الأمّارة، وتصل إلى المراحل العليا والمتكاملة.
وعلى هذا، فإنّه لا يوجد أيّ عائق أو مانع يمنع المجتمع الصّالح في ذلك العصر الدّخول إلى عالم الملكوت. وأمّا في هذا العصر فإنّ الشيطان ومن خلال حيله يخدع النّفس الأمّارة للإنسان، وبمساعدة هذه النّفس يكونان مانعاً قويّاً يحول دون عدم إنسياقه إلى عالم الملكوت، وبالتّالي شدّ وثاقه ودكّه في عالم الملك.
وانطلاقاً من هذا الموضوع، فإنّ المجتمع في فترة الغيبة ليس عاجزاً عن النّظر إلى عالم الملكوت فحسب، وإنّما يوجد بين أفراده من ينكرون هذا العالم ويجحدوه!
ولهذا فمن الواجب على مجتمعاتنا اليوم إيجاد مقارنة بين العصرين وتحديد نقاط الاختلاف، كي تخرج بنتائج قد تسهم في معرفة الطّريق والسّبيل لخلاصها ممّا هي عليه.
الحديث مع كلّ غيور
هناك نقاط أساسيّة عديدة حول الاختلاف الموجود بين العصرين، عصر الغيبة المظلم وعصر الظّهور المتألّق الّذي تظهر فيه خصائص فريدة ونوعيّة تجعله يتفوّق في كلّ الأحوال على عصر الغيبة.
وبما أنّ مجتمعنا - ومع الأسف - ظلّ يتحرّك ضمن دائرة ضيّقة، فغاب عنه الاطّلاع الكافي عن تلك الخصائص، لذا بقى في مواقع متأخّرة عن الكثير من علوم مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
فمن هنا يجب على كلّ شيعي غيور أن يدرس بدقّة كلّ الأمور والعوامل الّتي تسببت بصورة أو بأخرى في بقائه على هذه الحالة، والتّعرّف عليها، والسّير نحو أسباب الرّشد والتّعالي.
ويجب أيضاً على كلّ شيعي معرفة الأسباب والدّواعي وراء تقيّده بكلّ هذه القيود وأن يعلم لماذا هو مقيّد هكذا؟ وهل يا ترى هناك سبيل لخلاصه منها؟ وما هي الأشياء الّتي جعلته يمرّ بهذه المرحلة الحرجة؟
والسّبب الّذي يعود من وراء طرح هذه الأسئلة، هو أنّه إذا استطاع المجتمع من إيجاد الأجوبة الصّحيحة عليها أو معرفتها من قريب يكون قد أوجد المناخ المناسب لإنشاء الدّولة الكريمة للإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء.
أيّها الشّباب الشيعي؛ ويا أيّها الفتيان والفتيات من أتباع مذهب أهل البيت والوحي؛ ويا طهري الأرحام والولادة؛ وأيّها الرّجال والنّساء الّذين ذرفتم الدّموع الغزيرة مئات وآلاف المرّات من أجل غصب الخلافة وجلوس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في داره، وتأوهّتم لسكوت المسلمين في ذلك الزّمان؛ فهل من الصّحيح والمناسب السّكوت كما سكت هؤلاء وعدم الاكتراث لما يجري؟
فإلى متى يستمرّ غصب مقام أهل البيت (عليهم السلام)؟ ألم يكف مرور اثنى عشر قرناً من غربة وغيبة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)؟ فلماذا تمرّ كلّ هذه القرون المتمادية من مظلوميّة أهل البيت (عليهم السلام) والشّيعة يعيشون في شتات من أمرهم؟ وما هو الشيء الّذي استوجب عدم اهتمامهم؟ ولماذا....
ونقول في مقام الإجابة على هذه الأسئلة: كسرت تلك الأيدي الخفيّة الّتي امتدّت ونفذت خططها الخبيثة وأساليبها المشؤومة في خداع النّاس وإغفالهم عن الدّين الأصيل، الّتي تسبّبت في نسيانهم باب علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وولايته. وقطعت تلك الأيادي الّتي خرجت من أكمام وأحضان أمريكا وبريطانيا و... وقامت بتدليس الأمّة وتظليلها، فأبعدوا أبناءها طوال قرون عن أصل المذهب وقائده (عليه السلام) أيضاً والاُمّة في ذلك قاصر ومقصّر.
أمّا نحن فيحظونا الأمل دوماً في الغلبة على تلك العناصر الفاسدة وقطع أيدهم الخفيّة من الأصل.
بعد هذا نرجع إلى أصل البحث ونتطرّق إلى بيان واحدة من خصائص الحكومة العادلة للإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء:
عصر الظّهور، عصر الاطمئنان والأمان
في هذا الإطار نقول: إنّ الخصائص والمزايا الّتي ينفرد بها عصر الظّهور المتألّق هي أكثر بكثير مقارنة مع عصر الغيبة، وقد تطرّقنا إلى بعضها في هذا الكتاب، وواحدة من تلك الخصائص الّتي لها ارتباط في بحثنا هذا هي خصوصيّة الأمان في ذلك العصر.
فهو عصر النّجاة والخلاص من الشّكوك وحالات الاضطراب والكآبة وموت القلوب من الأفكار السّوداء والهدامة، وفيه أيضاً تهلك الشّياطين، الأمر الّذي يسبّب إلى تحوّل جذري في النّفس، وتكامل العقول، وحينئذ يجري ذكر الله عزّ وجلّ والإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) على كلّ الألسن والأفواه، وهذا القضيّة بنفسها تبعث إلى إيجاد حالة من الأمان والطمأنينة.
وهذه حقيقة واضحة صرّح بها الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه، إذ قال:
(أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنّ الْقُلُوب)(١٦٧).
فذكر الله عزّ وجلّ يولد لدي الإنسان حالة من اليقين ويزيده، ونتيجة هذا اليقين يحصل الأمان والاطمئنان لديه. ومعناه أنّ القلب قد وصل إلى الاطمئنان الكامل فلا يبقى فيه مكان للشكّ والتّردّد والاضطراب، وبهذه الصّورة يسيطر الإنسان على نفسه ويهذّبها ويصونها من أخطار ووسوسة الشّيطان.
من المؤكّد فإنّ وسوسة الشّيطان ستؤثر حينما تتمكّن من الضّغط على الإنسان وإجباره على عمل ما، بينما الإنسان الّذي يعيش في كنف الاطمئنان، فمن المستحيل أن تجد لها موطئ قدم والتّأثير عليه من قريب أو من بعيد.
ومن هذا المنطلق، فإنّ الإنسان الّذي اطمأنّ قلبه، سينتصر على النّفس والشّيطان مادام محافظاً على هذه الحالة، ويستطيع الإحساس بالحضور عند الله سبحانه وتعالى، وهذا الحضور يمنحه الاطمئنان والأمان ويردعه عن المعاصي والآثام.
وإليكم الآن هذه الرّواية:
سُئل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أيّ الطّرق يمكن الاستعانة بها من أجل الغضّ من الأبصار؟ فأجاب الإمام (عليه السلام): بالخمود تحت السلطان المطّلع على سرّك(١٦٨).
فإذا علم الإنسان أنّ الله سبحانه وتعالى وخليفته في الأرض الإمام (عليه السلام) مطّلعين على ظاهره وباطنه، فعندها سيغضّ من بصره من حيث يشعر أو لا يشعر والابتعاد عن كلّ تعلّقاته. فلهذا فإنّ بعضاً من أولياء الله المقرّبين يراعون حالة الظّهور هذه، وذلك من أجل قطع القلب عن الأغيار والدّخول إلى مقام القرب المعنوي، ومن هنا يرون أنفسهم في ساحة ومحضر الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه).
فكلّما زادت حالة الحضور فإنّه يرى نفسه حاضراً عند الله عزّ وجلّ والإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، ويكون أقدر على ترك كلّ عمل من شأنه غضب وسخط المولى عزّ وجلّ والإمام (عجّل الله تعالى فرجه). بالإضافة فإنّ نفس حالة الحضور توجد رويداً رويداً وبدون شعور مسبق حالات قيّمة أخرى بدون حدوث أيّ ضغط أو إجبار، باعتبار أنّها عامل قويّ ومؤثّر إلى سوق الإنسان إلى عمل الخير والصّلاح.
عصر الظّهور؛ عصر الحضور
عند الإمعان بدقّة في الرّواية الواردة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، نلاحظ جليّاً أنّ الإحساس والاطمئنان في الحضور عند موجود مقتدر وقوي ومطّلع على باطن الإنسان وسرّه، يخلق وينشئ حالة من الاستطاعة والمقدّرة على غضّ الطّرف وإبعاده عن الحرام، وهذا الأمر يمكن حدوثه في عصر الغيبة الّذي فيه تتكالب الشّياطين من كلّ جهة وصوب، ووجود النّفس الأمّارة وأهوائها المغريّة.
فإذا كان هذا الأمر ممكن فمن الأولى أن يصل الإنسان وبسهولة متناهية إلى حالة الاطمئنان الكامل في عصر الظّهور، الّذي يتخلّص الإنسان فيه من شرّ الشّيطان الرّجيم والنّفس الأمّارة، فيتطهّر قلبه من الأدران، ويصل إلى الاطمئنان، وبذلك يصبح قادراً على النّظر إلى عالم الملكوت، وعلى هذا الوجه يشعر بحالة الحضور.
ونظراً لعدم الوضوح الكافي في قضية الحضور والقدرات المعنويّة للإنسان في عصر الظّهور المتألّق وعدم اتّضاح معنى الحضور والظّهور، رأينا من المناسب الحديث عن هذه المواضيع الحياتيّة والقيّمة بشكل أوسع.
ولذا وقبل أن ننقل رواية في هذا الخصوص نقول: إنّ الإنسان سوف يمتلك في ذلك العصر شخصيّة جديدة، ويتمتّع بإمكانيّات وقدرات تفوق التّصوّر والخيال، وتأتي هذه كلّها نتيجة وصول قدراته إلى مراحلها التكامليّة النهائيّة.
وفي ذلك العصر لا تشهد المسيرة الإنسانيّة تكاملاً في المسائل الرّوحيّة والمعنويّة المهمّة والقدرات العقليّة؛ وإنّما سوف تستمرّ هذه المسيرة في تكاملها ومنهجيّتها حتّى من النّاحية الجسديّة، ولهذا تُفتح صفحة مشرقة من التّاريخ البشري، لأنّ التاريخ البشري لا يذكر أنّه مرّ بحقبة زمنيّة شهد فيها مجتمعاً متكاملاً ومتطوّراً بهذا النّحو.
وسيظهر الإنسان في ذلك العصر وبقيادة الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء جميع قدراته الدّاخلية المكنونة في داخله، ويرتقي بالعالم إلى مراحل كلّها نشاط وحيويّة وتجديد وقدرات عظيمة، وفيه تخرج الأرض جميع كنوزها المخفيّة، وسيوظّف الإنسان كلّ طاقاته ويسخّرها لصالحه وخدمته.
إنّ الإنسان لا يعدو أن يكون من النّاحية المادّيّة سوى جسم صغير، ولكنّه في الواقع موجود معقد وعجيب، وهو يخفي في داخله عالماً من الأسرار والقدرات المجهولة تظهر جميعها في ذلك العصر، ممّا يؤدّي في النّتيجة إلى تغيّر مسير العالم وتحليّه بمعالم ومشخّصات جديدة.
بالطبع، يمكننا إدراك والإحساس ببعض من تلك التّغيّرات والتّحوّلات المختلفة من خلال الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

 

٧ - التكامل العلمي والثقافي

 

عصر الظّهور والتّكامل العلمي والثّقافي
إنّ العالم يتطلّع دوماً إلى التطوّر والتّقدّم ويتفاءل بمستقبل مشرق ينال فيه الأسرار الكبيرة للعلم والمعرفة، وباتت البشريّة في انتظار العصر الّذي تعيش فيه حالة التّحوّل العظيم، والّذي يمنح العالم صورة جديدة تصنع منه جنّة خالدة.
وتتحقّق هذه الصّورة المشرقة حينما تدوي الصّرخة العظيمة للمصلح العالمي الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) في جميع بقاع العالم، ويسمع كلّ شخص منهم وبلسانه الّذي يتكلّم به في لحظة واحدة ذلك النّداء. وعندئذ يبدأ التّغيّر المنتظر للعالم، وينهض الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) مع أصحابه وأعوانه المخلصين، ويتمكّن في مدّة زمنيّة وقياسيّة في تطهير العالم من لوث الجائرين والظّالمين، وتبدأ الإنسانيّة باستيعاب القوى الخارقة للعادة، ومن هنا يسجل التّاريخ بداية التّكامل النّهائي للإنسان.
إنّ العلم والمعرفة سيشقّان طريقهما ويقوّدان الرّكب الحضاري، ليصل المجتمع الإنساني في ظلّ الحكومة الإلهيّة العادلة لأهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام) إلى التّعالي والرّقي والتّكامل وإلى حدّ يفوق فكرنا وتصوّرنا.
إنّ التّكامل النّهائي للقوى العقليّة في ذلك الزّمان يبلور ويقدّم حضارة من الصّعب بمكان إدراكها واستيعابها. وأنّى لنا تجسيد عظمة الحكومة الخالدة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء وبلورتها في أذهاننا؟!
إنّ التّطوّر والتّقدّم الحاصل في مجال الحاسوب وإمكانيّة الارتباط بين أجزاء العالم المتقطّعة بواسطته يمكن أن يقرّب هذه الحقيقة إلى الأذهان وتحكم الاعتقادات الإنسانيّة وتربطها بالعامل الديني، باعتبار أنّ القضايا الّتي طرحها والخدمات الّتي قدمها في البرامج العلمية كانت أيضاً خارجة عن تصوّراتنا حتّى للسّنوات ليست ببعيدة.
هذه التّطوّرات الحاصلة تثبت حقيقة مفادها: أنّ الإنسان يتمكّن وعلى أساس التّعالي والتّكامل من كشف الأسرار المجهولة والعظيمة الّتي تفوق التّصوّر والإدراك.
ولهذا فنحن نتطلّع إلى ذلك اليوم الّذي تتمكّن الإنسانيّة وبواسطة الإرشادات والتعليمات الصّادرة من الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) الاستفادة من جميع القدرات والإمكانيّات الذّهنيّة وأن تحكم إرادتها في جنّة الظّهور - كما في جنّة الآخرة - وتطلب الخير والحسن، وتبحث عنهما فقط وفقط.
تطوّر العلم والمعرفة في المستقبل من وجهة نظر أهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام)
وفي هذا الموضوع ننقل رواية نقلت في مصادر متعدّدة، كشاهد على اتّساع رقعة العلم والمعرفة في جميع أنحاء العالم وبين أوساط كلّ النّاس وفي جميع المعارف والعلوم. يقول الإمام الصّادق (عليه السلام):
العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرّسل حرفان، فلم يعرف النّاس حتّى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثّها في النّاس، وضمّ إليها الحرفين، حتّى يبثّها سبعة وعشرين حرفاً(١٦٩).
النّقاط المهمّة في الرّواية
يوجد في هذه الرّواية الكثير من النّقاط الجديرة بالاهتمام وتصرّح بقدوم مستقبل زاهر وعالم قائم على العلم والمعرفة، وإليكم بعضاً من تلك النّقاط:
١ - في قول الإمام الصّادق (عليه السلام): «فبثّها في النّاس»، دليل على موضوع في غاية الأهميّة، وهو شموليّة وعموميّة العلم وانتشاره بين جميع أفراد المجتمع الواحد، (وذلك بدليل «الألف واللام» الموجودة في كلمة النّاس) لذلك فإنّ النّاس في ذلك الزّمان يرتقون المدارج العلميّة والثّقافيّة ولا ينحصر في جماعة أو فئة خاصّة. إذن؛ سوف يستفيد الجميع في ذلك العصر المشرق من نعمة العلم والمعرفة.
٢ - نستنتج من الرّواية كذلك أنّ العلم لا ينتشر ويأخذ صفة العموميّة والشّموليّة قبل قيام الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، وإنّما يكون مقتصراً على مجموعة خاصّة، وهؤلاء أيضاً ليس لهم الإلمام الكامل بجميع العلوم وإنّما ببعض منها.
٣ - هناك فرق بيّن شاسع بين العلم والمعرفة الموجودان في عصر التّكامل وما هو موجود في هذا الزّمان؛ ففي عصر الظّهور سيأخذ العلم والمعرفة أبعاداً واسعة وشموليّة، ويتمتّع الجميع بمختلف أنواعهما.
إنّ كلمة «العلم» تعني جنس العلم، وذلك بدليل «الألف واللام» الموجودة فيها. وإنّ مجموعة كلّ العلوم في الماضي والآن وقبل القيام وبعد الظّهور هي سبعة وعشرين حرفاً، وإنّ كلّ ما توصل إليه العلم منذ عصر الأنبياء (عليهم السلام) وإلى انتهاء عصر الغيبيّة هو حرفان، ويضمّ إليهما في عصر الظّهور خمسة وعشرين حرفاً آخر(١٧٠). إذن؛ توجد ثقافة عظيمة ومتكاملة ومزدهرة بين جميع شرائح المجتمع الواحد.
ومن الواضح فإنّ العلم ومنذ بداية حركة الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) وإلى زمان الإمام الصّادق (عليه السلام)، وإلى قبل قيام الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء، هو حرفان لا غير.
ونظراً لكلّ هذا التّطوّر الحاصل في العلم منذ زمان الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) وإلى زمان وجود الإمام الصّادق (عليه السلام)، ومع كلّ العلوم الّتي بيّنها وعلّمها الإمام (عليه السلام) إلى أصحابه الخلّص من أمثال جابر بن حيّان في الصّناعة والكيمياء وبقيّة العلوم الأخرى، وأيضاً من بعد مرحلة الإمام وإلى زمان قيام الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) يراها كلّها الإمام الصّادق (عليه السلام) تتجسّد بحرفين فقط، وهذه النّقطة ستأخذ أبعادها الكبيرة وحجمها عندما نرى مدى ووسعة العلوم العظيمة الّتي ظهرت من لدن الإمام الصّادق (عليه السلام) والّتي هي إلى الآن نموذج ومحلّ تعجّب الكثير من علماء زماننا الحاضر.
٤ - في ذلك الزّمان سيدرك النّاس المعنى الحقيقي للعلم، وسيعرف من هم العلماء؛ لأنّ العلم والمعرفة ينبعان في هذا الزّمان من النّبع الزّلال والمعين الصّافي الّذي لا ينضب لأهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام)، ويبيّن إلى النّاس في ظلّ العناية الإلهيّة والمقام الشّامخ للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء. وينتشر فيه العلم والمعرفة الحقيقيّان والصّحيحان، وليس العلوم الّتي تطرح بصورة كلّيّة والّتي أساسها النّظريّة والاحتمال.
٥ – لا يوجد في ذلك الزّمان شيء عن العلوم الكاذبة وخدّاع العلماء للشّعوب وجرّها إلى الضّياع، فيكون فيه العلم وسيلة لهداية وإرشاد النّاس ولا يستطيع شخص مثل «أرخميدس» خداع الإنسانيّة لمدّة تزيد على أكثر من ألف وستّ مائة سنة.
ولا يوجد فيه أيضاً أيّ خبر عن الكتب المضيعة للوقت الّتي طرح مشروعها الاستعمار؛ لإعمالها في الدّول الضّعيفة، والعلوم الّتي أمليت والشّهادات الّتي تمّ الحصول عليها بحفنة من الدّولارات.
ويجب الإذعان أنّه في ذلك العصر سيكون الناس جميعهم علماء من الطّراز الأوّل، ويحملون العلم الواقعي والحقيقي المتطوّر ولا يوجد فيه مكان للعلماء الّذين حصلوا على مداركهم عن طريق غير حقيقي وعدّوا وضمن قائمة العلماء.
٦ - ستنتشر مجموعة العلوم المتكاملة بين أوساط المجتمع، ومعنى هذا: أنّ كلّ فرع من فروع العلم يصل إلى مراحله النّهائيّة، ومن ثمّ يروج بينهم فيستفيدوا منها حسب الحاجة والطلب.
وكما أنّ المجتمع يتمتّع في عصر الظّهور بالتّطوّر والتّقدّم في مجالات الاقتصاد والزّراعة والأمن و...، ويتمتّع الكلّ بنعمها، فإنّه يتمتّع أيضاً من النّاحية العلميّة والمعرفيّة بالإمكانيّات الّتي توفّرت والاستفادة منها بأفضل وجه ممكن وبالتّالي عدم إحساس هؤلاء من أيّ نقص علمي.
تحليل الرّواية
إنّ النّقطة الّتي تؤكّدها الرّواية هي تساوي العلم والمعرفة في زمان الأنبياء وحتّى زمان عصر الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وإلى قبل وصول عصر الظّهور، وفي جميع هذه الفترات لم يتجاوز العلم الجزئين ولم يتعدّاهما.
لأنّه وطبقاً لحديث الإمام الصّادق (عليه السلام): ١ - إنّ جميع العلوم الّتي جاء بها الأنبياء المرسلون هي حرفان. ٢ - لم يتسنّى للنّاس معرفة أكثر من حرفين إلى عهد الإمام الصّادق (عليه السلام). ٣ - حينما يقوم الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) سيخرج خمسة وعشرين حرفاً وينشرها مع الحرفين الآخر بين أوساط النّاس.
ونظراً إنّ العلم والمعرفة كان في زمان الإمام الصّادق (عليه السلام) وإلى مرحلة ما قبل ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) أكثر انتشاراً وتوسّعاً من زمن الأنبياء (عليهم السلام)، لذا يجب رفع اليد عن ظاهر الرّواية ونقول:
إنّ مقصود الإمام (عليه السلام) كان شيئاً آخراً لم يوضحه الرّاوي بالشّكل المطلوب، لأنّه من البديهي أنّ الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) قد بيّنوا وأوضحوا علوماً ومعارف كثيرة وعديدة لم يتطرّق إليها أحد من الأنبياء (عليهم السلام).
فإن كان ما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصيائه الطّيّبين الأطهار (عليهم السلام) هي نفس العلوم والمعارف الّتي جاء بها الأنبياء السّابقون (عليهم السلام) ولم يطرأ عليها أيّ تحوّل أو تغيّر يذكر، وعدم إضافة الشّيء الجديد على تلك العلوم، فإذا كان الأمر كذلك، إذن؛ ما هي أفضلية الدّين الإسلامي على بقيّة الأديان الأخرى؟
ومن الطّبيعي فإنّه لا يمكن لأيّ شخص أن يجزم أنّ العلم والمعرفة الّتي نزلت على صدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هي نفسها الّتي نزلت على الأنبياء (عليهم السلام) الّذين كانوا من قبله.
لذا يجب أن نقول: إنّ النّقطة الّتي قصدها الإمام (عليه السلام) والموجودة في هذه الرّواية تحتاج إلى نوع من التّأمّل والتّفكير حتّى يمكن فكّ ألغازها.
باعتبار أنّ ظاهر الرّواية التّوقّف في العلم، يعني أنّه ومنذ زمان الأنبياء المرسلين (عليهم السلام) وحتّى زمان الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، ومن ذلك الزّمان وحتّى عصر قبل قيام الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) كان ذلك متساوياً ومتشابهاً، ولن يتغيّر هذا التّوقّف إلاّ عند ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه).
فإذا كان المقصود من تساوي عصر الأنبياء المرسلين (عليهم السلام) وعصر الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وإلى ما قبل قيام الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) هو التّشابه والنمطيّة والشّكل الواحد، فهذا خطأ واضح؛ لأنّ الكثير من العلوم المنقولة عن الإمام الصّادق (عليه السلام) في هذه الرّواية وأيضاً بقيّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) لم تأت وتطرق على لسان أيّ من الأنبياء والمرسلين.
وعلى ضوء ذلك لا نستطيع القول: أنّ المقصود من التّساوي والتّشابه هو تساوي الكفّتين من ناحية مقدار العلم باعتبار تسارعت خطوات تطوّره، ولكن يمكن القول: أنّه لم يبق طريق التعليم العامّ - يعني الاستفادة من الحاسّة الباصرة والسّامعة - على حاله فقد اعترته تغيّرات كثيرة.
النقطة المشتركة بين عصر الأنبياء (عليهم السلام) وعصرنا الحاضر
عندما نتفحّص وندرس بدقّة العلوم والمعارف الّتي جاء بها الأنبياء الرّبّانيّون من بداية الخلقة، والأليات والطّرق الّتي استخدموها في نشرها وتعليمها وكذلك العلوم والمعارف المنقولة عن أهل بيت الوحي والرّسالة (عليهم السلام)، نرى فيها نقطة وقاسماً مشتركاً واحداً، وهو عدم حدوث أيّ زيادة أو تغيّر في نقلها إلى الآن، على الرّغم من كلّ هذا التّقدّم الهائل الحاصل فيها.
وذلك لأنّ جميع العلوم والمعارف الّتي نقلها الأنبياء وعلموها إلى النّاس، وأيضاً ما علّمه الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته الطّيّبين الطّاهرين، ومن بعدهم العلماء إلى عموم الناس، لا يخرج عن كونه حاله من حالتين: إمّا عن طريق السّمع، وإمّا عن طريق البصر، وهذا معناه أنّ جميع الأشخاص الّذين تعلّموا منذ زمان الأنبياء وإلى الآن إمّا عن طريق الكتاب وقراءته، أو عن طريق السّمع مباشرة، أو عن طريق الآخرين، ولا توجد حالة ثالثة.
وعلينا أن نفهم أنّ هناك طرقاً أخرى موجودة للتّعليم في الماضي والمستقبل، ولكن لا يستطيع عموم النّاس الاستفادة منها، ولكن هناك بعض الأشخاص هم القادرون على الاستفادة منها فقط.
إذن؛ لقد كان طريق كسب العلوم والمعرفة ومع كلّ ما طرأ من إضافات وزيادات عليه منذ زمن الأنبياء (عليهم السلام) وإلى زماننا الحاضر لم يتعدّى طريق العين والأذن ولا غير.
وعلى أساس هذا، فإنّ المقصود من الجزئين أو الحرفين هو أن تعلّم العلم كان عن طريقين، وسيبقى كذلك إلى قبل مرحلة قيام الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، وهما الطّريق السّمعي والبصري.
ويكسب النّاس عموماً العلم والمعرفة عن هذين الطّريقين، ولكن عندما تتكامل العقول ستكون هناك طرق أخرى لتحصيل العلم غير هذين الطّريقين المذكورين. مثل تعليم العلم عن طريق الإلقاء في القلب بواسطة الملائكة، فهذا الطريق هو ليس بسمعي أو بصري، حيث صرّحت به بعض الرّوايات.
فإذا قبلنا هذه الحقيقة سنقبل أنّ هناك الكثير من التّطوّرات العجيبة الحاصلة في مجال العلم والمعرفة سيشهدها ذلك الزّمان، لأنّه - وطبق المعاني الّتي ذكرت في الرّواية - ستكون الطرق العامّة لتعلّم العلوم ثلاثة عشر ضعفاً، وليس مجموعة العلوم هي ثلاثة عشر ضعفاً، فإذا كان التّطوّر الحاصل إلى الآن سيصبح في زمن الظّهور ثلاثة عشر ضعفاً إذن؛ ستكون نسبة التّطوّر فيه قليلاً جدّاً نظراً إلى تكامل عقول الإنسانيّة.
في الرّواية دلائل وقرائن يمكن الاستنتاج من خلالها، إنّ مقصود الإمام الصّادق (عليه السلام) من سبعة وعشرين حرفاً ليس هو سبعة وعشرين قسماً وجزءً من العلم؛ بل قصد (عليه السلام) معاني أخرى لأنّه يصرّح ما معناه إنّ العلم ومنذ زمان بعثة الأنبياء والمرسلين وإلى زمانه وزمان قيام الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) هو حرفان؛ فإذا كان مقصود الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) من الحرفين هو الجزأين، فعليه إنّه لم يحدث أيّ تطوّر في العلوم منذ زمان بعثة الأنبياء والمرسلين وإلى زمن عصر ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، فإنّ الأمّة لم تستفد إلاّ من جزئين من العلوم وبقي العلم على حاله من دون أيّ تغيّر أو تطوّر يحصل فيه.
ومن الطبيعي فإنّه ومنذ زمان بعثة الأنبياء وإلى زماننا الحاضر وإلى عصر الظّهور، فإنّ العلم تطوّر وقفز مئات القفزات، وخطت الإنسانيّة في القضايا الدّينيّة وغيرها خطوات متسارعة وكبيرة، ولم تبق ساكنة على الجزأين، لذا فإنّ المقصود هو تعلّم العلوم.
ومن البديهي فإنّه لم يكن هناك طريق منذ زمان الأنبياء والمرسلين وإلى عصر قيام الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) لتعليم العلم لعامّة النّاس - وليس الأولياء - سوى طريق السّمع والبصر. فلم تخرج وسائل التّعليم مثل قراءة الكتاب والاستفادة من الدّروس والمحاضرات، وكذلك الاستفادة من آلات التّسجيل والرّاديو والكمبيوتر وبقيّة الوسائل المساهمة في تطوير العلم عن طريق السّمعي والبصري.
فإذا كان الإمام الصّادق (عليه السلام) يقول في ذلك الزّمان أنّ تعلّم العلوم هو سبعة وعشرون جزءاً، فيا ترى كم عدد من الأشخاص الّذين لهم الاستعداد الكامل لقبول هذا الأمر في ذلك الوقت؟ وما عدد الأفراد في زماننا الحاضر الّذين يذعنون له؟!
النّقطة المهمّة الأخرى والّتي من المناسب إعمال الدّقّة فيها هي: أنّ أكثر المضامين والمفاهيم الّتي ذكرت في الرّواية جاءت بلفظ حرف أو حرفين، والحرف والحروف هما وسيلة لتعلّم العلم والمعرفة.
ومن الممكن أن يكون مقصود الإمام (عليه السلام) من تعبيره بحرف أو حرفين، هو هذا المعنى، وليس مقصوده (عليه السلام) من الحرف والحرفين المعاني الّتي تخطر في أذهاننا للوهلة الأولى؛ كما يحدث أحياناً في بعض الآيات والرّوايات، حيث تستعمل لفظة «كلمة» و«كلمات» بمعنى غير الّذي يخطر في أذهاننا بدايتاً، وهو عبارة عن حروف وألفاظ قصدت وتلفّظت بتلك الكلمات.
إذن؛ فإذا تمّ التّعبير عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعترته الطّاهرة أو عن النّبيّ عيسى ب «كلمة الله»، فإنّ المقصود من الكلمة ليست الحروف أو ألفاظ.
فإذا أردنا إعمال إرادتنا بواسطة الكلمة والكلمات، ونجعل الكلام والكلمة مظهر لإرادتنا فإنّ «كلمة الله» هو ذلك الشيء الواقعي الّذي تعلّقت به إرادة الله وظهر في الخارج، ولهذا السّبب عبّر عن أهل البيت (عليهم السلام) بتعبير «كلمات الله»(١٧١).
إنّ الحروف ومع أنّ معناها الأولي هو الشيء الّذي يكوّن ويشكّل الألفاظ، ولكنّها في الواقع وسيلة لنقل العلم والمعرفة إلى الآخرين.
يقول الإمام الهادي (عليه السلام) حول هذه الآية «وَلَوْ أَنَّما في الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله إِنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ»(١٧٢):
نحن الكلمات الّتي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى(١٧٣).
لذلك فإنّ المقصود من سبعة وعشرين حرفاً من العلم، هو وجود سبعة وعشرين وسيلة لتعلّم العلم والحصول على المعرفة.
فإذا كان الإنسان وقبل الظّهور يحصل على العلم والمعرفة عن طريقين هما العين والأذن، فإنّه في عصر الظّهور سيتّضح وينكشف له سبعة وعشرون طريقاً من أجل الحصول عليهما.
الطرق الاُخرى لاكتساب العلم والمعرفة:
١ - الحاسّة الشّامّة
إنّ حاسّة الشّمّ هي من الحواسّ الّتي أذا تكاملت ووصلت إلى أعلى درجاتها، يتمكّن الإنسان بواسطتها من الحصول على معلومات كثيرة تخصّ الأشخاص.
وهناك أشخاص باستطاعتهم درك الكثير من المواضيع وزيادة معرفتهم عن طريقها. فعلى هذا الأساس، فإنّ هناك رواية وردت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيها:
تعطّروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب(١٧٤).
ومن هنا فإنّ هناك أشخاصاً قادرين على معرفة أعمال الآخرين بواسطة الرائحة، ولهذا السّبب جاء حديث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا.
٢ - الحاسّة اللاّمسة
نحن نعلم بوجود هالة تحيط بأطراف جسم الإنسان، ويمكن من خلال اللّون وهذه الهالة تشخيص شخصيّة وأعمال وسلوك الطرف المقابل.
إنّ الأشخاص الّذين يشاهدون هذه الهالة ويعرفون أنواعها وأقسامها يستطيعون بكلّ تأكيد معرفة شخصيّة الطّرف المقابل ودراستها.
وتتمركز هذه الهالة أكثر في أطراف جسم الإنسان وفي يده بالخصوص، لهذا الأمر فإنّ بعضاً من الأشخاص يتمكّنون ومن خلال المصافحة واللّمس قراءة أفكار الطّرف أو الشّخص المقابل والتّعرّف على أحواله وحالاته، ولهذا يمكن أن تلعب حاسّة اللّمس دوراً مؤثّراً وإيجابيّاً في الاطّلاع على حالات الأشخاص.
وهناك أشخاص كذلك لهم القدرة وبواسطة لمس الثياب أو أيّ شيء يتعلّق بشخص ما التّعرّف على أحواله وحالاته وروحيّاته، ويتنبّؤون بأبعاد هذا الإنسان وكيف يكون. وقد جرت حوادث كثيرة في هذا الخصوص نقلت في كتب مختلفة.
٣ - الحاسّة الذّائقة
إنّ الحاسّة الذّائقة تلعب أيضاً دوراً لا يستهان به في كسب المعرفة والحصول على المعلومات، وهناك بعض الحوادث والقصص الّتي نقلت عن أولياء الله الصّالحين وكيف أنّهم استطاعوا ومن خلال أكلهم الخبز أو تناول الغذاء معرفة شخصيّة طابخه.
لذا فإنّ الاستعانة بالقدرات الموجودة في الحواسّ الخمس والحصول على العلم الواقعي لا يكون عن طريق العين والأذن فقط؛ وإنّما بقيّة الحواسّ الأخرى تشارك في الحصول على طرق أخرى لكسب العلم والمعرفة، كما هو متحقّق في الحواسّ الباطنيّة الّتي تساعد الإنسان على نيل العلم كذلك.
٤ - تعلّم العلوم عن طريق ما وراء الحسّ
هذه نقطة جميلة من المناسب التركيز عليها وهي: إنّ تعلّم العلم والمعرفة عن طريق السّمع والبصر والاستفادة من القوى الحسّيّة للإنسان، هما من الحواسّ الخمسة الظّاهريّة له.
ونظراً إلى قضيّة تكامل العقول في عصر الظّهور المشرق وحياة القلوب، فسيكون الحصول على العلم والمعرفة عن طرق ما وراء الحسّ بأساليب كثيرة ومتعدّدةً.
ومن خلال الإمعان والتّفكير بما قلناه، فإنّه من الواضح إنّ حياة القلب وتكامل العقل تفتح الباب على مصرعيها، لأجل الحصول وكسب العلم والمعرفة.
لذا فلا ينحصر العلم في ذلك الزّمان الّذي يتمتّع به عامّة النّاس بالحياة القلبية والتّكامل العقل بطريق السّمع والبصر؛ بل إنّه وبواسطة القدرات الّتي هي ما وراء الحسّ سيتمكّن الإنسان وبسهولة زيادة علمه ومعرفته.
وما مسألة «المشاهدة الفؤاديّة» الناتجة من «الحياة القلبيّة» إلاّ نموذجاً مصغّراً من طرق تعلّم العلم والمعرفة، وذلك بالاستفادة من القدرات الكامنة وراء الحسّ.
إنّ عصر الظّهور المشرق هو عصر العلم والبصيرة والحصول على القدرات ما وراء الحسّيّة نتيجة الحياة القلبيّة، وبواسطة تلك العقيدة القلبيّة يتمكّن الإنسان من زيادة علمه وثقافته.
ففي ذلك العصر البهيج لا ينحصر تعلّم البشريّة للعلوم والمعارف عن طريق العين والأذن؛ بل يتجاوزهما ويصبح من الممكن تعلّمهما عن طريق القلب والبصيرة أيضاً.
ونظراً لفتح طرق حسّيّة وطرق ماورائيّة في عصر الظّهور المشرق، سيثبت أنّ العلم والمعرفة لا تنحصر فيهما.
النقطة الأخرى المثيرة للاهتمام هي عموميّة وانتشار وفتح الباب أمام الجميع في طرق التّعلم، من أمثال الإلقاء في القلب، والاستفادة منها كما جاء هذا الموضوع في الرّواية.
لا شكّ في أنّ العالم في زماننا الحاضر ومع التّخصّص والمهارة الّتي يحملها في فرعه، فإنّه عاجز وضعيف عن درك بقيّة العلوم الأخرى؛ لأنّ طريق العلم محصور في السّمع والبصر، وهذه هي عين المحدوديّة لتعلّم ونشر العلوم بين أوساط الناس، وحاجز قويّ يقف حائلاً أمام العلماء.
ونظراً للطّهارة وتهذيب الرّوح الإنسانيّة والقضاء على الشّيطان وتكامل العقول، فمن الطبيعي جدّاً تصبح طرق التعليم عموميّة، ويمكن للجميع كسب العلم عن طرق لا تنحصر في السّمع والبصر.
التّحوّلات والتّغيّرات المذهلة في عصر الظّهور
إنّ الله سبحانه وتعالى وحده الّذي يعلم مدى وعظمة التّغيّرات والتّحوّلات الكبيرة الّتي ستقع وتطرأ على هذا العالم! وما هي الأسرار والخفايا الّتي ستظهر في عالم الخلق والخلقة، نتيجة التّطوّر الهائل الحاصل في مجال العلم والمعرفة وتكامل العقل والفكر.
لعلّ اختراعاً صغيراً يحدث في هذا الصّوب من الدّنيا أو ذاك في عصر الغيبة، سيقلّب الأمور رأساً على عقب ممّا يترك أثره في أفكار وعقائد النّاس.
فعلى سبيل المثال: لا الحصر نذكر مدى التأثير الّذي أوجده اختراع التّلسكوب والكاميرات القويّة في أذهان البشريّة؟ وكيف أنّه استطاع من زيادة المعرفة البشريّة وتوجيهها إلى عظمة وسعة الفضاء والسّماوات؟ وكيف أنّها ساهمت في قلب عقائد وأفكار الكثير من العلماء والفلاسفة حول وضعيّة الأرض والكواكب؟
إنّ الوصول إلى المراحل النهائيّة من العلم والمعرفة وظهور الاختراعات المتعدّدة والمثيرة في زمن الظّهور المشرق، سيؤدّي إلى ازدياد المعرفة الإنسانيّة بالنسبة إلى عالم الوجود وأسرار الخلقة؛ بحيث تأخذ أبعاداً وطرقاً خارجة عن دائرة تصوّراتنا في زمن الغيبة، ولا ندرك حقيقة الأشياء الّتي سوف تخترع في ذلك الوقت، وما هي الآثار والنّتائج الّتي تخلفها؟
إنّ العلماء لم يتطرّقوا إلى الآن لبحث مسائل مثل «المادّة وضدّها» أو «العبور من حدود الزّمان» أو «الدخول إلى عالم الغيب»، وإيجاد الحلول والأجوبة المقنعة لها.
فهل تعلمون إنّ حلّ وفكّ إلغاز مثل هذه الأسرار وهذه القضايا ماذا سيترك من آثار ونتائج عجيبة ومثيرة في عالم الخلقة؟ وهل يمكننا معرفة عظمتها وأهميّتها بالمقدار القليل واليسير من العلوم المعرفة الّتي لدينا؟
علم أهل بيت الوحي والرّسالة (عليهم السلام)
من المسلمات إنّ علوم الأنبياء ومعرفتهم يفوق في كلّ عصر وزمان بمراتب كبيرة علم ومعرفة أهل ذلك الزّمان، ولا يستطيع شخص ما - سواء العالم منهم أو الفيلسوف - في مواجهتهم والصّمود أمام حججهم وبراهينهم القويّة والنّاصعة وتحقيق الغلبة عليهم. وهذه نظريّة مأخوذة من المباني الأساسيّة والعقائد الّتي جاء بها أهل البيت (عليهم السلام).
وبكلّ تأكيد فإنّ علم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) أعلى درجات ويفوق علوم ومعارف أهل زمانهم؛ بل وحتّى لا يقاس بالعلوم الموجود لدى جميع العلماء الّذين عاشوا طوال الأزمنة والدّهور، بحيث لا يمكن مقارنة علم هؤلاء العلماء وعلوم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بأيّ حال من الأحوال.
وقد تحقّقت أفضليّة علم الأنبياء والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، باعتبار أنّ العلم الّذي يحملونه هو علم لدنّي منحه الله سبحانه وتعالى لهم، وليس علماً اكتسابيّاً حصلوا عليه بواسطة عمليّة التّعليم، فيتمتّع هؤلاء العظام (عليهم السلام) بعلم مخزون ومعرفة الأسرار الإلهيّة، والنّتيجة تكون أنّ علمهم سيفوق علم الأوّلين والآخرين.
ومع وجود الاختلاف في حدود ومقدار علم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وذلك حسب ما جاء في الرّوايات الواردة، ولكن يمكن القول: إنّ أصل هذا الاختلاف يعود إلى نوعيّة المخاطبين ومدى استعدادهم واستيعابهم، والبحث في هذا المقام يطول، ولكن نكتفي بهذا المقدار.
ويجدر بنا الإشارة إلى أنّ علم الأمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) هو بالتّأكيد له الأفضليّة على جميع علوم الإنسانيّة، حيث يحمل جميع ما كان ويكون. وهذا هو ما نقرأُه في زيارته (عجّل الله تعالى فرجه):
أنّك حائز كلّ علم(١٧٥).
ونقرأ أيضاً في دعاء النّدبة:
قد آتاكم الله يا آل ياسين خلافته، وعِلْم مجاري أمره فيما قضاه ودبّره ورتّبه وأراده في ملكوته...(١٧٦).
ويتّضح من خلال البيان والشّرح الّذي جاء في هذا التّوقيع الشريف، إنّ عالم الملك ليس وحده واقع في حيطة دائرة علم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؛ بل وحتّى عالم الملكوت كذلك.
وإنّ هناك روايات وردت عن عصر الظّهور يمكن الاستنباط منها أنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) يقوم بتكميل عالم الملكوت.
وعلى أساس هذا، فإنّ قيام الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) علاوة على تأثيره الواضح على العالم الظاهري، فإنّه يعمل على تكميل العالم الباطني، فتقع جميع الموجودات فيه ضمن حدود الحكومة الإلهيّة لذلك الإمام الهمام (عليه السلام).
إنّ مسألة علم الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) وحدوده وكيفيّته هي من المسائل والقضايا الحسّاسة المهمّة في باب علوم أهل البيت (عليهم السلام)، ولا شكّ في أنّ البحوث الّتي تتعلّق بها لا تتناسب مع موضوع كتابنا هذا.
فنرجع إلى صلب الموضوع فنقول: إنّ الإمام (عليه السلام) في كلّ زمان ومكان هو أعلم الموجودين، وعليه فإنّ جميع العلماء والمفكّرين لابدّ لهم من الرّجوع إلى إمام زمانهم لحلّ مشاكلهم ومعضلاتهم الّتي تواجههم في جميع العلوم والاختصاصات.
ويعتبر هذا الأمر من لوازم وضروريّات مقام الإمامة والقيادة الرّبّانيّة، وواحدة من الفضائل والكرامات الّتي يجب أن تتوفّر في مقام الإمامة والإمام وإلاّ يلزم تقديم المفضول على الفاضل.
ومن خلال هذا الكلام تنكشف لنا حقيقة وهي: أنّه كلّما تطوّر العلم والمعرفة قبل الظّهور وأصبح في قمّة عطائه، يبقى الإمام أعلى منه بدرجات ودرجات. ونأتي هنا برواية تؤيّد هذا الموضوع بصراحة:
يقول الإمام الرّضا (عليه السلام):
إنّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) يوفّقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمته ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عزّ وجلّ: «أَفَمَنْ يَهْدي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدّي إِلّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(١٧٧).(١٧٨)
لذلك فإنّه مهما تطوّرت العلوم وازدهرت في جميع جوانبها، يظلّ علم الإمام (عليه السلام) يسعها ويكبرها، ويبقى مثله مثل البحر الواسع حيث كلّما تساقطت عليه قطرات المطر تضيع في جنبه، بالإضافة إلى أنّ قطرة المطر هي منه.
وثمّة موضوع آخر وهو وجود بعض الرّوايات الواردة الّتي تؤكّد على أنّ عصر الظّهور سيكون عصر الدليل والبرهان العامّ، وسوف تتمتّع الإنسانيّة بالعلم والمعرفة الصحيحين بواسطتهما، وسيهدي أصحاب الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) مخالفيهم ومعارضيهم إلى الحقيقة النّاصعة من خلال البيان والاستدلال والقول الصّحيح والسّديد إلى الحقيقة النّاصعة.
ويرشد الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) الإنسانيّة بواسطة أقواله وأفعاله إلى مذهب الحقّ والعدالة مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ويجعل من العالم بقعة واحدة كلّها علم ومعرفة باطر وقوالب جديده، وبهذه الوسيلة يظهر الحقّ ويزهق الباطل، ويمحو كلّ شكّ وتردّد من قلوبهم.
وهذه الحقيقة صرّح بها نفس الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، وبيّنها في توقيعاته الشريفة، فيقول الإمام أرواحنا فداه في أوّل ساعة من ولادته الميمونة:
زعمت الظلمة أنّ حجّة الله داحضة، ولو اُذن لنا في الكلام لزال الشكّ(١٧٩).
ومن الطّبيعي جدّاً فإنّه إذا ذهب الشّكّ وزال فسوف يكون القلب عامراً بالإيمان واليقين، وحينئذ سيوضع الإكسير المهمّ والحيوي الّذي يغيّر الكثير، ويكمل في النّهاية الشّخصيّة الإنسانيّة تحت تصرّف واختيار الجميع.
إرشادات وهداية الإمام أرواحنا فداه لأجل طلب العلوم
يبدو جليّاً إنّنا إذا نظرنا إلى عظمة الكون سنتعرّف بكلّ تأكيد على عصر الظّهور المشرق؛ عصر النّور والضّياء، وعصر العلم والمعرفة، وعصر السّعي والعمل الدؤوب. ونظراً للعجائب الّتي يحملها سنصل إلى عظمة صانع الكون وخلفائه؛ حيث الدّليل القائم على خلقه تعالى لجميع الموجودات.
والآن نلفت انتباهكم إلى بعض الأسئلة:
ما هي أنواع وأشكال الموجودات العجيبة الّتي تعيش على قمم الجبال العالية، وفي الصحراء الواسعة، وفي أعمق نقطة من البحار والمحيطات؟ وأيّ نوع من الحيوانات الّتي تعيش فيها؟
وهل من الممكن التّعرّف من خلالها على أسرار عالم الخلقة؟ وكيف بمكاننا الاطّلاع على أسرار خلقة كلّ هذه الموجودات؟
وهل يوجد شخص غير الّذي شهد الخلق قادراً على الإحاطة بكلّ هذه المعارف والأسرار؟
وهل هناك أحد في هذا الزّمان قادر على الإجابة على كلّ هذه الأسئلة سوى الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه)؟
نعم؛ سيجعل الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) عصر الظّهور المتألّق عصراً ملؤه العلم والمعرفة عن طريق الدّليل القاطع والبرهان السّاطع، وسيجعل الجميع أينما كانوا من هذا العالم الوسيع منعمين بالعلم والمعرفة.
نقل الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) عن أبيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خصوص هذا الموضوع المهمّ قوله (عليه السلام):
يملأ الأرض عدلاً وقسطاً وبرهاناً(١٨٠).
وعلى أيّ حال، فسيقطع أناس ذلك الزّمان طريق مئة عام في يوم واحد، ويكسبون التّجارب الّتي تنال في عمر مديد من خلال جملة واحدة.
ولأجل الإشارة إلى قضيّة التّوسعة الّتي يشهدها العلم والمعرفة والعقل في عصر الظّهور نطرح سؤالاً:
إذا أراد شخص ما دراسة موضوع خاصّ والغوص في أعماقه والإحاطة به من كلّ جوانبه من دون استشارة أستاذ صاحب خبرة في ذلك المجال أو كتاب يتعلّم منه، فما هي المدّة الزمنيّة الّتي يستغرقها؟ وكم هو عدد التّجارب الفاشلة الّتي يمرّ بها حتّى يحصل على مراده ومبتغاه من ذلك التّحقيق أو الموضوع؟
ولكن نفس هذا الشّخص إذا توفّر له أستاذ ماهر وحاذق وعارف ولديه العلم بكل جوانب البحث المراد وخفاياه، فإنّه سيتمكّن من الحصول على ما يريده ويبحث عنه في وقت قياسي بأقلّ الجهود والإمكانيّات.
وبعبارة أخرى يمكن الإشارة إلى أنّ عمليّة تحصيل اكتساب العلم تتمّ عن طريقين هما:
١ - التّعليم عن طريق أستاذ صاحب خبرة وباع طويل في ذلك العلم المطلوب.
٢ - إذا لم يتوفّر الأستاذ أو الكتاب الّذي يتحدّث ويتطرّق إلى البحث والدّراسة في ذلك العلم المراد، فعلى الإنسان القيام بالسّعي الحثيث والعمل المتواصل والبحث بالتّحقيق والتّجربة، حتّى يتمكن من الوصول إلى النتائج المتوخاة.
ومن البديهي فإنّ هناك اختلافاً كبيراً بين حصول العلم والمعرفة بواسطة البحث، وبين حصوله من خلال التعليم، وإليك اثنين من تلك الفروق المهمّة:
١ - سرعة التّعليم في حالة الاستفادة من وجود أستاذ ذي خبرة بدون الدّخول في معمعة الدّراسات والبحوث، الّتي من شأنها تأخذ وقتاً طويلاً وجهداً إضافيّاً.
٢ - الأخذ بالنّتائج القطعيّة للعلم والمعرفة من الأستاذ بدون الوقوع في مطبّات الدّراسات الّتي تتلف الوقت دون أن تعطي النّتائج المرجوّة.
تأثير حضور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) في عمليّة الحصول على العلم
من الطّبيعي أنّ الإنسانيّة لا تجهض عملها في عصر الظّهور وتضيع وقتها في الدّراسات الّتي لا جدوى منها ولا طائل، باعتبار أنّه عصر العلم والمعرفة والبرهان والدليل، حسب الرّواية الّتي وردت عن الإمام الحسن (عليه السلام).
نعم؛ فإنّ مجرّد حضور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) والاستفادة من وجوده المبارك يعطي للإنسانيّة زخماً وحافزاً للوصول بسرعة إلى المصادر العلميّة، وتعلّم العلم البرهاني والعلم اللّدني من معين الوحي الصّافي وبالتّالي الحصول على النتائج القطعيّة.
ولأجل توضيح هذا الموضوع نتحدّث عن الأنواع الكثيرة للحيوانات بشكل مفصّل، بعدها ننقل إليكم رواية رائعة المضمون، لنصل إلى النّتيجة المطلوبة:
كما أشرنا سابقاً فإنّ هناك الكثير من الموجودات الّتي تعيش في الجبال ووسط الصّحاري وفي أعماق البحار والمحيطات، لا يمكن لنا التعرّف على حياتها لكثرة أنواعها وطريقة تكاثرها والخصوصيّات الّتي تنفرد بها.

 

على أيّ حال يعيش في عالمنا اليوم حدود ٨٦٠٠٠ نوعاً من الطّيور فقط(١٨١)، ومن بين الحشرات عرفت إلى الآن حدود ٤٠٠ ألف من الفراشات تعيش ١٥٠ ألفاً منها في إيران(١٨٢).
مع الدّقّة في كثرة أنواع الحيوانات في أنحاء العالم إذا أراد شخص - على سبيل المثال - دراسة حياة الحيوانات وعمليّة تكاثرها، وأيّ منها يبيض وأيّ منها يلد؟ فإنّه يحتاج إلى كم هائل من السّنوات للتّحقيق والتّفحّص بسبب وجود الملايين منها.
بالإضافة إلى هذا، من أين له المعرفة الكافية والاطّلاع الصّحيح على وضع الملايين منها، والّتي تعيش في أعماق البحار والمحيطات وفي وسط الصحاري أو على قمم الجبال؟
ولكن يتمكّن نفس هذا الشخص أذا تابع تعليمه وأخذ العلم من مصدره الأصلي وهو الشّخص الّذي له المعرفة الكاملة على جميع أسرار الخلقة، وكان شاهداً على خلق جميع الموجودات وليس عن طريق الدّراسة والتّجربة يمكنه وبواسطة قانون عام معرفة الأمر في وقت قصير بدل من الدّخول في متاهات ونفقات مظلمة ومتعرّجة تأخذ من الوقت يصل أحياناً إلى ملايين السّنين.
وننقل هنا رواية كي يتّضح هذا الموضوع أكثر:
يُنقل في مجموعة المرحوم الحاج معتمد الدولة فرهاد الميرزا عن أمير كمال الدّين حسين الفنائي، سأل الإمام الصّادق (عليه السلام) اُمّ جابر: ما هو عملك؟
فقالت: أريد أن أعمل على الحيوانات والطيور، وأرى أيّ منها يبيض وأيّ منها يلد؟
فقال الإمام (عليه السلام): هذا الأمر لا يحتاج إلى عمل وجهد، اُكتبي: إنّ كلّ حيوان له آذان طويلة فهو ولود، والّذي له آذان لاصقه فهو بيوض، ذلك تقدير العزيز العليم.
إنّ «الصقر» فهو من فصيلة الحيوانات السّائمة وله آذان ملتصقة برأسه فهو بيوض، و«السّلحفاة» فهي على الرّغم من شكلها فهي تبيض أيضاً، وأمّا «الخفّاش» فبما أنّ له آذان طويلة ومرتفعة وغير لاصقة في رأسه فهو من فصيلة الحيوانات الولودة(١٨٣).
وعلى ضوء ما جاء هنا، فإنّ هذا هو قانون عام، فليس كلّ طائر باعتباره طائراً يكون بالضرورة بيوض، أو الزّواحف باعتبارها أنّها زواحف يجب أن تلد، باعتبارها من الممكن أن تكون من فصيلة الثّديات ولكنّها تبيض ولا تتكاثر عن طريق الولادة.
«واحد من الحيوانات العجيبة يعرف بإسم منقار البطّ وأطلقت عليه هذه التّسمية لما فيه شبه بالبطّ، فهذا الحيوان ومع أنّه من فصيلة الثّديات ولكنّه يضع البيض حاله حال الطّيور، وإليكم هذا التقرير عنه:
من الممكن أن لا يكون هذا الحيوان من أغرب الحيوانات، ولكنّه في الواقع من أعجبها. وهذا الحيوان هو من فصيلة الثّديات، ويشبه الثّديات الّتي لها جلد ويعطي وليده الحليب، وله منقار وبراثن حادّة، والأغرب من هذا كلّه إنّه شبيه الطّيور يضع بيوضاً، طول هذا الموجود ٥٠ سنتمتراً، ويعيش في استراليا. وهو سريع السّباحة، فهو عندما يسبح يضع نهاية منقاره خارج الماء ويتنفّس، ويعيش بالقرب من الأنهار، وتضع الأنثى بيوضها هناك، وترضع أولادها الحليب»(١٨٤).
وتجدر الإشارة إلى أنّنا بيّنا في بحوثنا السّابقة واحدة من الخصائص الّتي ينفرد بها عصر الظّهور المتألّق، وهي انتشار العلم والمعرفة بين جميع أوساط النّاس من دون استثناء، وتوضح المواضيع الّتي ذكرناها هنا خصوصيّتين مهمّتين وإضافيّتين هما:
١ - سرعة التّعلّم بدون متابعة الدّراسات والبحوث الّتي تضيّع الوقت.
٢ - الوصول إلى النّتائج القطعيّة من التّعليم بدون الدّراسات الّتي لا طائل منها.
ولا شكّ فإنّ هذا هاتين الخصلتين تجلبان معهما الكثير من الآثار القادرة على تطوير العلم والمعرفة الواقعيّة لجميع المجتمعات الإنسانيّة(١٨٥).
اختراعات عصر الظّهور
وكما أسلفنا فإنّ السّرعة في كسب العلم والمعرفة هي من الخصوصيّات والامتيازات الّتي ينفرد بها عصر النّور، ويمكن للبشريّة وبسهولة مطلقة من الوصول إلى جميع المصادر العلميّة والعمليّة الّتي هي بحاجة إليها.
وسوف تترك الإرشادات والتّعاليم الصّادرة من الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمة الفداء، الأثر العميق في هذه العمليّة. ولا يفوتنا أن نشير إلى عامل آخر يلعب دوراً أساسيّاً في سرعة التّعليم، وهو عبارة عن تكامل العقول ورشد الأفكار ونموّها، وهذا ناتج من وجود وبركات وآثار وجود الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) ودولته الكريمة.
وقلنا أيضاً في مبحث تكامل العقول وإطلاق العنان للقدرات المجهولة للعقل والدّماغ: إنّ من أكبر الحرّيّات الّتي تكون من نصيب الإنسان في عصر الظّهور المتكامل، هي حرّيّة العقل وخلاصه من القيود والسّلاسل، فتضحى جنود النفس وهواها محكومة بالقوى والقدرات العقليّة، وهنا يصل اليوم الموعود لحاكميّة العقل على النّفس، وتنال الإنسانيّة الأفكار العالية والمنهاج الصّحيح، وتترك من وراءها تلك الأفكار الصّغيرة والمحدودة.
وعلى ضوء هذا، فإنّنا نعتقد أنّ الأفكار العظيمة والكبيرة هي من الخصائص المهمّة للأشخاص في عصر الظّهور المشرق.
ومن البديهي فإنّه حينما تنال الإنسانيّة تلك الأفكار العظيمة وتضعها في حساباتها، فإنّه لا يحصل تغيّراً هاّماً في العلوم والمسائل الدّينيّة فحسب؛ وإنّما يأخذ مجالاً أوسع ليشمل مجالات التكنولوجيا والصّناعات والتّفنّيات الأخرى.
إنّنا نرى في عصر الغيبة المظلم إنّ ملايين البشر يخوضون صراعاً مريراً ومخاضاً عسيراً من أجل الحصول على اكتشافات واختراعات جديدة في عصر الغيبة المظلم، ولكن قليل هم الّذين يقع طير السّعد على رؤوسهم، ويستطيعون كسب النّجاح والّتوفيق في ذلك، ولكن في عصر تكامل العقول وبواسطة الإرادة الّتي تحلق في أعلى مراحلها، فإنّها تؤثر على أفكار النّاس ومعرفتهم، لذا يصلون وبسرعة هائلة وفترة وجيزة إلى مبتغاهم وما سعوا إليه.
درس في هذا الخصوص من الدّعاء الوارد بعد زيارة «آل يس»
تعتبر زيارة «آل يس» من الزّيارات المهمّة للإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)، وكذلك الدّعاء الوارد بعدها، والّذي يحمل دورة عظيمة وكبيرة من العلوم والقضايا العقائدية.
هذا بالإضافة إلى احتوائه على نقاط مهمّة للغاية تدور حول قدرات الإنسان المتكامل، وكلّ شخص يقرأ هذه الزّيارة والدّعاء ويتمعّن جيّداً في معانيه ومفاهيمه، يطلب ويتمنّى من الله سبحانه وتعالى إيصاله إلى المراحل العليا والرّاقية، وهناك للأسف العديد من الأشخاص الّذين يمرّون على تلك المعاني مرور الكرام ولا يعطوها حقّها.
ونبيّن هنا نموذجاً ومقطعاً منها يتعلّق بما نحن فيه:
وفكري نور النيّات، وعزمي نور العلم(١٨٦).
فمن الممكن إنّنا قد قرأنا هذا المقطع مئات المرّات، ولكنّا لم نتوجّه إلى عظمة وأهميّة ما طلبنا وما نريد.
إنّ الدّرس والعبرة الّتي يمكن تعلّمها من هذا الدّعاء هو: أنّ الشّخص صاحب الفكر النيّر والعقيدة المتحرّرة، وله القدرة على التّصميم والعزيمة والّذي نفسه غير قادرة على هزيمة إرادته، فإنّ مثل هذا الإنسان يتنوّر وجوده كلّه بالعلم والمعرفة، وتمتزج أعضائه وجوارحه بنورهما.
ففي عصر الظّهور، الّذي يأمن فيه كلّ المتطلّبات الإنسانيّة، وتتكامل العقول تنمو الأفكار النيّرة والإرادات النّورانية وتتكامل وتظهر قوّة العزيمة في أفكار ومعتقدات النّاس، وتدفعهم إرادتهم الّتي لا تلين إلى تعلّم العلم والمعرفة.
ويتخلّصون فيه أيضاً من حالات الخمول وضعف القدرة على التفكير والعزيمة والتّصميم، ويندفعون بكلّ قواهم صوب العلم والمعرفة، والمحصّلة النّهائيّة ستكون تمتّع المجتمع بكلّ أنواع وأقسام العلوم والمعارف المتقدّمة والمتطوّرة، وهذا لا يمكن نيله إلاّ بواسطة انفتاح العقل وحرّيّة العقيدة وإطلاق الإرادة.
الحكومة العالميّة للجميع
نبيّن هنا موضوعاً مهمّاً ومثيراً سيجلب أنظار العشّاق والمغرمين بعصر الظّهور المشرق، وهو: إنّ استنباط الأشخاص وفهمهم من عالميّة حكومة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) هو أنّه لا توجد حكومة أخرى تحكم في أصقاع العالم سوى حكومة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)، وستكون هي الحكومة الأوحد من أقصاه إلى أقصاه.
ولكن يجب القول أنّه بالإضافة إلى عدم وجود أيّ قدرة مهما كانت عظمتها وقوّتها قادرة على مواجهة ومنازلة حكومة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، وأنّها الحكومة الوحيدة الّتي تمسك بزمام الأمور في العالم، فإنّ العلم والمعرفة يغطي كلّ مساحاته، وتحكم العدالة أركانه وتقلع كلّ نقيصة أو محروميّة من جذورها.
وفيها تلغى المحسوبيّات فلا يمكن لكل مخلوق ومهما كان لديه من نفوذ وصلاحيّات المقايضة والمزايدة على أقرباه وأهله، ولا يوجد فيه مكان لأبناء الطّبقات الإستقراطيّة ففيه الجميع متساون كأسنان المشط، فيعمّ الرّفاه والأمان وتقسم الثّروات والأموال بين الأفراد بالتّساوي.
ومن الخصائص الأخرى الموجودة فيه هي قضيّة التّعليم وعموميّته بين جميع الأفراد، والاستفادة العامّة من الإمكانيّات المتاحة، وانتشار الخير وصلاح.
ولأجل بيان قضيّة عموميّة توزيع الإمكانيّات والثّروات بين شرائح المجتمع والاستفادة منها، نتطرّق هنا إلى شرحها بشكل أكثر تفصيلاً:
وكما تعلمون فإنّ المال والثّروة والثّقافة والعلم والقدرات والإمكانيّات لا تقسم ولا توزع بين الشّعوب العالم بالشّكل الصّحيح والمطلوب والعادل، حيث هناك فئة خاصّة في كلّ دولة وبين بقيّة الشّرائح المختلفة هي الّتي تحتكر المال والثّروة والقدرة، ويعاني القسم الأعظم من البقيّة الباقية الحرمان والفقر المدقع.
ونشاهد إعمال سياسات التّميّز العنصري والفواصل الطبقيّة في كلّ العالم، فلذا تنحصر الإمكانيّات والثّروات في شرائح معيّنة.
ولكنّ العالم لن يكون على هذه الشاكلة أبداً، ففي عصر الظّهور تزول عمليّة التميّز العنصري من الوجود والفواصل الطّبقيّة، وتتساوى كلّ شرائح المجتمع، وتصبح العدالة والتّقوى السّمة المميّزة والبارزة للمجتمعات الإنسانيّة.
ويمكن الوصول من خلال ما عرضناه إلى النّتيجة التّالية: إنّ العلوم والمعارف والخير والصّلاح ستستعيد موقعها الرّيادي بين أوساط النّاس ويأخذ الجميع منها بشكل متساوي، ومن يقرأ في أدبيّات ذلك العصر يراه متقاطعاً تماماً مع ما هو موجود في عصر الغيبة المظلم، حيث تنعّم فئة مشخّصة من الاستفادة والانفراد بالقطاع الصّناعي المتطوّر، وتسحق بقيّة الفئات الاُخرى وتحرم حتّى من أبسط وسائل العيش السّليم.
ومن أجل سدّ هذه النّقيصة سيأخذ التّرافد العلمي والمعرّفي على عاتقه مسؤوليّة الإتيان بكلّ وسيلة متطورّة جديدة، وإبطال مفعول كلّ الوسائل القديمة ليحظى الجميع بالصّناعات الحديثة، ولكن إذا فرضنا إنّ هناك وسيلة صناعيّة معيّنة قادرة على العطاء والحفاظ على خصوصيّتها المتطوّرة في زمان الظّهور، فلا مانع من الاستفادة منها، باعتبار أنّ ذلك العصر هو عصر الخير لجميع النّاس، إذن؛ وانطلاقاً من هذا المعنى فإنّنا لسنا ضدّ الصّناعات الحديثة، ولكنّنا نعتقد أنّها تناسب عصرنا هذا وليس عصر الظّهور المشرق.
على أيّ حال، إنّ ما قلناه وطرحناه إلى الآن هو عقائد ورأى ذلك الشّخص الّذي يعتقد بأنّ عصر الظّهور هو عصر كشف الأسرار والحقائق، بناءً على الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام).
وهناك فئة أخرى وقفت ضدّ هذا التيار المصلح، فلزموا على أنفسهم الانزلاق في مداخل النّفس وأهوائها، فيرون أنّ اختراعات الكون أصبحت كاملة، ولا ينقصها ويعوزها شيء. فمثل هكذا أفراد - كانوا موجودين منذ زمان بعيد - ظنّوا وقبل أكثر من قرن ونصف أنّ الإنسانيّة حصلت على مبتغاها من الاختراعات ووصلت إلى نهاية المطاف، وهناك العديد من الأشخاص الّذي تحدث التّاريخ عنهم، يحملون هذا اللّون من التّفكير الخاصّ، ونأتي هنا بنماذج منهم:
قدّم في سنة ١٨٦٥ المدير العامّ لتسجيل الاختراعات في الولايات المتّحدة الأمريكيّة استقالته وأعلن: «إنه ليس هناك أيّ مبرّرات مقبولة للبقاء، إذ لا يوجد شيء يمكن اختراعه بعد الآن».
إنّ الخبراء الّذين أعطاهم «نابلئون الثّالث» مهام العمل على بعض الاختراعات، فإنّهم أيضاً لا يحملون ذرّة من المعرفة الواقعيّة، حيث أثبتوا بشكل قاطع أنّ المتفجّرات الّتي كان يعمل زنوب كرام على اختراعها من المستحيل أن تعمل.
وأثبت عالم النّجوم الأمريكي «نيوكومب» وعلى أساس الحسابات الرّيّاضيّة: أنّ عمليّة الطّيران لا تتمّ أبداً باعتبارها «أثقل من الهواء»، وكان يصرّ حتّى بعد طيران الأخوان «رايت» ويقول: «لا جدوى من اختراع الطّائرة، إذ لا يمكن استعمالها في المجالات المفيدة».
وفي نفس هذا الوقت فقد قام مجلس «الأسميسونيان» الّذي يضمّ نخبة من خيرة العلماء بعزل العالم والبرفسور «لانكلي»؛ لأنّه تجرّأ وأعلن أنّه من الممكن صناعة طائرات قادرة على العمل بمحرّكات إنفجاريّة.
وفي سنة ١٨٨٧ م لخص العالم الكيمياوي الكبير «مارسلين برتولو» كلّ ما يحمله هؤلاء الّذين فقدوا الثّقة حتّى بأنفسهم حين قال: «من هنا فصاعداً سنشهد عالماً بدون أيّ سرّ وحقيقة»(١٨٧).
وعلى أساس كلّ هذا فإنّ هؤلاء لا يعلمون أنّ عصر الظّهور هو عصر التّطوّر والازدهار غير الطّبيعي، حيث لا يخرجون عن دائرة الوضع الحالي الّذي نعيشه.
إنّ ما ذكرناه هو نموذج من النّسيج الفكري والعقائدي للأشخاص الّذين يؤمنون بأنّ العالم من النّاحية العلميّة والصّناعيّة قد وصل إلى أعلى مستوى منه.
نعم؛ قد كانت هذه التّخرّصات والتّوهّمات والمزاعم موجودة في القرن الماضي، ويوجد أيضاً اُناس في زماننا الحاضر يضعون ثقتهم بتلك الآراء الباطلة، ويعتقدون أنّها عين الصواب.
الظّهور أو نقطة البداية
من الطبيعي أن لا يستسيغ أمثال أولئك الّذين تحدثنا عنهم كون بداية عمليّة الظّهور هي بداية حالة التّكامل؛ لأنّهم لا يريدون أن يفهموا إنّ بداية الظّهور هي الخطوة الأولى والصّحيحة لعمليّة التّطوّر، فلماذا ينشأ عندهم هذا التّصوّر؟
للإجابة على هذا السؤال يقتضي شرح هذا الموضوع بشكل أكثر تفصيلاً ونبيّن فيه بعض العلل والأسباب الكامنة وراء ظهور هكذا رأى وعقائد سقيمة، حتّى يعلم القرّاء الأعزّاء سبب عدم اعتقاد هؤلاء إنّ نقطة التّكامل والتّقدّم تبدأ مع ظهور التّباشير والخيوط الأولى لعمليّة ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه).
ولماذا هؤلاء الّذين يعتقدون بتطوّر العالم الحالي وتكامله غير مستعدّين لترسيم عالماً أفضلاً وأكثر تطوّراً في أذهانهم والقبول به؟
في البداية نبيّن نقطتين موجزتين ومن ثمّ نتطرّق إلى التّوسّع في الموضوع أكثر:
١ - يقارن هؤلاء الأشخاص العالم الحالي بالعالم الماضي، لذا يعتقدون أنّ عالمنا هذا وصل إلى أعلى مراتب التّطوّر والتّقدّم.
٢ – لا يتوفّر عند هؤلاء أيّ معلومات إضافيّة عمّا يجري في المستقبل، ومن هذا الباب يرون أنّه «لا يوجد شيء جديد يمكن اختراعه»، مضافاً إلى أنّهم يعتقدون أنّ العالم أصبح في حالة سكون مطلق، «فهو من الآن فصاعداً لا يوجد فيه سرّ أو حقيقة»!
الدّين يعني الحياة والحضارة المتطوّرة والصّحيحة
لا شكّ في أنّنا نرى أنّ الكثير من البشر ليس لديهم الاطّلاع والمعرفة الكافية لما يقدّمه الدّين من مشاريع وبرامج عمليّة للحياة الإنسانيّة، ولم يعلموا كيف أنّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أخذ بنظر الاعتبار جميع ما يحتاجه المجتمع من متطلّبات ضروريّة، فيتوهّنون أنّ الدّين هو مجموعة من الدّساتير والأحكام الّتي ليس لها صلة أو رابطة بالحضارة والعلم والصّناعة.
البعض من هؤلاء هم من أتباع المذاهب الّتي افتعلتها الأيادي الاستعماريّة، أو هم من أتباع الأديان المنحرفة، ولهذا السّبب فهم لا يرون الدّين إلاّ من منظار ما يعتقدون ويؤمنوا به.
وهناك أيضاً مجموعة من أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، لهم هذا الاعتقاد وهذا ناتج من عدم وصول المعلومة الصحيحة لهم، وجهلهم بما يحمله الدّين من مشاريع وبرامج عظيمة للحياة، وأنّه يسير في مواكبة مسيرة الصّناعة الحديثة والحضارة والعلم المتطوّر، بل عمل وشجع لوقوعها ضمن دائرته وتحت غطائه، إذن؛ عمليّة الدّين والتّديّن هو ليس نفي العلم والحضارة والصّناعة وإنّما حدوثه في طوله.
وهذا الأمر لا يحدث في المستقبل فقط، بل يحدّثنا التّاريخ عن فترات عظيمة غطت فيها العلوم الدّينيّة المتطوّرة مساحات شاسعة من حياة النّاس، فانتشر العلم والمعرفة بين جميع أوساط المجتمع وحاز على علوم متطوّرة، بقى عصرنا الحاضر عاجز عن الإتيان بها والوصول إليها.
بالإضافة إلى ما سطّره التّاريخ، فإنّ هناك العديد من الأماكن تدلّ ويشكل لا يقبل الشّكّ أنّ هناك أثاراً لهذا التّطوّر موجودة إلى يومنا الحاضر لا يستطيع الإنسان درك أسرارها وخفاياها.
ونبيّن الآن مثالاً لكم ليتّضح أنّ الدّين لا يعارض في حال من الأحوال التّطوّر والعلم والحضارة، ولابدّ أن تأتي الحكومة الدّينيّة بالحضارة الصّحيحة.
ويطرح في هذا المجال السؤال التّالي وهو: ما مدى المعلومات الّتي كانت تملكها حكومة النّبيّ سليمان (عليه السلام)؟ وهل لديكم المعلومة الكافية عن المعبد الّذي بناه والّذي بقيت آثاره موجودة إلى الآن ولم يعرف سرّه بعد؟
ونسرّد إليكم هذه الحقائق لأجل زيادة المعلومات أكثر:
قبل حدود قرنين من الزّمن اخترع «بنيامين فرانكين» مانعة الصّواعق، وهذه من القضايا الّتي لا يمكن إنكارها، ومع وجود هذه الحقيقة فإنّ هناك أيضاً أمراً محرزاً ومسلّماً لا يمكن إغفاله والتّغاضي عنه، وهو أنّ المعبد الّذي بناه النّبيّ سليمان (عليه السلام) قبل حدود ٣٠٠٠ سنة، كان مجهّزاً بحدود ٢٤ مانعة للصّواعق، ولذا فإنّنا لم نراه يتأثّر أبداً بواحدة من تلك الصّواعق بتاتاً، وظلّ محافظاً على هيكليّته وبنائه.
ويوضح العالم «فرانسوا آراكو» في القرن الثّامن عشر هذا الموضوع فيقول: لقد تمّ بناء المعبد على الطّريقة الإيطاليّة وزيّن سقفه بواسطة خشب السّدر، وطليه بالذّهب ووضعوا له الحديد أو الفولاذ المسنّن.
ويقول النّاس: أنّ هناك ٢٤ قضيباً حديديّاً مسنّناً وضع على سطحه من أجل عدم جلوس الطّيور عليه.
وزيّن المظهر والبناء الخارجي له بالخشب المرصّع بالذّهب ووضع حوض كبير أمامه يمتلئ بالماء بواسطة أنبوب خاصّ.
ويضيف «فرانسوا»: إنّنا عثرنا على بعض الشّواهد والأدلّة الّتي تبيّن أنّ المانعات للصّواعق فيه تتمتّع بنظام سيطرة قويّ جدّاً، والمثير للأمر أنّنا إلى الآن لم نتمكّن من الاستفادة من مثل هذه الإمكانيّات الوسائل.
يمكن اعتبار المعبد الموجود في بيت المقدّس الّذي بقى يناطح الزّمن منذ آلاف السّنوات، نموذج كامل للاستفادة من مانعات الصّواعق تلك.
والآن يأتي سؤال وهو: إنّه وبعد اكتشاف النّبيّ سليمان (عليه السلام) ومن معه على سرّ مانعة الصّواعق والخوارق والأسرار ورائها، فلماذا لم يخبروا ويطّلعوا الآخرون عليها؟ إنّنا نطلب من المحقّقين والعلماء الرّجوع خطوات إلى الوراء وتبديل المجهولات إلى معلومات، والكشف عن هذه القضيّة وإعطاء الجواب الصحيح حولها(١٨٨).
وكما تقدّم قبل قليل فإنّهم اعترفوا: أنّهم «إلى الآن لم يتمكّنوا من الاستفادة من مثل هذه الإمكانيّات والوسائل».
وهذا مثال مصغّر للتّطوّر الحاصل في مجال العلم والصّناعة في زمن النّبيّ سليمان (عليه السلام)، وهو دليل ناصع على أنّ الدّين والحكومة الإلهيّة لا تعارض يوماً عمليّة التّطوّر والتّكنولوجيا، وإنّما تسعى لاقتنائها والتّشجيع عليها.
وهناك نموذج آخر من القدرة العظيمة الّذي طالما ظلّ الإنسان عاجزاً بتمام معنى الكلمة الحصول عليها، وقد تمّ الاستفادة منها في حكومة النّبيّ سليمان (عليه السلام) أيضاً، وصرّح بها القرآن الكريم ونطقت بها الرّوايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
إنّ العلم الحديث ورغم كلّ الاّدعاءات الّتي يطلقها في مجال تطوّر العلوم والتّكنولوجيا ظلّ عاجزاً عن نقل قلم من مكان إلى مكان آخر من دون الاستفادة من الوسائل الفيزياويّة، بينما استطاع تلميذ من تلاميذ النّبيّ سليمان (عليه السلام) من نقل عرش بلقيس في طرفة عين وجعله أمراً محقّقاً.
وهذا يدلّ على أنّ الإنسان يحتاج إلى قدرات واقعة ما وراء المادّة من أجل الوصول إلى القدرات العظيمة، وسيبقى أسير المادّة (أي الزّمان والمكان) إذا لم يظفر بها، وهذا الأمر لا يحدث إلاّ في ظلّ الدّين وحاكمّيته.
لذا فإنّ الدّين لا يشكل عقبة كؤوداً للتّطوّر، ولن يقف في مقابل العلم والمعرفة؛ بل هو الّذي يشجع دوماً، ويمهّد كلّ الظّروف والشّروط المناسبة والمساعدة من أجل خلق تكنولوجيّاً صحيحة ومتطوّرة وصناعات حديثة سليمة ونافعة.
وسيكون العالم شاهداً لهكذا تطوّرات مهمّة في ظلّ الحكومة الإلهيّة للإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء، وفيه ستصل الإنسانيّة إلى قمّة المسائل المعنويّة، وتسير في خطّ متوازي مع حالات التّطوّر الحاصلة في الصّناعات الحديثة والتكنولوجيّا الصحيحة بكلّ أشكالها.
وانطلاقاً من هذا الموضوع يجب علينا الدّعاء بكلّ وجودنا، والطّلب من الله العزيز القدير الإسراع بقدوم ذلك اليوم العظيم والتّوفيق لإعداد أنفسنا له.
ويجب علينا أيضاً أن نعلم أنّ فلسفة خلق الإنسان ووجوده لم تكن يوماً من الأيّام هي القتل والظّلم والجريمة والاعتداء وتشكيل الحكومات الجبّارة والظّالمة؛ بل هي تشكيل واستقرار حكومة إلهيّة، من شأنها العمل على وضع الإنسانيّة جمعاء تحت ظلّها الوارف، ولكن ظلّ الظّالمين والمستكبرين والعتاد مانعاً قويّاً أمام تحقّق ذلك.
لذا نرفع أيدينا إلى الله سبحانه وتعالى ونتضرّع إليه بكلّ وجودنا في إزالة كلّ أسباب وعقبات الظّهور، والتّعجيل في وصول وتحقيق حكومة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه ومن المستشهدين بين يديه، إنّه سميع مجيب.
الوصول إلى التّكنولوجيا الصّحيحة والمتطوّرة يكون فقط في ظلّ الدّين
نتطرّق هنا إلى توضيح نقطة هامّة وحسّاسة وحياتيّة ستغيّر بالتّأكيد أفكار القرّاء، وتجعلها منصبة لصالح المشاريع الدّينيّة المتطوّرة، وبالتّالي النّظر إلى القضايا الدّينيّة من منظار وأفق أوسع.
وقبل الشّروع نبيّن مقدّمة قصيرة وهي: أنّ الإنسان ليس موجوداً مادّيّاً بحتاً، بل تكون له جنبة أخرى وهي الجنبة الرّوحيّة، وهنا يأتي سؤال: هل إنّ الإنسان مركّب من هاتين الجنبتين أم يتكوّن من الرّوح والنّفس والجسم أو من الرّوح والعقل والنفس والجسم أو من...؟
ولعلّ السؤال من أيّ شيء يتكوّن الإنسان بحدّ ذاته مهمّ جدّاً، وقد تمّ بحثه في الأزمنة الغابرة بواسطة أتباع الأديان والمذاهب الأخرى، وبيّنوا مفاهيمهم وفقاً لإدراكاتهم، واستدلّ كلّ شخص من أجل إثبات عقيدته وفكرته بموضوع.
نحن الآن لسنا بحاجة إلى إثبات أنّ الإنسان مستقلّ وبمعزل عن الرّوح والجسم، أو أنّ له عقلاً ونفساً، أو أنّ الاثنين تابعان للرّوح والجسم، أو يتكوّن منهما معاً؛ لأنه وبناءً على كلّ واحدة من هذه العقائد يكون للرّوح وجود مستقلّ وتكون غير تابعة لجسم الإنسان.
ولكنّنا عندما نراجع المفاهيم المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام)، ونقارنها بالمذاهب المادّيّة، سوف نشاهد أنّ أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) - ومن خلال تلك التعاليم الواردة - علّمونا كيف أنّ الرّوح لها وجود مستقلّ، خلافاً لما تراه تلك المذاهب - حيث يعتقدون أنّ الرّوح تابع للجسم - وهي مصدر ومنشأ للآثار.
ومن هنا يجب علينا التّفكير بجديّة حول هذا الموضوع، والتّمعّن والدّقّة في ما تحمله الرّوح من قدرات وطاقات كبيرة وعظيمة.
النّقص الموجود في الاختراعات الحالية
نستنتج من البحث والدّراسة عن الآثار الرّوحيّة نقطة أساسيّة ومهمّة وهي: أنّ كلّ الّذي تمّ تقديمه إلى الإنسانيّة من صناعات حديثة وتكنولوجيّاً متطوّرة كان هو من الاختراعات الّتي جعلت روح الإنسان مطيّة لجسمه ومحتاجه إليه، ولم نشاهد مطلقاً أيّ مظهر من مظاهر القدرات الرّوحيّة والّتي يكون فيها الجسم تابع إلى الرّوح.
وتعتبر هذه الحالة منقصة وعيباً لا يمكن التّغطية عليه بالنّسبة إلى عمليّة التّكنولوجيا الحديثة، ومع الأسف فإنّ العلماء لم يقدّموا أيّ مشروع أو دراسة لرفع هذه النّقيصة.
ويجب العناية إلى قضيّة وهي: أنّ التّكنولوجيا الحديثة في عصر الغيبة شهدت عيوب ونواقص كثيرة، والدّليل على ذلك: أنّنا لم نجر أيّ مقارنة بين الوسائل والآلات والوسائل السّريعة في زماننا الحاضر مع الوسائل القديمة مثل العربة، نحن نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى أودع في وجود الإنسان قدرات هائلة وكبيرة باعتباره عزّ وجلّ أطلق على نفسه صفة «أحسن الخالقين»، فيقول جلّ شأنه: «تَبارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقين»(١٨٩).
ونظراً لهذه العظمة الموجودة في الإنسان فقد نراه وظف بُعداً من وجوده وترك البُعد الآخر، أليس هذا نقص وعيب؟
ومن هنا ينبغي على الإنسان ترك الفكرة القائلة أنّ الروح تابعة للجسم دائماً؛ بل عليه أن يتعلّم كيف جعل الجسم مطيّة مطيعة للرّوح، وبهذه الطريقة يتخلّص من أعباء قيد المادّيّة ومن حدود الزّمن، ولكنّنا نرى أنّ جميع الصّناعات الحديثة والاختراعات الموجودة في عصر الغيبة ابتلّت بالقيود المادّيّة.
ولهذا السّبب نقول: إنّ التّكنولوجيا في عصر الغيبة لها بُعد واحد فقط، ولا تحمل أيّة علامة من علامات التّكامل الّتي يجب أن تتوفّر فيها.
ونؤكّد بضرس قاطع إنّ جميع أبعاد الوجود ستصل في عصر الظّهور المتألّق إلى حالة الكمال والتّكامل، وتحصل على القدرات العظيمة الّتي تكمن ما وراء المادّة، وعلى أثرها لا يتحقق التّطوّر الواسع والكبير في مجال التّكنولوجيا والصّناعات المادّيّة فقط؛ وإنّما يتمّ الاستفادة من قدرات هي أعلى وأكمل.
وننقل إليكم رواية كي نؤكّد صحّة كلامنا فقد اعتدنا الاستدلال بالرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، وهذه الرّواية واضحة الظّهور والمضمون على وجود التّطوّر الواسع والعجيب في عصر الظّهور.
يقول ابن مسكان: سمعت الإمام الصّادق (عليه السلام) يقول: إنّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الّذي في المغرب، وكذا الّذي في المغرب يرى أخاه الّذي في المشرق(١٩٠).
تحليل قضيّة القدرات في عصر الظّهور
إنّ النّقطة الّتي اشارت لها هذه الرّواية هي: أنّ العالم سيشهد تطوّرات وتحوّلات عجيبة ومثيرة ومتسارعة خارقة للطّبيعة على مستوى الإنسانيّة، وسيتمكّن الإنسان على أثرها من مشاهدة أخيه الإنسان في الجانب الثّاني من الكرة الأرضيّة رغم وجود المسافات البعيدة، والاطّلاع على أحواله.
ويمكن حدوث هذه العمليّة في عصر الظّهور المتطوّر في عدّة صورة وأشكال، نضعها في ميزان الدّراسة والتّحليل:
١ - ستزداد قدرة فكر الإنسان وتكتمل إرادته بحيث يكون قادراً وبواسطة التّمركز الفكري وتوسّع المركز الظّاهري للبصر من مشاهدة كلّ نقطة من نقاط العالم، أو يكون المقصود من الرّؤية هي الرّؤية الباطنيّة والنّظر ببصيرة القلب.
هذا التحليل هو أمر طبيعيّ لما قلناه من حدوث تحوّل على صعيد الأفكار والعقائد وقوّة الإرادة الحاصلة في عصر الظّهور.
٢ - تحدّث قفزات نوعيّة في الصّناعات والتّكنولوجيا بحيث يتمكّن الإنسان من خلال الوسائل المتاحة له من مشاهدة أخيه الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها.
إنّ النّقطة الّتي يمكن التّركيز عليها هي: إنّ عقولنا وأذهاننا أدركت أنّ الحاسوب والإنترنيت والتّلفاز هي وسائل تحمل في داخلها خصائص وقدرات قادرة على وضعنا في صورة الطّرق الآخر، ويمكن من خلالها مشاهدة أحدنا الآخر، إذن؛ فإنّه من الممكن أن نتخيّل وسيلة أو اختراعاً متطوّر في المستقبل يكون من هذا القبيل.
ويمكن أيضاً أن يتوصّل العلم إلى اختراع وسيلة تصويريّة قادرة على تجسيم الإنسان نفسه وليس صورته، وبتعبير آخر قادرة على إظهار وجود أبعاده الثّلاثة وليس بُعديه.
٣ - إنّ التّحليل الآخر الّذي يمكن أن يكون هو الاستفادة من الطّريقين المذكورين معاً، وذلك بعد حصول التّطوّر المتلاحق والعجيب في البُعدين المادّي والمعنوي للإنسان.
٤ - بالإضافة إلى ما قلناه، فإنّ هناك تحليلاً يمكن تصورّه وهو إمكانيّة تحضير وإيجاد المثل عند الأخوين في كلّ نقطة من نقاط العالم، وبواسطة تجسيم الوجود المثلي أو بدون التّجسيم يمكن مشاهدة الأخوين، وهذا لا يحدث إلاّ في ظلّ زيادة القدرات الباطنيّة للإنسان.
إنّ النّقطة الّتي يمكن إضافتها في توضيح الرّواية هذه هي: إنّنا إذا قبلنا كلّ هذه التّحاليل أو بعضها أو واحداً منها أو أنّ هناك تحليل آخر يجب أن نلتفت إلى أنّ ظاهر الرّواية مبيّن أنّ القدرة على الرّؤيا في كلّ نقطة من العالم تكون عامّة وشاملة، وهذا يعني إشارتها تشير إلى وجود حالة من العموميّة والجماعيّة.
لذا فإنّ أيّ تحليل نقدّمه للرّواية يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار أنّ قدرة الرّؤية عن بُعد في عصر الظّهور لا تختصّ بمجموعة أو فئة خاصّة، وإنّما ستكون ظاهرة عامّة يتمتّع بها الجميع.
٥ - إنّ رؤية الإنسان للإنسان الآخر يمكن أن تتحقّق بشكل وصورة أخرى، وهي حضور الطّرف الآخر عند الإنسان على عكس بعض الصور الّتي ذكرناها، وذلك شبيه الّذي ورد في الرّواية الّتي اختصّت بالنّبيّ خضر (عليه السلام)؛ حيث أنّ كلّ شخص يسلّم عليه فإنّ الخضر يحضر عنده، وإليكم هذه الرّواية:
يقول الإمام الرّضا (عليه السلام):
إنّه ليحضر حيث ما ذكر، فمن ذكره منكم فليسلّم عليه(١٩١).
على أيّ حال، فإنّ وجود الإنسان في مكانين أو أكثر هو من ضروريّات ولوازم الصّور الّتي ذكرناها.
٦ - وإنّ واحد من التّغيّرات العجيبة والغريبة الّتي سوف تطرأ في عصر الظّهور هو التّحوّلات الحاصلة في بصر الإنسان، حيث سيكون قادراً على الرّؤية من مسافات وأماكن بعيدة بعد أن تزداد قوّته وقدرته(١٩٢).
إنّ التّحوّل الّذي يحصل في نظر الإنسان بشكل منعطف ومرحلة عجيبة. وإليكم هذه الرّواية الّتي توضح بشكل لا يقبل الشّكّ والتّرديد التّحوّل العظيم في القوّة الباصرة في زمن الخلاص:
يقول الإمام الصّادق (عليه السلام):
إنّ قائمنا إذا قام مدّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتّى (لا) يكون بينهم وبين القائم بريد، يكلّمهم فيسمعون وينظرون إليه، وهو في مكانه(١٩٣).
وهذه الرّواية صريحة في القول: إنّ الله سبحانه وتعالى يزيد من قوّة باصرة الإنسان في عصر الظّهور، وأكّدت أيضاً إنّ الإنسانيّة أينما كانت فهي قادرة على رؤية الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) وسماع صوته.
الدّقّة في الرّواية
من الملاحظة أنّ هناك بعض الكتّاب والمؤلّفين يحاولون بشتّى الطّرق والأساليب تطبيق مضامين هذه الرّواية على مسألة التّلفاز و.... ونظراً إلى التّعبيرات والمفاهيم الواردة فيها، فلا يمكن بأيّ وجه القول أنّ المقصود من حديث الإمام الصّادق (عليه السلام) هو التّلفاز؛ لأنه:
١ - يقول الإمام الصّادق (عليه السلام): «إنّ المؤمن يرى أخاه المؤمن»، فإذا كان مقصود وغرض الإمام (عليه السلام) هو ذلك التّلفاز، فعليه يجب أن يظهر فيه جميع النّاس، كي يشاهدوا إخوانهم في القسم الآخر من الكرة الأرضيّة، لأنّ «ال» الدّاخلة في «المؤمن» هي للجنس، وهي دلالة على الإطلاق، وهذا معناه أنّها شاملة لجميع المؤمنين.
وبما أنّ التّلفاز ليس له القابليّة على مشاهدة المؤمن أخاه المؤمن؛ بل إنّ الشّخص الوحيد الّذي يمكن مشاهدته فيه هو ذلك الشّخص الحاضر في المقاطع التّلفزيونيّة، إذن؛ لا يصدق عليه ذلك الكلام.
وكم عدد الأشخاص الّذين شاهدوا إخوانهم في التّلفزيون من بين سبع مليار(١٩٤) نسمة من سكّان العالم؟!
إنّ النّقطة الأخرى الموجودة في الرّواية ولها دلالة واضحة على تأكيد هذا الموضوع، وهي الاستفادة من الإطلاق في حتميّة مشاهدة المؤمن أخاه المؤمن في الجانب الآخر للكرة الأرضيّة، باعتبار أنّ الرّواية قد بدأت بجملةٍ إسميّة أوّلاً، وجاءت في بدايتها كلمة «إنّ» ثانياً، ووجود اللاّم في «ليرى» ثالثاً. وهذه كلّها أدلّة على أصل الموضوع وهو الإطلاق.
ونظراً للنّقاط الموجودة، فإنّ المؤمن يرى أخاه المؤمن من مكان بعيد جدّاً، كأنّه إلى جانبه، وهذا الأمر أكّده الإمام (عليه السلام) مرّات خلال تلك الرّواية.
٢ - ظاهر الرّواية دالّ على أنّ الأخ ليس وحده له خصوصيّة المشاهدة، وإنّما ذكره الإمام (عليه السلام) من باب المثال؛ حيث أنّ الأخ يمكن في ذلك الزّمان أن يرى أخته وأمّه وابنته وزوجته وبقيّة أقاربه في الجانب الآخر للكرة الأرضيّة.
فهل يكون لجميع الأخوات و... برامج تلفزيونيّة حتّى يتمكن الأخ المؤمن من رؤيتهم جميعاً؟!
٣ - إنّ الظّاهر من الرّواية أيضاً أنّ المقصود من الرّؤية في الرّواية هو حصوله من جانب الطرفين، وهذا معناه أنّ الشخص في المشرق يرى أخاه في المغرب وفي نفس الوقت، فإنّ الّذي في المغرب يرى أخاه في المشرق، فيرى الإثنان أحدهما للآخر، ولكنّ التّلفاز تنحصر فيه الرؤية على الشخص المشاهد فقط؛ حيث أنّه الوحيد القادر على مشاهدة الأشخاص الّذين يظهرون فيه، وأمّا الأشخاص الّذين يظهرون فيه فإنّهم قابعون في الإستوديوهات التّلفزيونيّة، فلا يستطيعون من مشاهدة الشخص الّذي يشاهدهم في التّلفاز، أي تتحقّق الرّؤية من طرف واحد.
إنّ النّقطة الّتي تثير الاهتمام هي: أنّ الإمام الصّادق (عليه السلام) قيّد عمليّة الزّيادة في قوّة النّظر والسّمع في عصر الظّهور المشرق وقال (عليه السلام): «إنّ قائمنا إذا قام...»؛ حيث أنّ المستفاد من هذا الكلام هو عدم حدوثه قبل قيام الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه).
لهذا لا يمكن التّعويل من حديث الإمام (عليه السلام) على التّلفاز - كما صرّح بذلك بعض الكتّاب الّذين طبقوا كلام الإمام (عليه السلام) على التّلفاز - باعتبار أنّ ظاهر الرّواية مختصّ في مقام بيان وذكر خصائص عصر الظّهور.
٤ - إذا كان المقصود من كلام الإمام (عليه السلام) هو التّلفاز، فهو يحجب ويلغي أيّة خصوصيّة وامتياز لعصر ظهور الإمام الحجة أرواحنا لمقدمه الفداء، باعتبار أنّ هذا الجهاز تمّ اختراعه قبل قيامه (عجّل الله تعالى فرجه)، والّذي جرّ الكثير من الأشخاص صوب الانحراف والظّلمة والفساد.
٥ - ومع أنّه من خلال التّلفاز يمكن مشاهدة أشخاص في أماكن بعيدة، ولكنّ القدرة على النّظر والسّمع بالوسائل الحديثة، ليس معناه زيادة القدرة لهما.
٦ - ذكرت في هذا الرّواية خصوصيّة خصّ بها الشّيعة فقط، باعتبار أنّ الإمام الصّادق (عليه السلام) قال: «مدّ الله لشيعتنا»، وأنّ التّلفاز لم يختصّ بالشّيعة قطّ.
٧ - إنّ مشاهدة التّلفزيون لم يكن يوماً من الأيّام يزيد القوّة الباصرة؛ بل بالعكس، فإنّ أكثر العلماء يوصون إلى عدم المشاهدة له بكثرة؛ لأنّه يضرّ العين.
٨ - إذا كان المقصود من الرّواية الوسائل الظّاهريّة فما هو الدليل على أنّ هذه الوسيلة هي التّلفاز، فيمكن أن تكون غيره، وربما أكثر تطورّاً منه، فإذا كان مقصود الإمام (عليه السلام) شيئاً آخر غيره، فما الدّاعي إلى حمله عليه؟!
٩ - إنّ النّقطة المثيرة الموجودة في بعض الرّوايات هي أنّ موضوع التّغيّر والتّحوّل في السّمع والبصر يحدث بعد الظّهور وقيام الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه). ولذا فإنّه تمّ نفي أيّ وسيلة من قبيل التّلفزيون والحاسوب والإنترنيت قبل عمليّة الظّهور، ومن هنا فإنّ هذه الرّواية تخرج تلك الوسائل من دائرتها.
لقد أنبأ الإمام الصّادق (عليه السلام) بحدوث تلك التّغيّرات والتّحوّلات في وجود الإنسان وقيّدها بما بعد قيام الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء، حين قال (عليه السلام): «إنّ قائمنا إذا قام...»، وهذا صريح في حدوثها بعد القيام.
١٠ - إنّ النّقطة الأخرى الّتي تجلب الأنظار إليها هي: أنّ الإمام الصّادق (عليه السلام) يقول: «مدّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم...»، إنّ الله يمدّ للشّيعة في الأسماع والأبصار، فإذا كان المقصود هو أنّ التّحوّل هذا ناتج من وسائل ظاهريّة مثل التّلفزيون والحاسوب، فإنّ من الطبيعي أنّ هكذا وسائل لا قدرة لها على إحداث أي تحوّل أو تغيير، ولا يمكن من زيادة قدرتهما.
لذا - وكما هو واضح في الرّواية - فإنّ مقصود الإمام (عليه السلام) من قوله: «مدّ الله لشيعتنا...» هو أنّ التّحوّل هذا نابع من وجودهم وليس عارضاً عليهم من الخارج، وعن طريق الوسائل الظاهريّة.
١١ - النّقطة الأخرى هي: أنّ الإمام الصّادق (عليه السلام) يقول: «مدّ الله...» حيث نسب الإمام (عليه السلام) هذا التّغيير والتّحوّل إلى فعل البارئ عزّ وجلّ، وهذا يعني أنّ الله سبحانه وتعالى يوجد هذا الأمر في الأمّة بعد قيام الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه)، وهذا دليل على أنّ التّغيّر هذا هو موضوع غير عادّي وغير طبيعي، ويتّضح من ظاهر العبارة أنّ أيّة أحد لا ينسب اختراع التّلفاز أو أيّ وسيلة أخرى إلى الله سبحانه وتعالى.
١٢ - إنّ الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) يستفيد في إدارة حكومته من القدرات المعنويّة العظيمة، وبهذا النّحو يوجد حالة وعمليّة التّحوّل في الإنسانيّة. ومع هذا فإنّ أصحاب الأفكار الخاوية والّذين يعيشون على امتصاص دماء الشّعوب، يريدون ومن خلال الاعتماد على سياسة القطب الواحد، إصلاح العالم. وهؤلاء – لا يستطيعون على حلّ حتّى مشاكلهم - يظنّون أنّهم قادرون على إدارة القارات السّبع!!
١٣ - إحدى الخصائص الّتي يحملها في طياته عصر الظّهور المتألّق، هي قدرته على تقليل قيود الزّمان والمكان. وهذا البحوث ومع الأسف لم تأخذ نصيبها الكافي من الدراسة، لذا أصبحت من البحوث العجيبة لدى الشّارع، فأطلق عليها إسم «عجائب عصر الظّهور المشرق»، وذلك الزّمان بإسم «زمان العجائب».
ولعلّ البحث في مسألة التّغيير في القيود الزّمانيّة والمكانيّة هو أمر جديد، ولكن عند الخوض والدّراسة في الرّوايات الواردة والأحاديث الشّريفة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، نرى أنّ هذا الموضوع تمّ بحثه والتّطرّق إليه، ولهذا فإنّ عدم معرفة مجتمعاتنا به ليس دليلاً على أنّه لم يذكر في الرّوايات.
فإنّ الرّواية الّتي نقلناها هي خير دليل على أنّ الإمام الصّادق (عليه السلام) أظهر وبكلّ وضوح قضيّة ارتفاع القيود الزّمانيّة والمكانيّة في عصر الظّهور، وبيّنه على أنّه موضوع قطعيّ وحتمي.
لا شكّ في أنّ تحجيم وتحديد الإنسان بالقيود الزّمانيّة والمكانيّة على مرّ التّاريخ، هي مسألة لا تحتاج إلى بحث ودراسة، وأصبحت من الأمور البديهيّة، وقد سعى دوماً إلى التّخطيط والبرمجة لخلاصه منها، ولكن باءت كلّ محاولاته بالفشل، ونقولها بكلّ صراحة: إنّ هذه القضيّة لا تتحقّق إلاّ في عصر الظّهور وحينما تتحقّق فإنّها ستتحقّق في أعلى مستويّاتها.
إنّ الجملة الّتي قالها الإمام الصّادق (عليه السلام) (... ليرى أخاه الّذي في المغرب...) دليل قويّ على رفع القيود النّسبيّة المكانيّة؛ لأنّ الرّواية تصف زمان الظّهور هكذا: «إنّ المؤمن في زمان القائم (عليه السلام) وهو بالمشرق ليرى أخاه الّذي في المغرب».
فيوضح هذا الكلام أنّ بُعد المسافة بين الإثنين وإبتعاد أحدهما عن الآخر، لا يكون عائقاً وسبباً في عدم حصول الرّؤية، ولا يحرم هذا البُعد المكاني والمسافة الطويلة بينهما من المشاهدة.
وهذا أكبر دليل على زوال المسألة النّسبيّة للمكان، حيث أنّه وعلى الرّغم من وجود كلّ هذه المسافات الطويلة، كأنّهما الواحد بجانب الآخر وكأنّ الإثنين في مكان واحد.
فهل يحدث كلّ هذا التّطوّر في القدرة الباصرة للإنسان، نتيجة التّحوّل من خلال وسائل اختراع متطوّرة؟
وستصبح القدرات ما وراء المادّة ونتيجة لتكامل العقول - بالإضافة إلى قدرة حاسّتي السّمع والبصر - من الوسائل والطرق المهمّة لأجل كسب والحصول على العلم والمعرفة.
ومع كلّ الاحتمالات الّتي أوردناها فإنّه من الممكن أن تكون رؤية أحدهم للآخر على نحو آخر لن تتوصّل إليه عقولنا.
نظرة خاطفة إلى الصّناعات الحديثة
من المواضيع الّتي تعرضنا لها هو موضوع التّطوّر العجيب والعظيم الّذي سيشهده عصر الظّهور على صعيد العلم والمعرفة. ومن النّقاط الّتي ذكرناه فيه هي مسألة تكامل الأفكار والعقائد، ويتّضح من خلال ما بيّناه أنّ الكثير من الوسائل الصّناعيّة الّتي يستفيد منها البشر في وقتنا الحاضر - نظراً لتكامل العلمي والثّقافي في ذلك العصر - تخرج وتركن جانباً؛ كما نراه يحصل بين الفينة والأخرى وها نحن نشاهد أنّ الإنسان ترك استعمال العربات والعجلات القديمة، وأبدلها بالوسائل الحديثة مثل السيّارات والقاطرات وغيرها من الوسائل الأخرى، وسوف يحصل في ذلك الزّمان نفس هذا الأمر؛ فإنّ التّطوّر العلمي الهائل الّذي سوف يتوسّم به مجال العلم والمعرفة سيؤدّي إلى ترك استعمال الكثير من الوسائل وركنها على الرّفوف، والّتي تعدّ من وجهة نظرنا الحاليّة من أحدث الوسائل والآليات المتطوّرة والمعقدة، والاستفادة من الوسائل الّتي تناسب عصر القفزات العلميّة وعصر التّكامل العلمي ذاك.
فهل من الصّحيح والمعقول أن تستفيد الإنسانيّة - ومع كلّ هذا التّطوّر غير المسبوق والعظيم في جميع مناحي العلم والمعرفة - من وسائل قديمة صنعت في الحقب الزّمنيّة البالية؟
ألم تعدّ الاستفادة من الوسائل القديمة في ذلك الزّمان رجوع عقارب الزّمان إلى الوراء، ونمط من أنماط عدم مواكبة متطلّبات ذلك العصر التّطوّر؟
يمكن الجزم أنّه وكما ترك الإنسان الإبرة والخيط وجعل مكانها ماكنة الخياطة، وكما أنّه رفع يده عن العربة والعجلة القديمة، واستقلّ السّيّارات الحديثة والمتطوّرة، فإنّ تطوّر العلم والمعرفة في ذلك الزّمان سيضع أكثر الوسائل الآلية - وليس جميعها - جانباً، ويصنع وسائل متطوّرة جدّاً لا يمكن مقارنتها في أيّ حال من الأحوال مع الوسائل الموجودة في زماننا الحاضر.
ولأجل اتّضاح المطلب أكثر نستعين بذكر مثال وهو: إذا استطاع شخص ما الاستفادة من الطّاقة الشّمسيّة في تشغيل سيّارته وبقيّة الوسائل الشّخصيّة الأخرى، فهل من الصّحيح والاستفادة مجدّداً من البنزين والكازوئيل والمحروقات الّتي تساهم في تلويث البيّئة؟
وكما أوضحنا سابقاً، إنّ الإنسان في ذلك العصر لا يستفيد فقط من الوسائل المادّيّة الموجودة في مجال العلم والصّناعة على أفضل وجه؛ وإنّما يمكنه من خلال التّطوّر الحاصل بالأمور المعنويّة والوصول إلى عالم الملكوت والحصول على قدرات وقوى مجهولة وغير معروفة في عصرنا هذا صنع وسائل متطوّرة جدّاً والاستعانة بها في أمور حياته.
وعلى ضوء هذا نقول: إنّ الكثير من الوسائل المتطوّرة في زماننا - في أقلّ تقدير - يستغنى عنها وتترك في ذلك العصر المتنوّر بالعلم والمعرفة.
ومن الطّبيعي فإنّ هذا العمل ليس معناه التّقهقر والرّجوع إلى الوراء؛ بل ونظراً لما يحمله ذلك العصر المبارك لحكومة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) الإلهيّة من تكامل في العلم والمعرفة لدى الإنسانيّة جمعاء، والقفزات نحو العلم والصّناعة، فإنّ الاستفادة من تلك الوسائل يعدّ بمنزلة الاستفادة من العربة والعجلة في هذا الزّمان!
وهذه حقيقة واضحة كوضوح الشّمس في رابعة النهار إلى جميع الأشخاص الّذين يعتقدون بأنّ عصر الظّهور العظيم هو عصر التّكامل العلمي والمعرفي والعقائدي.
لأنّهم يعلمون علم اليقين بأنّ التّطوّر في العلم الحديث أحدث تغيّرات كبيرة في العديد من الصّناعات بالنّسبة إلى الزّمن الماضي، فإنّ التّطوّر غير الطّبيعي والعظيم في عصر الحكومة الإلهيّة العادلة للإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) سيأتي بالكثير من التّغيّرات والتّحوّلات الّتي لا حصر لها بالنّسبة إلى المجتمعات الإنسانيّة، فيضحى كلّ هذا التّطوّر الّذي نعيشه أمر عادّي.
إنّ الشّمس هي المصدر الأول والأساسي والمهمّ للطاقة والحرارة والضّياء والنّور، وعلى الرغم من كلّ الادّعاءات الّتي يطلقها الإنسان من هنا وهناك في مجال تطوّر العلم والمعرفة، لكنّه إلى الآن لم يتمكّن من الاستفادة الكاملة من طاقتها، وظلّ عاجزاً من إحداث وابتكار طريقة لحفظ طاقتها، كالذي فعله بالنّسبة إلى الماء وبناء السّدود لحفظه.
وإنّ كلّ الّذي استطاع عمله ومعرفته هو أنّ الشّمس هي مصدر مهمّ وحياتي للطّاقة، وأمّا بقيّة الاُمور مثل كيفيّة الاستفادة منها والحصول على طاقتها، وما هي الوسيلة الّتي يمكن اختراعها لتحويل طاقتها وإحلالها محل الاستفادة من النّفط والغاز والكازوئيل و... غامضة وضبابيّة، ولا نجافي الحقيقة إذ قلنا: إنّ هناك خططاً للاستفادة منها، لكنّها لا تقارن ولا ترتقي إلى مستوى الطّموح وتصل إلى قدرتها الحقيقيّة.
ونبتعد قليلاً عن الشّمس وطاقتها ونأتي إلى القمر، فإنّ القمر هو أيضاً مصدر آخر ومهمّ، وله تأثيرات كبيرة على كوكب الأرض ومن يعيش عليها، ولكنّ البشر لم يتمكّن إلى الآن من السّيطرة والحفاظ على طاقته ووضعه تحت اختياره، والاستفادة الصّحيحة والمطلوبة منه، رغم ادّعائه بالتّطوّر في العلم والمعرفة.
لا شكّ في أنّ من الأمور الّتي توصل إليها العلم الحديث هي مدى تأثير نور القمر على مياه الأرض، وحالة المدّ والجزر الحاصلة فيها والتّأثيرات المباشرة على جسم وروح الإنسان، وتّأثيراته العجيبة أيضاً على الأشياء، لكن عمليّة حفظ طاقته والسّيطرة عليها والاستفادة منها ظلّت من الأمور المستعصية عليه(١٩٥).
وبعد الشّمس والقمر فإنّ للضّوء المنبعث من النّجوم والمجرّات طاقات قدرات عجيبة وغريبة أيضاً، لم تتمكّن المحافل العلميّة من كشف أسرارها، وكسابقاتها لم تجد الطّريقة المثلى لخزنها. وفي الحقيقة فإنّ التّأثير الّذي أوجده الله سبحانه وتعالى لطلوع بعض النّجوم على الأرض وسكّانها، عظيم وعجيب بحيث يفوق تصوّر الكثير من الأشخاص.
ذهبنا في هذه الأسطر بعيداً عن الأرض، ودرسنا بعض حالات القمر والشّمس ومن هناك عرجنا إلى بعض المجرّات الأخرى، والآن نعود إلى وطننا آلام، والّتي لا زال فيها الكثير من القضايا والعجائب المهمّة خافية، وبقى العلم الحديث يراوح في مكانه ولم يفهمها بالشّكل الواقعي والحقيقي لها، وظلّت أسرار خلق الأرض بعيدة عن مناله.
ولكن في العصر الّذي تحكم الحكومة الإلهيّة المطلقة للإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه)، وتبسط ظلّها الوارف على المعمورة، سيظهر الأشخاص الّذين كانوا شهوداً على خلق الأرض والزّمان والقمر والشّمس والمجرّاة والسّحاب إلى الإنسانيّة، ويأخذون بزمام الإنسان وقيادته فيبهرون بنور معرفتهم وعلمهم العالم بأسره، ويدفعون المجتمع بعيداً عن كلّ أنواع الظّلمة والجهل.
نعم في ذلك الزّمان - كما وعدوا هم أنفسهم ووعدهم هو الصّادق - لم يبق علم لم تفتح أبوابه، ولم يبق غائباً عن الإنسان أيّ سرٍّ خفيٍّ(١٩٦).
نحن حينما نذكر ذلك العصر المجهول! الّذي تحلّ فيه أسرار الكون، ولا يبقى سرّ من أسراره خفيّاً على العيان، تفرح وتبتهج قلوبنا، وتتطاير وتظلّ مفعمة بالأمل، وننتظر بشوق حلوله، وفي نفس الوقت تبعث زفرات اللّوعة والحرقة والأسى على وضعنا الحالي، فهل إلى ذلك من خروج؟
ما هو مصير الاختراعات الحاليّة في عصر الظّهور؟
أشرنا سابقاً إلى وجود عاملين أساسيّن يرتقيان بالإنسانيّة إلى أعلى سلّم في العلم والمعرفة، وهما: ١ - الإرشادات والتّعاليم الصّادرة من قبل الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء. ٢ - التّكامل العقلي والفكري في عصر الظّهور.
وهنا نطرح سؤالاً وهي: ماذا سيكون مصير الاختراعات الفعليّة على ضوء التّطوّر العجيب والعظيم في مجال العلم والمعرفة في زمان الظّهور المتألّق، فهل تمحى من الوجود؟ وهل تقع ضمن دائرة استفادة البشريّة فيه؟ وهل....
هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن تقدح في أذهان بعض النّاس ومن المناسب إعطاء الجواب الكافي والشّافي لها، ولأجل ذلك قمنا بتصنيف اختراعات ذلك الزّمان حتّى نعطي جواباً مقنعاً للقرّاء الكرام.
انعدام الاختراعات المضّرة
لا شكّ في أنّ هناك الكثير من الاختراعات في وقتنا الحاضر تدخل ضمن الوسائل المخرّبة والمدمّرة، وتستعمل في الحروب والمعارك والقتل الجماعي من أمثال القنبلة النّوويّة و....
ومن الطّبيعي فإنّ هكذا اختراعات لا تحصد منها المجتمعات الإنسانيّة ولا تجني سوى الظلم والخراب وإراقة الدماء، وهذه الصفات لا تتلاءم ولا تنسجم مع الحكومة الإلهيّة العادلة للإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء.
لذا فإنّ انهدامها هو للصّالح العامّ، وهو خطوة في طريق نجاته وبقيّة الموجودات والكائنات الأخرى.
وهنا نقطة لابدّ من تسليط الضّوء عليها وهي: إنّ الحكومة الّتي يترأّسها الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه) هي وحدها لم تنفرد بعمليّة التّلف لتلك الوسائل، بل أنّنا شاهدنا أنّ الكثير من الملوك والحكّام الّذين تسلموا مقاليد الحكم في مختلفة بقاع عالمنا قاموا بنفس الخطوات، إذ دفعهم الحسّ الإنساني إلى إظهار مخالفتهم الصّريحة مع مبدأ صناعة هذه الوسائل، مع حاجاتهم الضّروريّة واللاّزمة لها.
«لوني الخامس عشر» أحد الأشخاص الّذين أبدوا ردود فعل اتّجاه تلك الوسائل المدمّرة. يحدّثنا التّاريخ أنّ هذا الملك كان من الملوك الّذين يشجعون ويحفزون العلم والعلماء، ويثمنون الجهود المبذولة في هذا الخصوص، وكان يوفّر جميع الإمكانيّات للعمل والتّحقيق.
ونتيجة هذه الحوافز فقد تمكّن أحد علماء الكيمياء ويدعى «دوبره» من اختراع نار قويّة وعجيبة بحيث لا يقدر أحد على مواجهتها أو الهروب منها، وحتّى الماء كان يزيد من قوّتها وقدرتها. ووضع «دوبره» اختراعه في مرحلة الاختيار والإجراء بحضور الملك في ترسانة «باريس».
فلمّا شاهد الملك قدرتها وقوّتها على تخريب مدينة بكاملها أو قتل جيش كبير، بدت علامات القلق والاضطراب تظهر على وجهه، فأصدر أوامره بالحال في إعدام هذه المادّة، وعدم وضع طريقة تحضيرها تحت اختيار أيّ شخص كان.
وأصدر «لوئي الخامس عشر» قراره هذا، مع أنّه كان في مواجهة حامية مع بريطانيا، وبأمس الحاجة للقضاء على القوات البحريّة لعدوّه، لكنّه وحسب قوله: إنّني إرتأيت من المصلحة عدم استعمال هذا السّلاح الفتّاك وسعى إلى انعدامه، وذلك من أجل نجاة الإنسانيّة(١٩٧).
عدم قدرة العلم على قيادة العالم
ظنّ الكثير من العلماء في القرن السّابع عشر والثّامن عشر ونتيجة التّطوّر الهائل والقفزات النّوعيّة الّتي شهدها العلم، أنّه سيأتي اليوم الّذي يتمكّن العلم من خلاله الهيمنة والسّيطرة على العالم، وسوف ينجيه من كلّ المصائب والنّواقص والحرمان والويلات الّذي يعانيه بواسطة القوانين الّتي يقنّنها.
ولكن بمرور الزّمن تبخّرت تلك الأحلام الورديّة، وظهرت نتائج عكس ما ظنّوه وأرادوه؛ لأنّ تطوّر العلم والمعرفة عجز عن تحقيق العدالة في الأرض، بل اضافا إلى المجتمع الإنساني المزيد من المآسي والأحزان.
فقد سجّل التّاريخ حقيقة مفادها أنّ الملايين من البشر ذهبوا ضحيّة هذا التّطوّر، وأنّ الملايين شردوا عن ديارهم وأوطانهم وسقطوا عن عالم الوجود.
إنّنا في الواقع لا ننكر المراحل المتطوّرة الّتي حصلت في العلم، لكن نقول: إنّ هذا التّطوّر يجب أن يكون مصحوباً بالتّطوّر في جميع المناحي ولا يقتصر في جانب واحد، ففي الوقت الّذي تطوّر العلم بقيت الإنسانيّة على حالها ضعيفة، ولم تزرق بعناصر القوّة والمنعة.
على أيّ حال، فإنّ العلم يتطوّر ويصل إلى مراحله النّهائيّة عندما يتزامن تطوّره مع تطوّر العقل والإنسانيّة. ومن خلالهما يساق المجتمع إلى حالة التّكامل، وبدونهما فإنّ مصيره الزّوال والانحطاط.
وهناك شعر جميل في الأدب الفارسيّة مضمونه:

 

إذا المصباح كان بكفّ لصّ * * * سيسرق أثمن الأشياء قدراً

 

إنّ نظام الخلقة وضع على أساس التّكامل الصّحيح، ومعنى هذا الكلام هو: أنّ جميع الكائنات من نباتات وحيوانات وإنسان بدأت مسيرتها التّكامليّة منذ اليوم الأوّل لخلقتها. فإذا كانت قد بقيت على حالها فما هو شكل العالم حينها؟ لذا فإنّ التّكامل بهذا المعنى هو من الشّروط الضّروريّة للحياة.
إنّ النّقطة الّتي يجب الالتفات إليها هي: إنّه يجب أن يكون التّكامل الجسدي متزامناً مع التّكامل الفكري والرّوحي، يعني وكما أنّ الأطفال ينمون من النّاحية البدنيّة، يجب كذلك حصول النّموّ لديهم في الجانب الفكري والرّوحي وإلاّ فإذا كان نموّهم من النّاحية الجسديّة وبقيت أفكارهم صبيانيّة، فما هو حالة ووضع المجتمع آنذاك؟
إذن؛ يجب أن يكون هناك مسير متوازن بين التّكامل الجسدي من جهة، والتّكامل الفكري والرّشد العقلي من جهة أخرى. وذلك في جميع أبعاد المجتمع الواحد، وإلاّ في حال وصول الإنسان ناحية التّكامل، وحصل نوع من الخلل والسّكون في بقيّة الأبعاد الأخرى، فإنّ المجتمع سيفقد توازنه ويتّجه إلى الهاوية والسّقوط.
ومن هذا المنظار وكما يسعى المجتمع في طريق العلم والمعرفة ويطلب عمليّة التّطوّر والتّكامل العلمي والصّناعي والوصول إلى قمّة المسائل الماديّة، عليه بنفس المقدار المكافحة والمجاهدة لكي يصل إلى التّكامل من النّاحية الرّوحيّة والمعنويّة، وإلاّ سيجلب التّطوّر في العلم والمعرفة بدون رعاية القضايا الرّوحيّة والمعنويّة مستقبلاً خطيراً تكتنفه متاهات مظلمة!
فمن هنا نشير إلى أنّ المجتمع الإنساني وأنصار الحداثة والعولمة إذا أرادوا التّطوّر والتّكامل، فعليهم في الوقت نفسه السّعي الجادّ في طريق التّكامل الفكري والرّوحي لمجتمعهم سويّاً، وليس السّعي والعمل في تكامل الوسائل الّتي يصنعونها فقط.
إنّ الخطوة الأولى الّتي يجب عملها هو إيجاد حالة التّحوّل والتّكامل في بناء وجود الإنسانيّة من ناحية الشّخصيّة والأفكار والعقائد والرأي الصحيح، كي يحصل بالفعل التّطوّر الواقعي والحقيقي في العلم والصّناعة، وعدم العمل بالبُعد الواحد الّذي من شأنه تهديد العالم بالفناء.
مستقبل العالم والحرب العالميّة
كانت هناك شخصيّات عالميّة معروفة سواء في الماضي أو في الحاضر تتخوّف من فناء العالم وزواله من الوجود، ويعلمون أنّهم السّبب والعامل الأصلي والحقيقي لوصول الإنسانيّة إلى هذا المصير المحتوم، وواحد من هؤلاء هو «آينشتاين».
يقول «راسل»: إنّ وجود القنبلة النّوويّة والقنبلة الهيدروجيّة - الّتي هي أقوى من الأولى بكثير - أوجدت حالة من الرّعب والوحشة في قلوب النّاس من جديد، ووضعت النّتائج الّتي وصل إليها العلم في حياة الإنسان موضع الشّكّ والتّساؤل؛ حتّى أنّ بعضاً من أصحاب القرار – و«آينشتاين» هو واحد منهم - أذعنوا إنّ هناك خطراً جدّيّاً يهدّد الحياة بالفناء فوق هذا الكوكب الأرضي.(٣٠)
يقول «دكنت دونوئي»: إنّ البشريّة اليوم تتعرّض إلى الفناء الكامل نتيجة استعمال الأسلحة النّوويّة، وأدرك الجميع أنّ الطّريق الوحيد للخلاص منوط بتنمية ونشر الأخلاق الرّفيعة الإنسانيّة، ولأوّل مرّة في التّاريخ البشري يتخوّف الإنسان من العمل الّذي أنجزه بذكائه(١٩٨).
نعم؛ إنّ هناك الكثير من السّاسة الأروبيّين يعيشون حالة من الخوف والهلع لما سوف يؤول إليه مصير العالم ومستقبل الإنسان، ولا يعلمون هل سيفنى في النّهاية نتيجة الاستفادة من الأذرار النّوويّة أم لا؟
إنّ أحد العوامل المهمّة الّتي تهدّد العالم وتمهّد الأرضيّة المناسبة لحرب عالميّة شاملة، هي مبيعات الأسلحة المتطوّرة لبلدان ودول مختلفة؛ حيث أنّ السّاسة يقدّمون على هذه الخطوة الهدامة من أجل كسب الثّروة والمال والنّفوذ أكثر داخل تلك البلدان.
ويعدّ بيع الأسلحة العسكريّة إلى البلدان الأخرى، هو واحد من المصادر المهمّة لدخل البلدان الكبيرة. ولهذا نرى أنّ الأسواق تشهد يوميّاً عرض أسلحة فتّاكة جديدة أقوى بكثير من سابقاتها، والآن إليكم هذا التّقرير:
«... لا شكّ في أنّ القنبلتين اللّتين ألقيتا على المدينتين في مدينتي «هيروشيما» و«ناكازاكي» اليابانيّتين في أواخر الحرب العالميّة الثّانية، قد أوجدتا الكثير من الدّمار والقتل. وأمّا الآن فإنّ هناك قنبلة نتروجينيّة وهي تختلف عن القنبلة النّوويّة لها خصوصيّة القتل فقط، وليس لها قدرة على التّخريب حتّى بمقدار رأس إبرة.
إنّ قدرتها الانفجاريّة قليلة جدّاً، لأنّ ٨٠% من طاقتها تتحرّر وتخرج على شكل أشعّة نتروجينيّة، وهذه الأشعّة هي السّبب من وراء القتل الحاصل، فهي حينما تنتشر في ميدان الحرب، فلن تبقي أيّ موجود حيّ مهما كان حجمه.
ويتحدّث «ساموئل كوهن» عن معايب ومحاسن اختراعه! فيقول: إنّ القنبلة النّتروجينيّة لها عيبان أساسيّان، هما:
الأوّل بما أنّها تبقي المدن والأبنية على حالها من دون تدمير، فإنّه من الممكن احتلالها من قبل العدوّ، أو أنّه يستعمل القنبلة النّوويّة من أجل دمارها.
والثّاني هو إنّ حدود عملها وتأثيرها هو جميع الموجودات الحيّة بما في ذلك الموجودات الطّفيلية، وإنّها قادرة - وفي زمان مقداره واحد بالمليون من الثانية - تبديل مدينة كبيرة بأكملها إلى قبر جماعي، ولا يسلم أيّ موجود من ضررها.
ويضيف هذا العالم!: ولكن حسب اعتقادي فإنّني أرى أنّ القنبلة النتروجينيّة أكثر أخلاقاً من القنبلة النوويّة؛ لأنّ القنبلة النّوويّة تعتمد فكرتها على عمليّة انكسار وانفطار النّواة، لذا فإنّها علاوة على الدّمار والقتل الّذي تخلفه، فإنّها تسبّب في إعاقة الكثير من خلق الله سبحانه وتعالى، بينما القنبلة النّتروجينيّة عملها هو القتل الجماعي ولا تبقي شخصاً معاقاً أو ناقص العضو والخلقة(١٩٩).
إنّ الحديث المذكور الصّادر من قبل مخترع القنبلة النّتروجينيّة، ينطوي على الكثير من الحقائق والأمور، من جملتها: إنّ القتل الجماعي يعدّ من القيّم والمبادئ المتعارف لديهم، فإذا صنعت قنبلة لا تبقي على أيّ كائن حيّ على الكرة الأرضيّة فهي أخلاقيّة أكثر من غيرها. نعم؛ هذا هو مبدأ الإنسان الّذي ترك ذكر الله عزّ وجلّ، وابتعد كلّ البُعد عن القيّم والمبادئ الإلهيّة(٢٠٠)!
حينما أدانوا الصّناعات المتطوّرة والتّقنية الجماعيّة، فإنّهم أدانوا العلم أيضاً حتّى قال «برتراندراسل» مقولته الدّالة على القنوط واليأس حول العالم: «نحن نعيش في عصر يمكن أن يكون عصر فناء نوع البشر، فإذا وقع فإنّ العلم هو الّذي يتحمّل أعباء ومسؤوليّة ذلك»(٢٠١).
في مطلع سنة ١٩٦٠ م أعرب الأعداء عن قلقهم المفرط حيال خيبة الأمل الّتي انتشرت بشكل واسع بين الشّباب المثقف الواعي ونظرتهم بالنّسبة إلى العلم، وكيف أصابهم الإرهاق والنّصب جراء المصائب النّاشئة من انتشار كلّ هذه التّفنيات الحديثة(٢٠٢).
«استطاعت الحضارة الغربيّة تلويث العلم، وجعلته ينصب ضمن قوالب تحقّق أهدافها ومصالحها غير الإنسانيّة والرّخيصة، فجاءت بالدّيمقراطيّة كغطاء لتتستر عن أهدافها غير المعلنة والخفيّة. لذا فقد حان الأوان في التّفكير الجادّ عن عاقبة هذه الحضارة، والتّعرّف ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين إلى الأسباب الّتي أدّت إلى شعور الإنسان بجهل نفسه، وعدم الاعتدال والتّعاسة الّتي تواجهه والعمل على حلّها وإزالتها.
وهذا الأمر لا يحصل من خلال أبعاد العلم الصّحيح عن السّاحة وتغييبه وإحلال التّوهّمات محلّه، وإنّما يحدث بواسطة الحكمة العقلائيّة وتربيّة علماء مسئولون وواعون. لذا يجب علينا النّزول من البروج العالية للعلم والتّواضع وأن نضع نصب أعيننا توفير الاحتياجات الإنسانيّة والإجابة على كلّ ما يجول في خواطرها، وذلك من خلال أنابيب الاختبار»(٢٠٣).
ومنذ بداية سنة ١٩٤٥ م وما بعدها فإنّ العالم وضع على كفّ عفريت، وأصبح مرّات ومرّات يعيش على حافة الدّمار والفناء، وقد سببت وجود الأسلحة النّوويّة إلى إحساس سكّان العالم بالخوف دوماً، وهذه المخاوف لم تردع القائمين على صناعتها، فلتنافس جاري على قدم وساق في مجال تجهيز وتقوية الجيوش العالميّة بتلك الأسلحة ممّا يقرّب الأرض من خطر التدمير أكثر فأكثر.
وفي وسط هذه القدرات العسكريّة والأحداث السياسيّة السّاخنة وقبل عشرات السّنوات، وحينما كانت الدّول تهدّد أحدها الأخرى خرجت شخصيّتان علميّتان ورفعا راية المخالفة للأسلحة النّوويّة، وكانا من قبل قد لعبا دوراً فعّالاً في تهيئتها، وهما «آلبرت آينشتاين» و«لئوا سنريلارد».
وفي سنة ١٩٦٢ م حذر علماء الفيزياء من مغبة القيام بالتّجارب النّوويّة، وأعلنوا بشكل رسمي أنّ هناك أكثر من ٢٠٠٠٠٠ آلاف طفلٍ معلول ومشوه جاء إلى الدّنيا في غضون سنة واحدة نتيجة تلك التّجارب.
إنّ «السزيوم ١٣٧» النّاتج عن تلك الانفجارات النّوويّة له تأثير مباشر على جيّنات الجنين، وأقلّ تأثير له هو ولادة أطفال بستّة أصابع، أو رجل واحدة، أو يدين مشوهتين.
وأعلن بعض من العلماء الكبار من أمثال «زان روستان» والدّكتور «دلوني» والبروفسور «مولر» الحاصل على جائزة نوبل في الأحياء، رسميّاً قلقهم من هذه النّاحية، وحذروا أنّه في حالة تكرار تلك التّجارب فإنّ البيئة ستتعرّض إلى أخطار جسيمة وفادحة.
وبعد هذا التّصريح تضامن معهم العديد من علماء العالم، وإستجابة الكثير من دول لهذا النّداء الإنساني، ونتيجة التقليل من التّرسانات النّوويّة الّذي حدث في الآونة الأخير فقد تنفّس العالم السّعداء.
وفي سنة ١٩٦٢ م نظم المئات من العلماء المتخصّصين والمعروفين في علم الأحياء اجتماعاً تحت شعار «الجميع سيموتون نتيجة الإشعاعات النّوويّة إذا...»، وحذّر في هذا الاجتماع عالم الطبيعيّات الفرنسي المعروف «زان روستان» قائلاً: «ستمطر الموادّ المشعّة الموت الزّؤام على الأحياء، وتجلب معها جيلاً من المجانين والمعلولين والعمي والصمّ»(٢٠٤).
«ولا شكّ في أنّ الجيل الّذي سيأتي بعد القصف النّووي لا يتعدّى حجمه أكبر من كف اليد.
الاختراعات المدمّرة غير النّوويّة
إنّ القضيّة الأخرى الّتي تواجهنا هي ليست الصّناعات النّوويّة وحدها؛ بل إنّ هناك صناعة فتّاكة أخرى ظهرت إلى الوجود، وهي الصّناعات الكيمياويّة. فقد وضعت قدمها في هذا السّباق العالمي الّذي يتسابق فيه الجميع إلى الموت والفناء؛ حيث أنّ أشعّة إكس وحدها خطرها يشكل أكثر من عشرين ضعفاً من خطر الإشعاعات النّوويّة، وهذا ما أيّده العلماء الأمريكيّون، وكذلك فإنّ الأدوية المستخرجة من الصّناعة الكيمياويّة والّتي تمتلئ بها الصّيدليّات ويمكن الحصول عليها بسهولة، فإنّ لها مخاطر ومضار عديدة، فحينها تتعاون الأدوية والمرض يداً بيد للقضاء علينا، ومن الطّريف فإنّ ميزان أيّ تشعشع يضع أثره على الجيل والنطفة مهما كان مقداره.
وبعبارة أكثر وضوحاً: يجب أن يعلم كلّ شخص قام بأخذ تصوير إشعاعي ولو لمرّة واحدة، إنّه عرض نسله إلى أثارها.
ويقال: إنّ الإشعاعات التّلفزيونيّة وأجهزة التّصوير الإشعاعي وغيرها داخلة ضمن دائرة هذه الإشعاعات، لكنّها لا تظهر تأثيرها على المدى القريب بل يمكن أن تظهر تأثيراتها المدمّرة والمخرّبة على مدى سنوات طويلة قد تصل إلى قرون.
يقول الدّكتور «رابرت ويلسون» وهو أحد الأعضاء في لجنة الطّاقة النّوويّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة: تنشر الأمواج التّلفزيونيّة إشعاعات أكثر من الإشعاعات النّاتجة عن التّجارب النّوويّة، ويمكن أن يعود السّبب في ذلك إلى أنّ الموادّ الزّائدة والنّاتجة عن تشغيل المفاعلات النّوويّة لا يمكن بأيّ طريق - حتّى مع دفنها في أعماق المحيطات - إتلافها والقضاء عليها»(٢٠٥).
في هذا البحث نقسم الاختراعات الحاليّة إلى ثلاثة أقسام، وذلك لأجل اتّضاح إجابتنا:
١ - الاختراعات الّتي لها آثار سلبيّة ومدمّرة.
٢ - الاختراعات الّتي ليس لها آثار مشؤومة، ولكن زمان استعمالها قد انتهى.
٣ - الاختراعات الّتي ليس لها آثار سلبيّة، وتقع في إطار الاستفادة العامّة للمجتمع.
المجموعة الأولى:
من الطّبيعي فإنّ كلّ وسيلة تستخدم في طريق الفساد والظّلم وقتل الإنسان وروحه ستمحى من الوجود، وليست وحدها الأسلحة الحربيّة الّتي سوف تدمّر في النّظام العادل والحكومة الرّاعية للعدالة للإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه).
وبناءً على ما تقدّم فإنّنا نخرج بنتيجة وهي: إزالة وتدمير كلّ الوسائل والآلات المدمّرة والمهلكة، وذلك في ظلّ الحكومة الإلهيّة العادلة للإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، وهذا لا يشمل الأسلحة الحربية المدمّرة؛ بل إزالة كلّ ما من شأنه تعكير صفوة الإنسانيّة من وسائل لها آثار سلبيّة، ويوصل الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) البشريّة جمعاء إلى ساحل الأمان والنّجاة.
إذن؛ ومن هذا المنطق ستكون السّاحة في زمان حكومة الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء خالية من مجموعة الاختراعات الّتي لها آثار سلبيّة ومدمّرة.
المجموعة الثّانية من الاختراعات:
المجموعة الثّانية هي الاختراعات الحاليّة الّتي يعدّ قسماً منها غير حاوي على آثار مشؤومة، ولكن تاريخ استعمالها والاستفادة منها قد انتهى في عصر الظّهور، ومن أمثلها الوسائل والآلات الطبّيّة، أو بعض الأسلحة الحربية الّتي تمّ الاستفادة منها في قضيّة الجهاد العادل.
لا شكّ فإنّ هكذا وسائل ستدمّر أيضا، باعتبار لا حاجة لوجودها في المجتمع. فمن المعلوم عندما تعيش الإنسانيّة بأسرها في صلح ووئام وسلامة، وتتمتّع بكامل صحّتها الرّوحيّة والبدنيّة، فلا حاجة أصلاً إلى الأسلحة الحربيّة المدمّرة أو الوسائل الطبّيّة الّتي لا يمكن الاستفادة منها.
إذن؛ توضع الوسائل الطبّيّة وتركن جانباً، حينما لا يبقى أيّ نوع من أنواع المرض.
عدم الحاجة إلى الأسلحة العسكريّة
كانت ولاتزال هناك عوامل وأسباب تؤدّي إلى إشعال فتيل الحروب والمعارك، ولأجلهما تتجاوز إحدى الدّول على الأخرى، ويقتل بعضها الآخر، ونحن هنا نتطرّق إلى عاملين أساسيّين مسبّبين أكثر من غيرهما في حصول كلّ هذا الدّمار وإراقة الدّماء وهما:
١ - الضّعف والحاجة. ٢ - الزّيادة في طلب التّوسعة والنّفوذ.
ويمكن الاستنباط من خلال قرأت صفحات التاريخ واستنطاقه، أنّ هذين العاملين لعباً دوراً أساسيّاً في تشوب الكثير من الحروب المهمّة الّتي حدّثت في العالم، باعتبار أنّ قلّة المنتوجات الغذائيّة والزّراعيّة والمياه والحيوانات والمعادن العظيمة كالنّفط والذّهب و... هي محرّك وحافز قوي وكبير لتحريض الحكومات الفاسدة لغزو جيرانها، الّتي أنعم الله عليها بتلك النّعم، وبالتّالي الاستيلاء على أراضيهم وخيراتهم.
ولا شكّ في أنّ المسبّب والعامل الأصلي لإراقة دماء الكثير من الأبرياء هي حالة الضّعف والنّقص الموجود في تلك الحكومات الظّالمة.
والعامل الآخر المهمّ الّذي حدّثنا التّاريخ عنه، هو طلب الزّيادة في التّوسعة والنّفوذ للدّول المهاجمة؛ حيث أنّ هناك دول تشعل فتيل الحرب وتسبّب في أحداث الكثير من الدّمار والقتل لا للضّعف أو حاجة لبعض الموارد، وإنّما غرضها هو الطّمع من أجل زيادة رقعه حكومتها وإيجاد موطئ قدم لها في تلك البلدان.
إنّنا إذا ألقينا نظرة تاريخيّة على الحروب الطّويلة الّتي جرت نتوصّل إلى حقيقة هي: إنّ عامل التّوسعة والسّلطة كان السّبب من ورائها، ولا شكّ في أنّ هناك عوامل أخرى ودلائل كانت سبباً كافياً لإشعال الحروب في هذه المنطقة أو تلك، والّتي راح ضحيتها الكثير من النّاس، وصبغت الأرض بالدّم القاني والغالي للإنسان.
على أيّ حال، إنّنا إذا أمعنّا النّظر في هذين العاملين فإنّنا نجدهما «عاملين خارجيين» للحكّام والقادة، ولكن هناك الكثير من الحروب تقوم على أساس «العامل الدّاخلي» للحكّام والقادة أنفسهم، وتعدّ «العقد النّفسيّة» من العوامل الدّاخليّة الّتي يعاني منها الكثير من الحكّام والملوك فولدت في داخلهم حوافز تدفعهم لدخول في حروب لا طائل منها تودّي إلى في سفك دماء الأبرياء.
ومن الطّبيعي أنّ تكامل العقول ستخلّص الإنسان من كلّ هذه العقد وتُقلع كلّ العوامل الدّاخليّة كانت أم الخارجيّة، الّتي تسبّب في إشعال فتيل الحروب، ويعمّ الصّلح والوئام جميع أنحاء العالم، ففي هذه الحالة فهل يبقى مبرّر والحاجة لصنع القنابل النّوويّة وغير النّوويّة؟!
إنّ هذا الّذي بيّنّاه يوضّح الإجابة على القسم الثّاني من الاختراعات الحاليّة.
ومن المؤكّد فإنّه إذا إنتفت أرضيّة استعمال شيء ما، فإنّ مصيره آيل إلى الزّوال والفناء، وسيكون في خبر كان.
المجموعة الثالثة من الاختراعات
وهي تلك الاختراعات الّتي كانت مورداً للاستفادة والحاجة في عصر الغيبة، حيث أنّها وسائل وآلات خاليّة، ولا يشوبها أيّة آثار سلبيّة، فماذا سيؤول مصيرها؟
في مقام الإجابة عن مصير هذه الاختراعات - والّتي عادةً ما تكون كثيرة - نقول: إنّه نظراً إلى التّطوّر الّذي يطرأ على العلم والمعرفة والتّكامل العقلي والزّيادة في القدرات الدّماغية وتوظيف جميع القوى الفكريّة، فمن الواضح ستظهر إلى الوجود وسائل وآلات متطوّرة جدّاً، فتأخذ محلّ الوسائل القديمة والكلاسيكيّة، وتخرجها من معادلة الحياة.
ولأجل توضيح هذا الموضوع، فإنّنا نجري مقارنة بين الوسائل الموجودة في زماننا هذا والوسائل الّتي كانت موجودة قبل قرن من الزّمن. فعلى سبيل المثال هل يمكن مقارنة الدّلو والحبل مع مضخّة المياه القويّة؟! وهل إنّ هذه الأجهزة الحديثة والّتي صنعت من أجل سحب المياه من قعر الآبار والأنهار، أبقت مكاناً لاستعمال الدّلو والحبل؟!
بالطبع؛ إنّه هناك الكثير من النّاس المحرومة والمستضعفة ظلّت على حالها تستعين بتلك الوسائل الابتدائيّة، وهي منتشرة في أماكن كثيرة من العالم، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى الضّعف النّاجم عن سياسات الحكومات والدّول الّتي قدمت نفسها على أنّها من الدّول المتحضّرة، فحصرت القطاع الصّناعي في دائرة ضيّقة ولم توسعه ليشمل جميع البلدان العالم، ولكنّ الوضع لا يبقى كما هو الآن في عصر الظّهور المشرق.
تقدم لاحقاً إلى ذكر بعض الخصائص الّتي تتحلّى بها حكومة الإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه)، ومن تلك الخصائص هي عالميّة تلك الحكومة، وعالميّتها لا تعني بالضّرورة أنّها الحكومة الواحدة الحاكمة على العالم فقط؛ وإنّما تكون بمعنى استفادة جميع الإنسانيّة من كلّ إمكانيّات وموارد ذلك العصر المزدهر.
الإعلام الواسع والأجوف للغرب
لقد وظّف الغرب كلّ إمكاناته وطاقاته، وسعى جاهداً لتوسيع دائرة إعلامه في مختلف المجالات العلميّة، وقد شكل مجال علم النّفس واحداً منها. وذلك من أجل التفاخر وخداع البشريّة.
ومن المعلوم أنّ المسائل والقضايا الّتي تخصّ علم النّفس قد طرحت على شكل واسع في البلدان الكبرى، وحسب اعتقادهم فإنّهم يرون أنفسهم قد قطعوا خطوات متقدّمة في هذا المضمار، وحصلوا على حقائق جديدة تتعدّى مراحل علم النّفس السّابقة، ووصلوا إلى مراتب هي أرقى بكثير منه!
فكيف حصل لهم كلّ ذلك مع أنّهم لم يكتشفوا إلى هذا الزّمان بعض من الأسرار والتّفاعلات الجارية في أجسادهم والحركات الإراديّة وغير الإراديّة الموجودة فيه، ويعتقدون أنّ جسم الإنسان هو عالم مجهول، فمن أين لهم معرفة روحه! والقفز قفزات نوعيّة فيبحثون عمّا هو وراء علم النّفس!
نعم؛ فإنّ العالَم الّذي انقطع وأعرض عن مقام الولاية ونظام الوجود، فإنّهم يتصوّرون، وبسبب النسيج الفكري الّذي يتمتّعون به، أنّهم توصلوا إلى الطّريق الصّحيح!
لا شكّ في أنّ المستكبرين ومنذ زمن بعيد عملوا ومن خلال توظيف الإعلام الواسع إلى خداع شعوبهم. فألهوهم وأفرغوهم من أفكارهم وقيمهم الإنسانيّة وساقوهم إلى الضّياع والّتيه، وذلك بواسطة أساليبهم الملتويّة والماكرة، ولم يتركوا للنّاس مجالاً أو مشروعاً للنّجاة والعمل على طلب المصلح الّذي يستطيع من إنقاذهم وإصلاح وضعهم، والعودة بهم على أساس فطرتهم السّليمة.
فقام هؤلاء بطرح قضيّة العلم والمعرفة وما توصّلوا إليه من نتائج في هذا الخصوص، وهم على دراية بالإخفقات والأخطاء الّتي ارتكبوها في هذا المجال، لكنّهم ونتيجة الإعلام المكثف والمظلل استطاعوا غسل أدمغة العالم، وإقناعه بالحقائق المزيفة.
وهناك نماذج عديدة بهذا الخصوص موجودة على طول التّاريخ - منذ الأزمنة الغابرة وإلى زماننا الحاضر - فقد ارتكب الكثير من العلماء المعروفين والمشهورين في عصر الغيبة أخطاء علميّة فادحة وجسيمة. خذ ذلك من زمن «أرسطو» وما قبله وإلى عصرنا هذا، وكيف أنّهم سجّلوا تلك الأخطاء الّتي لا يمكن التّغاضي عنها وغفرانها لصالحهم وفي خانة إنجازاتهم العلميّة المهمّة.
من هم الشّخصيّات الّتي يمكن لنا إتّباعهم؟
هل يستطيع إنسان ما أتباع شخصيّة وعالم قام بخداع الإنسانيّة وخيانتها ووظف علمه ومجهوده لصالح الحكّام الظّلمة؟!
وهل يا ترى من الصحيح أن تنطلي علينا الأساليب المتّبعة من قبل الإعلام الغربي الواسع، وتجذبنا الحياة المادّيّة المتطوّرة؟
لقد عبّر المستكبرون والظّالمون ورفعوا راية المخالفة مع جمع الأنبياء المبعوثين من قبل الله عزّ وجلّ، وقاموا بشتّى الوسائل لمنع الشّعوب من الانضمام والقبول بدعوتهم السّماويّة.
وهذه العمليّة شقت طريقها وظلّت مستمرّة حتّى وصلت إلى عهد الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعصر الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)؛ حيث ظهرت مجموعة من العتاد والمردة، فأظهروا المخالفة والمعارضة الصّريحة لهم (عليهم السلام)، واستطاعوا بذلك من تفريق الاُمّة وإبعادها كلّ البُعد عن القادة والمصلحين الحقيقين، وأعطوا المبررات والحجج لبقاء الجاهليّة وديموميّة عصرها وذلك بالنّهي عن تدوين حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بعد رحيله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإغلاق باب علمه (عليه السلام).
وقام هؤلاء أيضاً بتوجيه حركة الأمّة نحو قيادة غابت عنها أبسط الدّقائق المعرفيّة، ومنعوا النّاس من الأخذ بدقائق العلم المعرفة من خلفاء الله المنصوص عليهم وهم أهل البيت (عليهم السلام)، ووضعوا هؤلاء الأشرار الحواجز والموانع للحيلولة بين إيجاد الارتباط بين أصحاب المعرفة والعلم الحقيقي وبين النّاس، وبسبب إبتعاد الإنسانيّة عن أهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام)، فقد اقتصرت الجهود المضنية الّتي قام بها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) على تعليم نخب من أصحابهم الخلّص ممّا تيسّر من العلم وخفايا المعرفة.
فهل يتّخذ الإنسان قائداً له الإحاطة الكاملة بجميع أسرار الوجود، ويتّسع علمه ومعرفته جميع الموجودات، أم يجعل الشّخص الّذي اعترف مرّات عديدة بعجزه وضعفه، وأذعن أنّ ما كلّ ما يحمله من علم ومعرفة لا شيء بالنّسبة إلى المجهولات قدوة وأسوة له؟
فعلى سبيل المثال: «إسحاق نيوتن» الّذي يعتبر من أكبر العلماء المعروفين على الصّعيد العالمي، فيقول هو عن نفسه: «لا أعلم ما هي منزلتي لدى البشريّة؟ ولكن في نظري فإنّني أبقى ذلك الطّفل الصّغير الّذي يلعب على ساحل البحر، ومشغولاً بالبحث عن الصّدف المنقوش عن غيره، وأمّا في هذا الحال فقد ظلّ عندي محيط ودائرة الحقيقة مجهولاً في العالم كلّه، ومخيم في كلّ مكان»(٢٠٦).
وهذا الاعتراف الصّريح له واقعيّة، ولا يصدق على «نيوتن» وحده؛ بل هو حقيقة تصدق على كلّ الأشخاص الّذين هم من أمثاله.
ومهما يكن من أمر فإنّ هناك الكثير من الأفراد الّذين قد توصّلوا إلى حقائق معيّنة واكتشفوا أشياء كان الإنسان غافلاً عنها، ولكن سؤالنا هو: هل يعني هذا أن يتبع الإنسان مثلاً طفلاً مشغولاً باللّعب واللّهو ولكنّها يتمتّع بذهنيّة وقادة، أم يسعى جاهداً إتباع أشخاص لهم المعرفة الكافية على أسرار الخلقة وخفايا عالم الخلق؟

 

ومن المؤكّد فإنّ الانحراف عن الجادّة القويمة يسبّب عمليّة الانحراف والّتيه، وتكون النتيجة حصول الأخطاء والفساد.
الأخطاء الّتي وقع بها أرسطو، كبرنيك وبطلميوس
والآن ننقل إليكم نماذج من الأخطاء الفادحة الّتي وقعت في مجال العلم:
إعتقد «أرسطو» أنّ الشّمس تدور حول الأرض في دائرة كاملة. واعتقد «كبرنيك» أنّ الأرض تدور حول الشّمس في دائرة كاملة.
وكان بين الاثنين منافسة حقيقية، ولا يمكن إعطاء الحقّ إلى أحدهما والقول أيّهما على حقّ، ولكن بعد فترة إتّضح أنّ الاثنين إرتكبا خطأً فادحاً، حيث أنّ مدار الأرض هو بيضوي(٢٠٧).
يجب علينا أن نعلم أنّ «أرسطو» هو حكيم أرسطوطي، عاش قبل مجيء «بطلميوس» بخمسة قرون، فتأخّر ظهور علم النّجوم مدّة ألف وثمان مائة سنة، أي من القرن الثّالث قبل الميلاد وحتّى القرن الخامس عشر بعد الميلاد.
فوضع «أرسطو» نوع البشر يتخبّط في الظّلمات لمدّة ثمانية عشر قرن، ولم يسمح للإنسان النّجاة والوصول إلى بصيص من النّور والأمل، ويمكن القول بشجاعة أنّ أرسطو آخر التّقدّم العلمي ثمانية عشر قرن(٢٠٨).
نحن نعلم أنّ العلوم مثلها مثل السّلسلة؛ حيث تتّصل كلّ حلقة بحلقة أخرى، لذا فإنّ ظهور كلّ علم يكون مصدراً لظهور علم آخر وهكذا.
إذن؛ فإنّ السّبب الكامن وراء جهل الإنسانيّة بموضوع حركة الأرض وبقيّة الكواكب الأخرى هو «أرسطو» نفسه، حيث أنّه شدّ وثاق البشريّة على مدى ثمانية عشر قرن، وبالتّالي لم يجدوا لهم مخرجاً للدّخول والولوج إلى مجال العلم، والعجيب هو أنّه كان له تأثيراً ونفوذاً كبيراً وقويّاً بحيث لم يجرؤ أيّ شخص إلى إبطال نظريّته القائمة على سكون الأرض وعدم حركتها.
وممّن زاد وقوّى نظريّة «أرسطو» في أذهان النّاس شيئان، هما: الإمضاء على صحّتها من قبل «بطلميوس»، هذا العالم المصري الكبير الّذي جاء من بعده بخمسة قرون فأمضى على صحّة نظريّة «أرسطو»، حيث جاء هذا العالم بنظريّة مفادها: أنّ الكواكب تدور حول الأشياء المتحرّكة، وهذه الأشياء هي الّتي تدور حول الأرض، وأمّا هي فإنّها ثابتة وساكنة. وكما نرى أنّ «بطلميوس» قسّم حركة الكواكب حول الأرض إلى نوعين، وقال: «تتحرّك الكواكب كلّ بحسبها على الأرض، والأرض ثابتة».
وأمّا العامل والشيء الثّاني الّذي زاد من قوّة نظريّة «أرسطو»، هي إمضاء وتأييد الكنيسة المسيحيّة في أوروبا لها فقالت: بدون شكّ فإنّ ما قاله «أرسطو» حول ثبات الأرض ومركز العالم هي الحقيقة بعينها؛ لأنّها إذا لم تكن كذلك فلن يظهر ويولد بها ابن الله (يعني المسيح بن مريم)(٢٠٩).
الخطأ الّذي إرتكبه بوزيدونيوس
قاد الفيلسوف الفلكي «بوزيدونيوس» وفداً إلى إسبانيا الغربيّة قبل مائة عام من ولادة المسيح ليرى: هل ينتج عن سقوط الشّمس في المحيط الأطلسي في كلّ غروب صوت أم لا(٢١٠)؟
خطأ أرخميدس
يقول «أرخميدس»: أنّ عدد الذّرّات الموجودة في الكون هو ١٠ مضروبة في ٦٣، وهذا معناه أنّنا إذا أردنا الحصول على العدد الكلّي لها والموجود في هذا الكون، فذلك يتمّ إذا قمنا بضرب الرّقم ١٠ في نفسه بمقدار ٦٣ مرّة.
وحسب رأي «أرخميدس» فإنّ الذّرّة هي عبارة عن أصغر جزء في المادّة ولا يمكن تقسيمه إلى جزئين، ولهذا السّبب فإنّه يعزوه إلى أنّه الجزء الّذي لا يتجزّأ(٢١١).
خطأ ادينكتون
«ادينكتون» هو عالم فيزياوي إنجليزي توفّي سنة ١٩٤٤ ميلاديّة، ففي بداية هذا القرن قال عندما كان شابّاً: إنّ مجموع الذّرّات في الوجود هو ١٠ مضروبة في ٨٠، وهذا معناه: إنّنا يمكن أن نحصل على عددها الكلّي من خلال ضرب الرّقم ١٠ في نفسه ٨٠ مرّة.
ويوم أخرج «ادينكتون» عدد الذّرّات حسب هذه المعادلة الرّياضيّة، إعتقد المنجّمون أنّ عدد الكواكب التّقريبي هو مليون كوكب(٢١٢).
خطأ آينشتاين
كان يعتقد «آينشتاين» بأنّه لا يمكن لأيّ شيء أن يضاهي الضّوء في سرعته، وأن أقصى سرعة موجودة في هذا الكون هي سرعة الضّوء. والآن قد ثبت علميّاً أنّ هناك أشياء بإسم «تاخنون» سرعة انتقالها تفوق سرعة الضّوء.
فلو كانت نظريّته هذه صحيحة، لكانت البشريّة انتكست وأصابها نوع من الإحباط في الكثير من الرّحلات الفضائيّة في المستقبل.
بالإضافة إلى هذا، فإنّ هناك روايات وأحاديث واردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، تؤكّد أنّ الملائكة من أمثال جبرئيل و... يستطيعون الانتقال من العرش وما فوق الكواكب والنّزول إلى الأرض في طرفة عين.
إنّ «آينشتاين» وأمثاله ليس لديهم المعرفة والاطّلاع الكامل عن هذه الحقائق النّاصعة، نظراً لابتعادهم عن علوم أهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام).
لقد قام العالم «زومرفلد» بطرح نظريّته القائمة على أساس، أنّ هناك ذرّات تفوق سرعتها سرعة الضّوء، وتحوي على خصوصيّة خاصّة، وهي أنّها كلّما كانت طاقتها قليلة كلّما كانت سرعتها أكثر.
وعلى هذا فإنّ نظريّة «آينشتاين» تقاطع وتناقض النّظريّة الجزئيّة ل«زومرفلد»؛ لأنّه وفقاً للنّظريّة الّتي جاء بها «آينشتاين» فإنّ جميع الذّرّات يصبح لها جرم لا نهاية له، وذلك عندما تصل إلى سرعة الضّوء.
إنّنا نرى أنّ هذه النّظريّات المحدودة وغير الثّابتة نزلت وطرحت على المستوى العالمي بقوّة، وبقيت مورد اهتمام وعناية الكثيرين واستطاعت أن تحافظ على جاذبيّتها لمدّة طويلة.
ومنذ أنّ طرح «زومرفلد» نظريّته في بداية القرن الحالي، بدأت الأجيال التّالية من علماء الفيزياء بالدّراسة والتّحقيق حول هذه الذرّات الّتي هي أسرع من سرعة الضّوء، وفي النّهاية استطاع البرفسور «جرالد – فينبرك» G.Fcinberg وهو أستاذ في الفيزياء النّظريّة في جامعة كلمبيا الأمريكيّة في سنة ١٩٧٦ م، من تشجيع العلماء وحثّهم أكثر على التّحقيق، وذلك عندما فتح الباب على مصراعيه من جديد بعد أن كتب رسالة يدور موضوعها حول الذّرّات الّتي تكون حركتها أسرع من حركة الضّوء، وبعد أن اكتشفها وضع لها إسماً هو «تاخنون» Tachionen، وهي كلمة يونانيّة مشتقّة من كلمة «تاخيس» Tachys الّتي تعني «السّريع».
بعد هذا الاكتشاف علا صوت علماء الفيزياء المؤيّدين لنظريّة «آينشتاين»، ولكن هذا الأمر لم يثن قسم من علماء الذّرّة على متابعة النّظريّة الجديدة والمثيرة، فوجدوا بالفعل أنّ هناك ذرّات في الوجود هي أسرع من حركة الضّوء. وعلى ضوء هذا، لم يهدأ لأنصار «آينشتاين» بال، فبدأوا يرفعون راية الاعتراض ويوردون الإشكالات والإيرادات عليها.
الخطأ الآخر لآينشتاين
يقول «آينشتاين»: إنّ للعالم سعة ومساحة قطرها لا يتجاوز ٣ ميليارات سنة ضوئيّة في حين أنّه ثبت عكس ذلك ففي سنة ١٩٦٣ م، وحينما تمّ اكتشاف أوّل الكويزارز جعل علماء الفلك في حيرة من أمرهم، وتزلزلت عقولهم، حتّى وصل الأمر بأحدهم. ويدعى «آرس بوئه» أن وضع يده على رأسه حتّى لا يصيبه الجنون، بعد ما كان جالساً وراء التّلسكوب لدراسة أحد الكويزارز البعيدة.
إنّ التّجارب العلميّة أثبتت إنّ مسافات الكلويزارز البعيدة عن الأرض هو سبعة مليارات سنة ضوئيّة، في الوقت الّذي ادّعى فيه «آينشتاين» غير ذلك، وقال: إنّ سعة العالم أو قطره لا يتجاوز ثلاثة مليارات سنة ضوئيّة.
ولأجل قياس وسعة الفضاء يستغرق الضّوء مدّة قدرها تسعة ألف مليون سنة ليقطعه، ويكفي أن نفكّر أنّ الضّوء يقطع في كلّ سنة ٩٥٠٠ مليارد كيلومتراً، لذا يجب ضرب ٩٥٠٠ في ٩ مليارد سنة كي يمكن حساب ما هي المسافة الموجودة بين الكويزارز والأرض.
وعندما نقوم بحساب هذه الفاصلة العظيمة الّتي لا يستطيع العقل من تصوّرها يأتي الأمر محيّراً بالفعل للعقول علماء الفلك، وهو أنّ ضوء الكويزارز هو ضعف ضوء الشّمس بعشرة آلاف مليارد مرّة، ولم يدركوا ويفهموا ما هي الطّاقة الموجودة فيها، لكي تتمكّن من توليد هذا الضّوء كلّه»(٢١٣).
ونظراً إلى هذا الموضوع يتّضح أنّ العقيدة الّتي بناها «آينشتاين» حول قطر العالم لم تصب كبد الحقيقة.
ومن المناسب وبعد الحديث عن «آينشتاين» لا بأس التّطرّق قليلاً إلى شخصيّته، فقد كان يهوديّاً ألمانيّاً، والخيانة الّتي ارتكبها بحقّ شعبه لا سابقة لها، فهو الّذي اقترح على الولايات المتّحدة الأمريكيّة صناعة القنبلة النّوويّة قبل أن يقترحها على بلده!
«وفي سنة ١٩٣٢ م عندما وصل «هيتلر» إلى دفّة الحكم، كان «آينشتاين» يعيش في أمريكا، وأعلن من هناك أنّه لن يعود إلى ألمانيا، ولهذا السّبب فقد قام الجنود النّازيّين بهدم بيته وغلق حسابه المصرفي.
وكتبت إحدى الصّحف الصّادرة في مدينة «برلين» مقالة تحت عنوان كبير: «إنّ الخبر الجديد الّذي يخصّ «آينشتاين» أنّه لن يعود»، وحافظ «آينشتاين» على هدوئه بعد التّهديدات الّتي تلقّاها من النّازيّين، ولكنّه اقترح على الولايات المتّحدة الأمريكيّة الإقدام سريعاً على صناعة القنبلة النّوويّة، مخافة أن يقوم العلماء الألمان بصناعتها.
مع أنّه كان يحظّر النّاس باستمرار من مخاطرها قبل وقوع الانفجار الأوّل لها، وقام بتقديم اقتراح إلى المحافل الدّوليّة للسّيطرة على هذه الأسلحة النّوويّة»(٢١٤).
ولا شكّ فإنّه نادماً على حياته، وقد يعود الأمر في ذلك للخيانة العظمى الّتي ارتكبها اتّجاه شعبه: «لقد قال أحد أصدقاءه المقرّبين - «ابنهايمر» - في مؤتمر إقامته منظمة اليونسكو بمناسبة مرور عشرة سنوات من وفاته: لقد كان «آينشتاين» في أواخر عمره يعيش حالة من اليأس والقنوط بعد أن شاهد التّنافس التّسليحي والحروب الجارية في العالم، وقال في وقتها: لو وهبت الحياة لي من جديد، فإنّي أرجّح أن أكون عامل كهرباء بسيط»(٢١٥).
وفي نقل آخر أكون إسكافيّاً: «إنّ هناك الكثير من الأشخاص - في هذه الزّاوية من العالم أو تلك – لا يستطيعون نسيان ما حلّ من قتل جماعي في «هيروشيما» ونسيان من كان وراءها، وهو التّوقيع الّذي أمضاه النّابعة الفيزياوي على أحد معادلاته الفيزيائيّة السّاحرة، فهؤلاء النّاس لا يكترثون لسماع خبر حبسه نفسه لمدّة ثمانية أيّام حزيناً لا يفكّر سوى في شيء واحد وهو: «إذا عاد مرّة أخرى إلى الدّنيا لا يطرح نظريّة ولا يضع معادلة، وإنّما يذهب ويصبح إسكافيّاً»(٢١٦).
وإليكم حادثة أخرى لآينشتاين: «كتب أستاذان من جامعة كلمبيا رسالة إلى «روزولت» خلاصتها هي: «هناك شيء إسمه الطّاقة النوويّة، وأنّ العلماء الألمان يعملون الآن عليه، ومن الواضح فإنّه سلاح إستراتيجي ومصيري، وعلى رئيس الجمهوريّة أن يقرّر ما هو العمل المناسب الّذي يمكن اتّخاذه قبال ذلك. الثّاني من أوت سنة ١٩٣٩ ميلادي.
إنّ هذا الأستاذين على علم أنّ رئيس الجمهوريّة لا يعلم شيئاً عن الفيزياء النّوويّة، ولكن هناك وبالقرب شخص يعيش في «برينستن» له العلم الكافي حول هذا الموضوع، وهو من الّذين يعتمد عليهم هذا الرئيس.
إذن؛ يجب طرق باب «آينشتاين» قبل طرق باب الرئيس «روزولت»، وكان من الصّعب والمحزن على شخص مثل «آينشتاين» التوقيع على هكذا أمر بعد أن قضى عمره لنصرة قضايا الصّلح والدّفاع عنها، ولكنّه فعل ذلك، وسيبقى يلوم نفسه ويوبخها مادام حيّاً، بعد أن ضغط ذلك الزّر»(٢١٧).
وتوضح اعترافات «آينشتاين» وندمه على سوابقه أنّه ومع شهرته العالميّة، ولكنّه كان يعتقد إنّ خدمته الجليلة في طريق العلم والمعرفة تختفي وراء شعاع خيانته لشعبه.
العلم والمعرفة غطاء يتستّر به المنتفعين
بدون شكّ فإنّ العلم والمعرفة هو سراج يجب أن يسطع بنوره على الإنسانيّة، وينير الدّروب لها، وليس - كما يبدو - ستاراً يتّخذه الظّلمة للخيانة والإرتزاق منه.
ولكن نقول وللأسف الشّديد والتّاريخ شاهد على هذا: إنّ العلم والمعرفة في جميع فروعهما أضحى وسيلة سوء لاستفادة الكثير من الأشخاص، فوظفوه لصالح أهدافهم المشؤومة ومصالحهم الضيّقة.
وقد استفاد مجموعة من العلماء وأشباه العلماء - عن قصد أو من غير قصد - من مسألة العلم والمعرفة لينشروا ظلام الجهل بدلاً من نور العلم.
ومن الطّبيعي فإنّ هذا العمل هو عامل مهمّ في إيجاد خيبة الأمل وشعور المجتمع وعدم استحسانه للعلم والمعرفة، ممّا جعل النّاس يعتقدون أنّ العلماء غير قادرين على إعمال حكومة مثاليّة تحكم العالم، وتكون قادرة على تبديله إلى المدينة الفاضلة.
محدوديّة العلم
إنّ العامل الآخر الّذي ولد اليأس لدى النّاس بخصوص العلم والمعرفة، هو محدوديّته وخاصّة حول قضيّة الرّوح، والعلم المحدود حولها. وهذا ما صرّح به القرآن فيقول: (وَما اُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَليلاً)(٢١٨).
فيا ترى هل يتمكّن الإنسان من كشف الأسرار العظيمة، وأن يدرك الحقائق الكبيرة مادام لم يستعمل عقله بالشّكل الكامل والمطلوب، والاستفادة منه حتّى وإن كان عالماً وشخصيّة نابغة؟
وجاءت هذه الحقيقة الّتي تؤكّد محدوديّة العلم في الكثير من الرّوايات الواردة عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، ولكنّ الغرب توصل إليها مؤخّراً.
ولا شكّ فإنّ العلم يبقى على محدوديّته وقدرته هذه مع بقاء زمن الغيبة واستمرارها، وعدم وصول الإنسان إلى تكامله العقلي.
وعلى ضوء هذا البيان، فهل يا ترى بمقدور العلم والمعرفة وهما بهذا المستوى من الإجابة على المشكلات والقضايا المجهولة؟ وكيف يمكن له تحويل العالم المظلم إلى المدينة الفاضلة؟
ونظراً لعدم قدرة العلم على الإجابة على الكثير من الأسئلة المطروحة من قبل المجتمع، وبقاء الكثير من المشاكل على حالها من دون حلّها، فقد توصّل النّاس إلى نتيجة وهي: أنّ العلم والمعرفة غير قادرين بالمرّة على رفع المعضلات والأزمات الّتي تمرّ على المجتمع وتقديم الحلول المناسبة لها.
وهذه الحقيقة المرّة اعترف بها الكثير من العلماء، ونحن ننقل هنا بعض من أقوالهم:
١ - إنّ العلم له حدود مشخّصة وإمكانيّات معلومة لا يمكن له تجاوزها، وهو عاجز على إعطائنا المزيد سوى الظّواهر الّتي يمكن بحثها ودراستها. ففي الواقع فإنّ العلم قادر على الاخبار عن عمليّة دوران الأرض حول الشّمس وكيف يولد الإنسان ويموت، ولكنّه لا يتمكّن من الإجابة عن ما وراء ذلك، وهذا يعني أنّه لا يبيّن غير الموضوع الّذي وقع مورداً لتجربته، ولا يتمكّن من الوصول إلى أبعد من ذلك...(٢١٩).
العلم، بعيداً عن فهم العالم
٢ - إنّ مقاييس، الثّانية، والسّانتيمتر، غرام تستعمل في استخراج القوانين الّتي تحكم المادّة لا يمكن استخدامها لأجل فهم ودرك حقيقة الجاذبيّة، النّفس، الرّوح، العقل، وغيرها من الحقائق والأمور غير المادّيّة.
لذا فقد بقيت حقيقة الجاذبيّة خافية عند علماء الفيزياء، وكذا حقيقة الكهربائيّة أو المغناطيسيّة أو الطّاقة؛ سواء أكانت طاقة حراريّة أم طاقة كهربائيّة أم طاقة حركيّة أم طاقة ذرّيّة.
وصّرح واعترف علماء الفيزياء عن عجزهم في فهم كلّ أمر متعلّق بظاهرة غير عادّيّة، حتّى فهم حقيقة نفس مكونات المادّة؛ لأنّ المادّة في النّهاية ترجع إلى الذّرّة، والذّرّة هي مجموعة من القوى الكهربائيّة الموجبة (يعني البروتون)، والقوى السالبة (يعني الكترون)، وقوى أخرى يبقى العلم يرفع راية الاستسلام أمامها إلى الأبد، ويظلّ غير قادر على معرفة آثارها(٢٢٠).
٣ - لم يستطع علم الفيزياء إلى اليوم الإجابة على هذا السّؤال وهو: كيف يمكن تبديل نور المصباح الّذي هو من الطاقة إلى المادّة؟ فإذا استطاع الإجابة وقدّم الجواب المقنع والكافي له، فإنّ العلم سيقفز قفزة كبيرة ونوعيّة، ويتوصّل إلى علوم ألف سنة في لحظة واحدة، باعتبار أنّ سرّ علم الفيزياء وسرّ عظمة الخلقة يكمن وراء معرفة كيفيّة تحويل الطّاقة إلى مادّة.
لا شكّ في أنّ عمليّة تبديل المادّة إلى طاقة هو أمر عادي، وعادتاً ما تتبدّل في اللّيل والنّهار في المصانع والطّائرات والسّفن والسّيارات والبيوت وحتّى في أجسامنا، ولكن لم نتمكّن إلى يومنا هذا من تبديل الطّاقة إلى مادّة، ولا نعلم كيفيّة تبديلها في عالمنا اليوم(٢٢١).
٤ - إنّنا وبعد مرور ستة وعشرين قرناً من الزّمن ومع وجود كلّ هذا التّطوّر الحاصل في علم الفيزياء وعلم «أستروفيزياء» يعني علم معرفة فيزياء النّجوم، لم نتقدّم ولو خطوة واحدة في معرفة مبدأ العالم من النّاحية الفيزيائيّة (اللّحاظ الجسدي)، ولم نتجاوز حدود النّظريّة الّتي طرحها أحد فلاسفة القرن السّادس قبل الميلاد، والّذي جاء بها من اليونان.
من المعلوم في أنّ الذّرّة الهيدروجينيّة هي أصغر عناصر الذّرّة الموجودة في الطّبيعة، ولها الكترون وبروتون، فيدور الإلكترون ويتحرّك حول أطراف البروتون، ولم تتمكّن أيّة نظريّة إلى الآن من توضيح القانون العلمي لتبديل الشّيء الأولى والّذي غير قابل للوصف إلى الإلكترون والبروتون.
وهذا معناه عدم وصول أيّ عالم من العلماء إلى قانونها العلمي، فظلّت البشريّة متحيّرة من الّذي يتكوّن: البروتون أوّلاً أم الإلكترون أو الاثنان، أم الأوّل الّذي يحمل طاقة موجبة والثّاني الّذي يحمل طاقة سالبة يتكونان في وقت وآن واحد؟ أو أنّ الّذي يحدث هو المزاوجة والحدوث من شيء واحد غير قابل للوصف الأولي؟
وأمّا ما قيل في خصوص هذا الموضوع ومنذ القرن التّاسع عشر الميلادي وإلى زماننا الحاضر لا يعدو أو يخرج عن كونه نظريّاً، ونحن ليس لدينا المعلومة الكافية عن لحاظ معرفة العالم إلاّ من قبل الشّعب اليوناني وذلك في الفترة الّتي سمّيت «آناكزيماندر»(٢٢٢).
وعلى ضوء وما جاء في هذا المواضيع، نتطرّق إلى ذكر بعض النّقاط المهمّة:
١ - بما أنّ جميع العلوم أحدها مرتبط بالآخر فإنّ الخطأ الّذي يحدث في أحد فروع العلم لا يكون مانعاً في حصول التّخبّط والتّوقّف فيه فقط، وإنّما سوف تتأثّر بقيّة الفروع الأخرى في ذلك.
لذا فإنّ الخطأ الّذي يرتكبه أحد العلماء فإنّ ضرره لا يقتصر على ذلك الفرع من العلم؛ بل يتعدّها ويصبح مانعاً وعائقاًً أمام عجلة التّحرّك والتّطوّر لبقيّة العلوم الأخرى والمرتبطة بذلك العلم.
٢ - ربّما يكون هناك علماء في عصر الغيبة أو قبلها لهم نفوذ واسع بين تلامذتهم وبقيّة شرائح المجتمع، لذا فمن الواضح وقوع هؤلاء جميعاً تحت تأثيرهم ونفوذهم، وهذا يعني القبول بكل آرائهم ونظريّاتهم بصدر رحب ورضى نفس، واستمرار تلك الآراء والنّظريّات إلى عدّة أجيال وقرون، ونتيجة التّأثّر الحاصل بالشّخصيّة تلك والّذي هو بالطّبع في غير محلّه، ستظلّ تتوارث التّلاميذ وتلاميذ التّلاميذ و... آرائه ونظريّاته.
وقد يصل التّأثير أحياناً إلى حدّ أنّ الطّالب أو أحد الأفراد حتّى وإن توصّل إلى الخطأ الّذي وقع به الأستاذ فلا تحصل لديه الشّجاعة الكافية لإبرازه والبوح به؛ لأنّه يعلم إنّ إظهاره يعني الوقوع تحت رحمة وغضب وتنفّر البقيّة الباقية، ممّا يسبّب إلى رسم علامات الاستفهام ضدّه وافتعال الضّجّة وبالتّالي سقوط شخصيّته والنّيل من كرامته، ولهذا السّبب يمتنع من إظهار عقيدته وفكرته الصّحيحة، وهذه حقيقة موجودة على مرّ التّاريخ.
٣ - وأحياناً توجد هناك بعض الأديان والمذاهب المنحرفة تساند وتقف إلى جانب بعض العلوم والعقائد الّتي لا أساس لها، وتسلب من الآخرين جرأة وشجاعة إبراز المعارضة لتلك العقائد الخاطئة، وذلك بواسطة النّفوذ الّذي تفرضه على النّاس؛ كما حدث ذلك عندما أيّدت الكنيسة المسيحيّة نظريّة «أرسطو».
ففي هكذا موارد فإنّ الدّين المنحرف والعلم الأسطوري يتّحدان معاً، للحيلولة دون تطوّر وتقدّم المجتمع ووصوله إلى الحقيقة.
٤ - إنّ الأخطاء الّتي وقع بها العلماء واستغلالها من قبل الحكّام المستكبرين مضافاً إلى محدوديّة العلم، كلّها عوامل ضاغطة شكلت منظومة قويّة أمام تبديل العالم المحروم إلى مدينة فاضلة.
٥ - بما أنّ العلوم ومصادر المعرفة تكون شاملة وعامّة في عصر الظّهور المشرق وتأخذ من مصادرها الحقيقيّة، لذا سوف تغيب العلوم الأسطوريّة، وتعيش البشريّة ضمن أطار حكومة ودين عالمي واحد، ويغذيها مذهب التّشيّع الحقّ، الأمر الّذي يؤدّي إلى التّجنّب والابتعاد عن تلك العلوم وزوال كلّ الأديان والمذاهب المنحرفة والباطلة.
وبذلك ستنكشف حقيقة الدّين المنحرف والعلم الأسطوري، وترفع الأقنعة عن تلك الوجوه الكريهة، وتطلع الإنسانيّة على كلّ الأخطاء الّتي وقع فيها الماضون، وبه ستشع أنوار علومه البهيّة، وستزول تلك الخفافيش الّتي تهاب النّور والضّياء من عالم الوجود.

 

٨ - الرحلات الفضائيّة

 

الرحلات الفضائية
إنّ الحديث عن الرّحلات الفضائيّة الّتي سوف تجري في عصر الظّهور المتطوّر، هو من البحوث الشيّقة والمثيرة والنّادرة. وهناك إشارات مهمّة عن تلك الرّحلات في القرآن الكريم والأحاديث الواردة عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
وقبل البداية والدّخول في صلب البحث حول كيفيّة الوصول إلى السّماوات، والتّحليق في عالم الوجود في عصر الظّهور، لابدّ لنا من توضيح بعض النّقاط الّتي نراها ضروريّة عن تلك الرّحلات وبيان عظمة الكواكب والسّحاب و... وكذلك سعة وعظمة السّماوات الواسعة؛ كي تتّضح الصّورة الكاملة عن أهمّيّة تلك الرّحلات في ذلك العصر المتألّق، والفوائد الّتي يجنيها الإنسان منها.
ومن المناسب الاطّلاع كذلك على ما توصّلت له الدّول الاستعماريّة وأوضحته من معلومات عن عصر الفضاء أو عصر ما يسمّى تسخيره، والّذي ينمّ على التّغافل وعدم الاكتراث إلى عظمة عالم الوجود.
وحسب رأينا فإنّ الأبواق الإعلاميّة الّتي سخّرتها الدّول تلك من أجل التّرويج إلى حجز غرفة في الفنادق المجهّزة الموجودة في القمر(٢٢٣)! هدفه وغايته هو غسل أدمغة الإنسانيّة وإظهار الأفضليّة والتّفاخر والتّسلّط على أفكار النّاس وعقولهم. وهؤلاء يعلمون علم اليقين أنّ الكون هذا واسع عظيم ولا يمكن تسخيره إلاّ بواسطة القدرات المتطوّرة الّتي هي ما وراء المادّة، إذن؛ فهل يعدّ الذّهاب إلى القمر تسخيراً للفضاء كلّه؟!
الكرة الأرضيّة تحت نظارة قدرة عظيمة
ومن المحتمل أن تكون هناك فئة من القّراء أصابهم حالة من التّعجّب والدّهشة لما تطرّقنا له من أبحاث ومواضيع لا يمكن تصديقها بسهولة، وبذلنا قصارى جهدنا لتفكيكها وشرحها بشكل مبسط، وها نحن نضيف هنا نقطة اُخرى:
لا شكّ في أنّ المظاهر الغيبيّة للإمام صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه) في عصر الغيبة أحدثت أصداءً واسعةً وأبعاداً كبيرةً، وعلى هذا الأساس بدأت الدّول العظمى بدراسة هذه الظّاهرة وتحليلها بشكل مفصّل، وتوصّلت إلى نتائج أنّ هناك قوى ما فوق الطّبيعيّة تراقب كلّ الحركات والسّكنات الجارية(٢٢٤)!
وفي الحقيقة فإنّ الكثير من الأجهزة الاستخباراتيّة في العالم من أمثال السّيا والمافيا و... ورؤساء بعض الدّول الكبرى يعلمون أنّ هناك قدرة عظيمة غير مادّيّة تراقب أعمالهم، وإنّ الكثير منهم اعترفوا بهذه الظّاهرة الغريبّة والعجيبة. والآن نلفت انتباهكم إلى هذا المطلب:
«إنّ بعض المحقّقين الّذين يدرسون الظّواهر العجيبة في العالم، يعتقدون أنّ الكرة الأرضيّة واقعة بشكل دائم ومنتظم ومنذ زمن بعيد تحت تأثير سيطرة قوى وموجودات مجهولة المعالم والماهيّة لدينا، وتراقبه من جميع نواحيه، وأنّ هناك عدداً من العلماء أيضاً - سواء كانوا تابعين إلى حكوماتهم أم غير ذلك - لهم إشارات واضحة عن هذا الموضوع»(٢٢٥).
ومن المناسب العلم أنّ الدّول العظمى أدركت أنّها بحاجة إلى تقنية القدرات فوق المادّيّة ليس فقط من أجل تطوير علمها والوصول به أعلى الدّرجات والمراتب، وإنّما وجدته أمراً يسهل عمليّة غزوها الفضاء وتسير الرّحلات إلى الكواكب والنّجوم البعيدة، وبذلك يجعلون الأرض مهداً للتّطوّر الهائل في مجال العلم والمعرفة أيضاً.
وعلى ضوء هذا، فإنّهم سعوا كثيراً وبشكل جدّي لفتح باب عالم الغيب! واستعانوا في هذا الطّريق بأشهر العلماء من أمثال آينشتاين والدّكتور جساب، ولكن بما أنّهم أرادوا الدّخول إلى مدينة العلم عن طريق باب غير تلك الباب الأصليّة، لذا فقد واجهوا الفشل الذّريع في المشاريع والبرامج الّتي طرحوها، وأصيب كلّ من كان على علاقة بتلك البرامج بالجنون أو الموت(٢٢٦).
فترك آينشتاين هذا العمل وتنحي، وأمّا الدكتور جساب فإنّه تعرّض إلى القتل بواسطة أشخاص مجهولين!
والآن نلقي نظرة على العظمة والسّعة الّتي يتمتّع بها الفضاء وعرض السّماوات وعظمة عالم الوجود، من أجل بيان القيمة الحقيقيّة للوصول إلى السّماوات في عصر الظّهور المتطوّر:
المجرّات
إنّ أرضنا هي كوكب موجود بين الكواكب الاُخرى، والّتي تدور جميعها حول الشّمس، قطرها بحدود ١٢٧٥٠ كيلومتراً، وتبعد عن الشّمس مسافة مقدارها ١٥٠ مليون كيلومتراً.
وفي هذا المجال فقد عرف العالم إلى الآن ٩ كواكب، وتشكل الشّمس وكواكبها ويطلق عليه المنظومة الشّمسيّة.
ففي هذه المنظومة تقود الشّمس الحركة المنتظمة لجميع الكواكب الّتي تدور حولها، والّذي يكون دورانها في سرع مختلفة ومتفاوته، وفي مدارات مختلفة.
ويعرف المدار على أنّه الخطّ الّذي يدور فيه كلّ كوكب حول الشّمس، أو بعبارة أدقّ هو المسافة الّتي يقطعها كلّ جرم إلى الجرم الآخر.
لا شكّ في أنّ الشّمس هي مصدر النّور والضّياء والحرارة لكواكب منظومتنا، وأنّ الشّمس لها مساحة هي أكبر من مليون مرّة من مساحة الأرض.
ورغم عظمة منظومتنا الشّمسيّة فهي جزء صغير جدّاً من مجرّة الدرب الشيري أو درب التبانة، وتدور في كلّ ٢٣٠ مليون سنة مرّة واحدة حول مركز هذا الكوكب بسرعة تعادل ٨٠٠ ألف كيلومتراً في السّاعة.
إنّ فاصلة المنظومة الشّمسيّة عن الشّمس وحتّى مركز مجرّة درب التبانة هو ٢٨ ألف سنة ضوئيّة. وتتكوّن مجرّة درب التبانة من مئات المليارات من الكواكب، وتشكل الشمس إحداها وتعدّ من الكواكب الصّفراء والبرتقاليّة. ويعتبر درب التبانة من أجمل وأكثر المجرّات تلألؤاً في الكون كلّه(٢٢٧).
ويشكل هذه المجرّة العظيمة جزء أو قطعة من المجرّة الصغيرة المليء بالكواكب في مقابل المليارات من المجرّات الأخرى، وتسمّى مجموعة المجرّات الّتي تشكل عالمنا من النّاحية العلميّة بإسم «متاكالاكسي».
ولأجل إيجاد صورة واضحة المعالم لديكم أعزّائيّ القرّاء عن هذا العالم، يكفي أن تعلموا أنّ عدد المجرّات الموجودة في عالم الخلقة العظيم، هو أكثر من مجموع الرّمال الموجودة في كلّ سواحل العالم(٢٢٨).
مائة بليون نجم مذنب
هناك سحب واسعة ومتراكمة في أطراف المنظومة الشّمسيّة تتشكّل من ١٠٠ بليون نجم مذنب، وسمّية سحاب «آئورت» نسبةً إلى مكتشفه وهو «يان آئورت»، ومن المفرّح أن يكون محيط هذه النّجوم المذنبة يقع مسافة بعيد جدّاً عن كوكبنا، وفاصلته عن الشّمس هي ٣ تريليون كيلومتراً، وبعبارة أخرى فإنّ فاصلته عن الشّمس هي ٢٠٠٠٠ مرّة أكثر من مسافة الأرض عن الشّمس(٢٢٩).
٢٥٠ بليون شمس
يوجد في مجرّتنا ٢٥٠ بليون شمس، وتكون مساحة هذه المجرّة في الكون عظيمة وكبيرة؛ بحيث إذا أراد شعاع نوري أن يقطع تلك المسافة بسرعة بليون كيلومتر في السّاعة، فإنّه يقطعها في مدّة تعادل ١٠٠٠٠٠ سنة(٢٣٠).
تريليونات من المجرّات
«توزعت تريليونات من المجرّات في جميع أنحاء هذا الكون، وكلّ واحد من هذه المجرّات له قطر يعادل مائة ألف سنة ضوئيّة، ويحتوي على أكثر من مائة بليون نجمة.
والجدير بالذّكر أنّ الفضاء في الكون وسيع وعظيم، ويضمّ فيه جميع الموادّ الّتي تشكل النّجوم والمنظومات والمجرّات، ولكن إذا قورن بالسّعة غير المتناهية لفضاء المجرّات الأخرى وما تضمّ فيها، فإنّه لا يشكل إلاّ جزءاً صغيراً يمكن صرف النّظر عنه.
وإذا تمّ تقسيم جرم المجرّات (حدود مليارد مجرّة) في الفضاء بشكل متساوٍ يحصل كلّ «١,٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠» (مليون مليارد) ميل مكعب على ٣٠ غرام من المادّة، فيكون العالم مكاناً شبه متروك ويصبح شبحاً.
وفي مقابل هذه العظمة الوسعة الّتي لا تصدق بالنّسبة إلى المجرّات، فإنّ مجرّتنا ومنظومتنا والأرض الّتي نعيش عليها، ونرى أنّ وجودنا مرتبط بها ولها أهميّة كبرى، وتسبّب لنا الكثير من الاضطرابات والتّفكير الدّائم، فإنّها لا تشكل شيئاً في مقابل تلك العظمة، وأنّها قطرة في محيط عظيم لا تظهر له ضفة أو يابسة»(٢٣١).
الحضارة الموجودة في العالم العظيم
يقول الدكتور شبلي: إنّه يوجد ما لا يقل عن ١٠٠ مليون كوكب مأهول ومسكون في هذا الكون الرّحب، وأنّ سكّانها لديهم علائم من التّطوّر والتّقدّم أكثر منّا.
وطرح بعض من علماء النّجوم والفلك ومن جملتهم الدكتور «إتزاسترو»، «كارل ساكان»، «فرانك دريك» وآخرون في اجتماع لهم عقدوه في سنة ١٩٦١م في مدينة «كرين بنك» الواقعة في «ويرجينيا الغربيّة» نظريّة تهزّ الإنسان من الأعماق؛ حيث أعلنوا: يوجد في هذا الكون ٤٠ إلى ٥٠ مليون كرة أخرى يسعى سكّانها وبطريقة ما إلى إعطائنا علامات أو بالعكس، حيث يستمعون إلى كلّ الرّسائل الّتي ترسل من الأرض.
واستقبل العالم الفرنسي «موريس شاتلن» - الّذي كان يعمل سابقاً في أحد المختبرات في منظمة الفضاء الأمريكيّة - ما لا يقل عن ثلاثة علائم راديويّة يحتمل أن تكون قد أرسلت من الفضاء أو من جانب موجودات ذكيّة.
وكما يبدو فإنّ هناك بعضاً من العوالم الموجودة في الكون يسعون بهذه الطّريقة إلى إثبات حضورهم ووجودهم عند علماء الفلك في بقيّة الكواكب الأخرى.
واستقبل اثنان من العلماء الرّوس وهما «تروتسكي» و«كارداشف» هذه العلائم الراديوئيّة الغامضة الّتي أرسلت من الفضاء في سنوات متوالية بواسطة أربعة محطّات راديويّة في روسيا.
وهذه العلائم لم تصدر قطعاً من قمر صناعي أو سفينة فضائيّة من صنع إنسان، باعتبار أنّ هذه العلائم تمّ اكتشافها قبل إطلاق أوّل سفينة وهي «اسبوتنيك» إلى الفضاء الخارجي(٢٣٢).
وتمّ رصد ١١٣ رسالة من هذا الطّريق، وأكثر من ٢٥٠٠ رسالة أخرى من خلال وسائل الارتباط والاتّصالات الهاتفيّة، وذلك بواسطة الأجهزة المتعدّدة المنصوبة على الأرض، والّتي تتابع كلّ واحدة منها الفضاء الخارجي ورصد وجود الأجسام النّورانيّة، وقد استلمت هذه الرّسائل وجلبت هذه الأشرطة إلى الأرض، ولا يوجد أدنى شكّ إنّ هذه الرّسائل قد وصلت من كواكب وعوالم أخرى، ولكن لا يعلم إلى الآن ما هي فحوى هذه الرّسائل والأهمّ من ذلك من أين وصلت؟
وإنّما من الممكن أن تكون بعض المنظّمات الحكوميّة والّتي لها ارتباط بالدّول العظمى تعلم بذلك، ولكنّها لا تريد إظهارها، بالخصوص أنّه يقال: إنّ هناك نسخ أخرى من تلك الرّسائل أرسلت إلى منظمة الأمم المتّحدة، ووضعت تحت تصرّفها، ولكنّها امتنعت عن الإفصاح عنها(٢٣٣).
الحضارات الموجودة في المجرّات
وعلى أساس هذا فلا يعتري أيّ شخص شكّ في أنّ هناك كائنات أخرى تعيش في عوالم وكواكب أخرى.
وهذا ما أشار إليه العلماء الأحد عشر المتخصّصون بعد مؤتمرهم السرّي الّذي عقد في سنة ١٩٦١ م في «كرين بانك» في «ويرجينيا الغربيّة»، حيث صرّحوا في بنود المعاهدة الّتي وقعوا عليها: إنّ هناك أكثر من ٥٠ مليون حضارة في مجرّتنا.
ورأى «راجرامك كوان» وهو واحد من المسؤولين في «ناسا» (الواقعة في رداستون آلا باما) في نظريّاته والّتي يدور محوريّتها حول التّطوّر الفضائي: إنّه وصل عدد الحضارات الممكنة في المجرّات إلى ١٣٠ مليارد حضارة(٢٣٤).
الرّحلات الفضائيّة في عصرنا!
هل يمكن أن نعتبر الرّحلات المتوجّهة إلى القمر والمرّيخ، تسخيراً للفضاء إذا ما قايسناه بعظمة الكون وسعة الفضاء العظيمة؟!
لقد أظهرت الدّول والقوى الاستعماريّة وهي في بداية خطواتها في هذا المجال، وبعد انقضاء عشرات السّنوات فقط على تسيرها الرّحلات الفضائيّة، أظهرت ذلك الإنجاز بشكل كي تزرع معه في قلوب الإنسانيّة حالة من العظمة اتّجاهها وتمنحها بذلك قوّة غير طبيعيّة، وتجلب إليها الأنظار؛ لتتمكّن من خلالها الاستمرار في حكوماتها الظّالمة ومن بسط نفوذهم وهيمنتهم على البشريّة جمعاء. وبهذه الوسيلة تحصل على كلّ ما ترنو إليه، وكذلك فإنّها توجد حالة من الرّعب والهلع في القلوب، لترفع راية الاستسلام أمام مشاريعهم وخططهم المشؤومة.
وكلّ هذا يحصل في الوقت الّذي علم فيه هؤلاء أنّ الشّرط الأساسي لإنجاح هذه الرّحلات والوصول إلى الكواكب البعيدة يحتاج إلى قدرات خارجة عن قيد الزّمان والحصول على سرعة تفوق سرعة الضّوء.
ويعلمون أيضاً إنّهم يضحكون كثيراً على الأساليب المتبعة والمشاريع المطبّقة في زماننا هذا حينما يأتي ذلك العصر الّذي يعمّ العلم والمعرفة جميع أركانه وزواياه، وتصل الإنسانيّة إلى الكمال والحضارة الواقعيّة المطلقة.
ومن العجيب أن لا تكون الدّول الاستعماريّة وحدها لها العلم بهذه الحقيقة؛ بل إنّ هناك أشخاصاً ظهرت بوادر الشّجاعة على ألسنتهم فصرّحوا بهذا.
وننقل للقارئ الكريم بعضاً من الحقائق الّتي تخصّ هذا الموضوع حتّى تتّضح الرّؤية:
«إنّ الرّحلات الفضائيّة الّتي تجرى اليوم تكلّف الدّول القائمة عليها تكاليف باهظة، حيث تصرّف المحطّات الأمريكيّة والمحطّة الفضائيّة الرّوسيّة (مير) ميزانيّة ضخمة جدّاً وأموال طائلة؛ باعتبار أنّ كلّ ما يحتاجه رواد تلك المحطّات - سواء أكان غذاءً أو هواءً أو حرارةً - يجب أن يرسل ويهيّئ من الأرض.
ويكلّف نقل الكيلوغرام الواحد من المتاع إلى مدار الأرض مبلغ مقداره ١٠٠٠٠ دولاراً، وأيضاً فقد تمّ صرف مبلغ ٥٠٠ مليون دولار في سنة ١٩٩٣ م لتعمير تلسكوب المحطّة الفضائيّة «هابل» (Hubble).
وهذه نماذج بسيطة عن التّكاليف الباهضة الّتي تصرف في المشاريع والبرامج الفضائيّة، أليس هذا الموضوع والأسلوب المتبع في إدارة هذا البرامج من شأنه جعل الأجيال القادمة تضحك علينا»(٢٣٥).
إنّ هؤلاء يعلمون جيّداً أنّ الميزانيّة الّتي تصرف الآن في المشاريع الفضائيّة تجعلها عرضة لسخريّة الأجيال القادمة.
والآن ننقل إليكم تقريرين آخرين عن التّكاليف غير المعقولة الّتي تصرف في الرّحلات الفضائيّة، ومن ثمّ نبيّن فيما بعد نقطة مهمّة:
«إنّ الميزانيّة الّتي صرفتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة منذ نزول سفينة «آبولو ١١» على سطح القمر وصلت إلى أكثر من ٥ مليارات دولار. وهذه الميزانيّة عظيمة وكبيرة إلى حدّ جعلت الإنسان يعيش حالة من الذّهول والتّعجّب»(٢٣٦).
«لقد كانت ميزانيّة سفر «آبولو» أكثر من ميزانيّة حرب الخليج الّتي وقعت في سنة ١٩٩١ م؛ إذ لا مفرّ من ذلك، حيث أنّ الموادّ والعمليّات الأوّليّة الّتي نراها اليوم غير مكلّفة بالنّسبة إلى السّفر إلى القمر لم تكن مكتشفة في تلك الفترة.
وقد اعتبر أكثر الخبراء بأنّ النّتائج الحاصلة من تلك الرّحلة الّتي قامت بها آبولو كانت إيجابيّة، وكتبت أنا وبعد الاطّلاع على هبوطها على سطح القمر مقالات عديدة في صحيفة ديلي تلكراف، وذكرت فيها توقّعاتي في إيجاد قواعد على سطحه، وحتّى إنّني حجزت غرفة ذات سريرين في فندق هناك.
وجاء تقيم تلك النّتائج سريعاً، حيث لم يكن لدينا المعرفة الكافية عن جزئيّات ما قام به رواد الفضاء هناك، ولم يكن لدينا العلم بأنّ هؤلاء وبعد رجوعهم من القمر دخلوا في قطاع الصّناعات الخصوصيّة الّتي عادةً ما تكون بعهدة أصحاب القطاع الخاصّ.
وخلاصة القول إنّ تكلفة مكوك فضائي تطلقه الولايات المتّحدة الأمريكيّة هو مئات الملايين من الدولارات، وأنّ انتقال كلّ كيلوغرام من البضائع إلى الفضاء يكلّف مبلغ مقداره ١٠٠٠٠ مليون دولار»(٢٣٧).
الأخطار الّتي تواجه الرّحلات الفضائيّة في زماننا
إنّ هذا الّذي نقلناه مبيّن للتّكاليف الباهظة والميزانيّة العظيمة الّتي صرفتها وتصرّفها الدّول الاستعماريّة العظمى من دون أيّ جدوى أو طائل. ومن الواضح أنّهم يعلمون جيّداً أنّ الأجيال القادمة ستضحك وتسخر من عجزهم وضعفهم في هذا المجال.
ونتطرّق هنا إلى ذكر نقطة هامّة وحسّاسة، وهي: إنّ المصاريف الباهضة والكبيرة الّتي تصرف على الرّحلات الفضائيّة في زماننا الحاضر - بالطّبع إلى القمر وليس إلى الكواكب والمجرّات البعيدة - هي واحدة من العوامل الأساسيّة في عدم نجاح الدّول الإستكباريّة في تلك الرّحلات، وتدخل أيضاً أمور أخرى في عدم حصولهم على الموفّقيّة المطلوبة في المشاريع الفضائيّة.
ولا شكّ في أنّ الأخطار الجسيمة هي واحدة من العقبات الاُخرى الّتي تقف حجر عثرة أمام الرّحلات الفضائيّة في هذا الزّمان، وفي الحقيقة فإنّ هذه الدّول مستعدّة لتعريض سلامة وأرواح الملايين من البشر من أجل تحقيق أهدافهم المغرضة.
إنّ تنفيذهم البرامج الخطرة في الرّحلات هذه هي شهادة حيّة على أنّهم لا يولون أيّ أهمّيّة ولا يعطون أيّ قيمة للحياة الإنسانيّة، ولا يبالون لما تعرّضت له حياة الكثيرين للخطر! وإليكم هذا التّقرير التّالي لتوضيح هذا الموضوع:
«أطلقت ناسا في سنة ١٩٩٧ م آخر مكوك فضائي نووي بإسم «كاسيني»، وأرسل إلى الفضاء وهو يحمل معه ٣٢ كيلوغراماً من البلوتونيم أكثر ممّا كانت تحمله السّفن الأخرى.
واعترفت ناسا وبالإجبار بالأخطار الناشئة والمحتملة من انتشار هذه المادّة. فإذا كانت «كاسيني» تنفجر في طبقات الخلاف الجوي، فإنّ أكثر من ٥ مليارات من البشر يتعرّضون إلى إشعاعات هذا المقدار القليل من تلك الإشعاعات الذّرّية، بعد أن شخصت مادّة البلوتونيم أنّها تسبّب في زيادة ومضاعفة الإصابة بمرض السّرطان على أمد بعيد حتّى لو تنفّس الإنسان منها الشّيء القليل، وتزداد نسبة هذا الاحتمال عندما يدخل مشروع برومتيوس إلى حيّز التّنفيذ.
يقول «بروس كانكون» وهو عضو في الهيئة العالميّة للحيلولة دون انتشار الأسلحة والطّاقة النّوويّة في الفضاء: إنّ هذا النّوع من التّقنية غير ضروري، فإذا وقعت حادثة في هذا الخصوص، فسوف تكون لها أثار مخرّبة ومدمّرة.
وأضاف قائلاً: إنّ إطلاق هذه السّفينة هو الخطر الأخير في سلسلة الحوادث الاحتماليّة الاجتماعيّة طويلة الأمد»(٢٣٨).
فهل إنّ القيام بمثل هذا المشروع يعود صالحه إلى المجتمع الإنساني أم يعدّ خيانة وجريمة لا تغتفر! وهنا نقطة يمكن الإشارة إليها وهي: إنّهم اعترفوا أنّه لو تمّت هذه العمليّة بنجاح فإنّ أقصى ما يمكن الوصول إليه هو ١٠ إلى ١٢ نجمة من ما مجموعة مليارات من النّجوم الموجودة في مجرّتنا! وليست الموجودة في بقيّة المجرّات الأخرى.
إمكانيّة القيام بالرّحلات الفضائيّة
لا يمكننا إنكار القيام بالرّحلات الفضائيّة إلى المجرّات الّتي تفصلنا عنها عدّة سنوات ضوئيّة، على الرغم من العظمة الّتي يتمتّع بها الفضاء والكون.
ولأجل التّعمّق أكثر في هذه المقولة نوضح مقدّمة ثمّ نتطرّق إلى أصل الموضوع:
هل يجوز لنا من وجهة نظر منهجيّة أن نقول: إنّه مادام الآدمي هو على الصّورة الّتي نراها عليه، فمن المحال أن يجيء بصورة تختلف عمّا هو عليه؟ كلاّ؛ فليس لنا إطلاق هذا الحكم مادامت خياراتنا ومعرفتنا مقصورة على جزء من العالم، وعلى فترة محدودة من الزّمن دون بقيّة الأزمنة الاُخرى.
يقول جابر بن حيّان: «فإنّه قد يمكن أن يكون موجودات مخالف أحكمها في أشياء حكم ما شهدنا وعلمنا، إذا كان التّقصير عن إدراك جميع الموجودات لازماً لكلّ واحد منّا».
وبعد مجموعة الأمثلة الّتي يسوقها جابر، ينتهي بنا إلى مبدأ العالم، وهو أنّه: ليس لأحد أن يدّعي بحقّ إنه ليس في الغائب إلاّ مثل ما شاهد، أو في الماضي والمستقبل إلاّ مثل ما هو الموجود في الآن، إذ كان مقصّراً جزئيّاً، متناهي المدّة والإحساس. وكذلك لا ينبغي أن يستدلّ الإنسان على أنّ العالم لم يزل (أزلي).
وأحسب أنّ جابراً قد صور بهذه الفقرة السّالفة حدود المنهج التّجربي أدقّ تصوير؛ لأنّه يقول: «فمن المشاهد لا يجوز الحكم على ما لم يشاهد إلاّ على سبيل الاحتمال لا على سبيل اليقين، لكنّه إذا لم يكن من الجائز القطع بوجود الغائب على أساس الحاضر المشاهد، فكذلك ليس من الجائز إنكار وجود الغائب مادام هذا الغائب لم يقع في نطاق خبرة المشاهدة، وإلاّ لانحصر الإنسان في حدود حسّه هو، أو في حدود ما تناهى إليه خبره، ولزمه أن ينكر وجود أشياء كثيرة وهي موجودة. ففي العالم بلدان واُمم لم يحسّ أهلها بالتّمساح قط، فإذا أخبرهم مخبر بأنّ ثمّة حيواناً يحرّك لحيته العليا عند المضغ، وجب عليهم أن ينكروا الخبر ما داموا لم يشهدوا حيواناً كهذا؟».
كلاّ فليس لأحد أن يدفع ويمنع وجود ما لم يشاهد مثله؛ بل وإنّما ينبغي أن يتوقّف عن ذلك حتّى يشيّد البرهان بوجوده أو عدمه. وأمّا أن يحكم الإنسان بعدم وجود شيء مادام لم يرد عليه أو يخبر به، وأن يحكم ببطلان ما يُخبر به مادام لم يقع له في مشاهداته المباشرة، فجهل بطريق الاستدلال - على ما قدّرنا - واضح(٢٣٩).
لذا فلا يمكن تسمية السّفر إلى القمر والمرّيخ إنّه تسخيراً للفضاء. وذلك لأنّ وضع الخطوة الأوّليّة في الفضاء والوصول إلى بداياته، ليس معناه السّيطرة عليه لما يحويه من عظمة ووسعة.
ونظراً للاستدلال الّذي نقلناه عن جابر بن حيّان لا يستطيع أحد القول أنّه وبما أنّ الإنسان المعاصر لم يتمكّن من الحصول على الشّيء المراد، فإنّه لا يمكن لأيّ مخلوق آخر الحصول عليه، والدّليل هو عدم معرفته والاطّلاع عليه، وهذا الاستدلال باطل وغير صحيح، طبقاً لما جاء عن قول «جابر بن حيّان».
الرّحلات الفضائيّة لأهل بيت العصمة والطّهارة (عليهم السلام)
من المؤكّد أنّ هناك رحلات فضائيّة قام بها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) مراراً وتكراراً في عصر كان الاعتقاد فيه سائد بآراء «بطلميوس»، والّتي تعتبر أنّ الرّحلات إلى الفضاء من الأمور المستحيلة، فقد صرّحت روايات عديدة بحدوث رحلات من هذا القبيل لكلّ من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام السّجّاد (عليه السلام) وبقيّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
أضف إلى ذلك المرّات العديدة الّتي عرج بها الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى السّماء، والّذي يعد بالتّأكيد هو نوعاً من الرّحلات الفضائيّة من الطراز الأوّل. والعروج هذا هو واحد من الاُصول المهمّة في عقائدنا.
وبما أنّ هذه الرّحلات جرت ووصلت أنبائها إلى النّاس في زمان حاكميّة وتسلّط حكومة «بطليموس» حيث كان الأجواء غير طبيعيّة، لذا فقد بقي أكثرها في طيّ الكتمان والخفاء، فإذا كان من الممكن إظهارها في ذلك الزّمان، لكنّا قد حصلنا على حقائق جديدة ونماذج فريدة.
فعلى سبيل الفرض إذا كان شخصاً لديه شكّ في الرّحلات الّتي قام بها أهل البيت (عليهم السلام)، فعليه الالتفات إلى نقطة، وهي: إنّ مشيئة الله سبحانه وتعالى قائمة في كلّ زمان ومكان على أنّ حجّة الله تكون له قدرة وقوّة تفوق جميع القدرات الموجودة والمعمول بها في ذلك الزّمان.
ومن الطّبيعي تبرز الحاجة والشّعور للمشيئة الإلهيّة أكثر عندما تقترن مع إصلاح العالم. وهذا معناه أنّ الشّخص الّذي يريد أن يحكم العالم يجب عليه أن يتمتّع بقوّة تفوق القوّة المتعارف عليها، بشكل لا تخضع لها القوّة الصّناعة العظيمة والتّكنولوجيا العالميّة المتطوّرة فقط، وإنّما يركع ويخضع لها حتّى هؤلاء الأشخاص الّذين يتمتّعون بقدرات وطاقات غير طبيعيّة من أمثال المرتاضين وأصحاب القدرات الخارقة والماورائيّة و....
ونلاحظ جليّاً أنّ التّاريخ لم يحدّثنا يوماً أنّ أحداً من العلماء وفلاسفة العالم استطاع من الغلبة على أحد الأنبياء المرسلين بواسطة الدّليل العلمي.
فإذا كان الله عزّ وجلّ قد بعث نبيّه الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالقرآن والمعجزة الخالدة والسّيف، فمن الطّبيعي أن يرسل آخر حجّة له أيضاً بالقرآن والبرهان والقوي والقدرات الّتي من شأنها غلبة القوى الموجودة في عصر قيامه (عجّل الله تعالى فرجه) وسحقها جميعها.
وإليكم هذه الرّواية الهائلة:
قال المتوكّل لابن السّكيت: سل ابن الرضا (عليهما السلام) مسألة عوصاء بحضرتي.
فسأله فقال: لِمَ بعث الله موسى بالعصا، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وبعث محمّداً بالقرآن والسّيف؟
فقال أبو الحسن (عليه السلام): بعث الله موسى (عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السّحر، فأتاهم من ذلك ما قهر بسحرهم وبهرهم، وأثبت الحجّة عليهم.
وبعث عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى في زمان الغالب على أهله الطبّ، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم.
وبعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالقرآن والسّيف في زمان الغالب على أهله السّيف والشّعر، فأتاهم من القرآن الزّاهر والسّيف القاهر ما بهر به شعرهم وبهر سيفهم...(٢٤٠).
وعلى ضوء ما جاء في هذه الرّواية يمكن الوصول إلى حقيقة وهي: على الرّغم من أنّ العصر هذا هو عصر التكنولوجيا وتسخير الفضاء كما يقولون، لكنّ الإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا لمقدمه الفداء ستكون بحوزته وسائل فضائيّة مهمّة للغاية، تسحق كلّ الوسائل المتطوّرة الّتي نشهدها اليوم.
النّفوذ إلى السّماوات
في الحقيقة إنّ تشكيل حكومة أهل البيت (عليهم السلام) وظهور القدرة العظيمة لهم، ليس وحده الدّافع لتسليط الأضواء وجعل البشريّة الّذين يحملون الطّينة الطّاهرة ينجرون إليهم (عليهم السلام) فحسب؛ وإنّما الحديث عن وصول ذلك العصر العظيم وما يكتنفه من أحداث يحرّك قلوبهم، ويجعلها تنبض بشوق وحماس وتترقّب سريعاً لوصول ذلك العصر المتألّق.
وبالطبع فإنّ المشاريع والبرامج الوسيعة والعظيمة الّتي تطبق وتنزل على أرض الواقع من شأنها كسب ملايين البشر إليه، والمؤكّد فإنّ المواضيع والحوادث المثيرة والعجيبة فيه هو نفوذ الإنسان إلى السّماوات والتحليق في الفضاء والنّزول على سطح الكواكب الأخرى.
لقد كانت عمليّة الوصول إلى السّماء والنّزول على الكواكب الأخرى هي من الآمال العريضة والقديمة الّتي راودت الإنسان في يقظته وأحلامه، وبذل جهوداً جبّارة في الحصول عليها، وصرف أموالاً طائلة من أجل تحقيق هذا الهدف.
إنّ ما قلناه كان يتعلّق بالنّفوذ إلى السّماوات من النّاحية الّتي ترتبط بعالم الملك والنّقطة المهمّة والمثيرة الّتي يمكن التّطرّق إليها هنا وهي: إنّ الإنسان لا ينفذ فوق السّماوات من الناحية الملكيّة في ذلك العصر فقط؛ بل ينفذ وينظر إلى ملكوت السّماوات أيضاً.
وكما تعلمون فإنّ هناك اختلافاً واسعاً بين عالم الملك وعالم الملكوت من النّاحية الكيفيّة والأهمّيّة، بحيث لا يمكن بأيّ صورة من الصّور مقايسة عالم الملك مع عالم الملكوت وعقد توازن بينهما.
ونتيجة أفضليّة عالم الملكوت على عالم الملك ونفوذ الإنسانيّة في حكومة الصّالحين إليه، تجعلنا نستنتج أنّ الإنسانيّة تتمتّع في ذلك العصر بعظمة ظاهريّة ومعنويّة متعالية.
فهنيئاً إلى كلّ من يدرك ذلك العصر المشرق ويعيش فيه. وهنيئاً لمن عبّر مرحلة عصر الظّلمات والجهل، ووصل إلى عصر النّور والضياء ليشهد عالماً كلّه فرح وسرور وحبور، وهنيئاً لمن....
الرّحلات الفضائيّة في عصر الظّهور
لقد عرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ليلة المعراج إلى السّماوات، وتحدث مع البارئ عزّ وجلّ في عرشه، وأنبأ الله سبحانه وتعالى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الرّحلات الفضائيّة الّتي يقوم بها الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء.
وأخبره كذلك عن تشكيل الحكومة العالميّة الواحدة واستمرارها إلى يوم القيامة، والتّحوّلات والتّغيّرات العظيمة المختلفة الّتي سوف تطرأ في جميع أنحاء المعمورة، وتطهير العالم من وجود أعداء الله و....
وهنا نسرد جزءاً من هذه الرّواية المتعلّقة بالمعراج ثمّ نتطرّق إلى بيان نقاط حولها:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):... فقلت: يا ربّ هؤلاء أوصيائي بعدي؟
فنوديت يا محمّد؛ هؤلاء أوليائي وأحبّائي وأصفيائي، وحججي بعدك على بريّتي، وهم أوصيائك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك.
وعزّتي وجلالي لأظهرنّ بهم ديني، ولأعلينّ بهم كلمتي، ولأطهّرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي، ولاُملّكنّه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخرنّ له الرّياح.
ولاُذلّلنّ له السّحاب الصّعاب، ولاُرقينّه في الأسباب، ولأنصرنّه بجندي، ولاُمدّنّه بملائكتي، حتّى يعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثمّ لأديمنّ ملكه، ولأداولنّ الأيّام بين أوليائي إلى يوم القيامة(٢٤١).
وكما رأيتم فإنّ هذه الرّواية تتحدّث عن مواضيع مهمّة تبيّن المنزلة والمقام الشّامخ والرّفيع للأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وإظهار الدّين وعلوّه عن طريقهم (عليهم السلام)، وتطهير الأرض من أعداء الله بآخرهم، وتسخير السّحاب في الفضاء، وجعله وسيلة من وسائل الصّعود والتّحليق في السّماء.
وأيضاً الإشارة إلى جيش الله واعتقاد جميع الخلق بتوحيد الله والحكومة العالميّة الواحدة واستمرارها إلى يوم القيامة و....
النّقاط المهمّة والجميلة في الرّواية
عند التّأمّل بدقّة في الرّواية نشاهد نقاط مهمّة نشير إلى بعض منها:
١ - يقول البارئ عزّ وجلّ في هذه الرّواية: «لاُسخّرنّ له الرّياح، ولاُذلّلنّ له السّحاب، ولاُرقّينّه في الأسباب»، وهذا دليل واضح على أنّ صعود الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) إلى السّماوات هو صعود جسماني؛ كما حدث لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معراجه.
وهذا معناه أنّ نفوذ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) لا يكون بالقالب المثالي كما أنّ المقصود من الصعود إلى السّماوات هو ليس الصعود الروحي؛ لأنه إذا كان كذلك ففي هذه الحالة لا توجد أيّة حاجة أو ضرورة للاستفادة من السّحاب الصّعاب أو بقيّة الأسباب الأخرى، حيث أنّ الذّهاب بالقالب المثالي أو الرّوح فقط لا يحتاج إلى الاستفادة من الوسائل الفضائيّة.
٢ - النّقطة المهمّة الأخرى الّتي يمكن استنباطها من الرّواية هي: أنّه متى ما رغب وأراد الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) الصّعود الجسماني إلى السّموات فإنّه لا يحتاج إلى الأسباب والوسائل الفضائيّة؛ بل يستطيع (عليه السلام) وبواسطة الوسائل الظّاهرية أو البراق - المخصوص للرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والّذي هو تحت تصرّفه (عجّل الله تعالى فرجه) - إنجاز وتحقيق هذا الأمر.
وأمّا في الرّواية، فقد جاء التعبير بالأسباب والوسائل، وهذا دليل على أنّ نفوذه وذهابه إلى السّماوات لا ينحصر بوسيلة مثل البراق، ولذلك فإنّ لفظة الأسباب والوسائل ظاهرة - نظراً إلى عدد الوسائل ومجيء الأسباب بلفظة الجمع - في أنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) لا يستفيد من وسيلة محدودة مثل البراق.
والجدير بالاهتمام أنّ لفظة «السّحاب الصّعاب» أيضاً جاءت بلفظ الجمع.
٣ - ويمكن الاستفادة من نقطة أخرى وهي: أنّ هناك ثلاثة وسائل وطرق يمكن الاستعانة بها والوصول إلى الفضاء في عصر الظّهور وهي كالتالي:
ألف) «لاُسخّرنّ له الرّياح»؛ وهذا الأمر جاء في القرآن الكريم حيث كان النّبيّ سليمان (عليه السلام) ينقل مئات الأشخاص إلى السّماء بواسطة بساط الرّيح العظيم الّذي كان تحت اختياره.
لا يشكّ أحد بما للرّياح والأعاصير من آثار كبيرة وعجيبة، وإنّ تسخيرهما يأتي بمعنى السّيطرة عليهما ووضعهما تحت التّصرّف.
ولم يتمكّن أحد من العلماء في عصرنا الحاضر قطعاً من السّيطرة على الرّياح الشديدة والاستفادة من قوّتها. ولكن حسب ما جاء في الآيات القرآنيّة الكريمة، فإنّها تشير وبوضوح إلى استفادة النّبيّ سليمان (عليه السلام) من هذا الموضوع.
وأنّ الإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء - والّذي له الولاية على كلّ شيء - سيتمكّن من إخضاعها ورفع آثارها المخرّبة والاستفادة منها بشكل إيجابي.
ب) «ولاُذلّلنّ له السّحاب الصّعاب»؛ من الطبيعي فإنّ السّحاب الضّوئيّة وقدراتها العظيمة والعجيبة هي غير الرّياح العادّية.
ج) «ولاُرقينّه في الأسباب»؛ وممّا يلفت النّظر هنا هو الاستفادة من الحرف «في» في هذه الجملة، وهذا معناه: أنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) سيكون في وسط وداخل الوسائل الفضائيّة. وأمّا إذا كان المقصود من الأسباب هي «السّحاب الصّعاب» فقط، لكان يجب استعمال حرف «على» يعني الرّكوب على السّحاب وليس فيها.
٤ - إضافة إلى النّقاط الأخرى الكثيرة الموجودة في هذه الرّواية تبرز من بينها نقطة جديرة بالعناية وهي: إنّ الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي وبعد أن أقسم بعزّته وجلاله، فإنّ جميع المواضيع والحوادث الّتي ذكرها لرسوله الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وردت محلاّت باللاّم والنّون التّأكيديّة. وهذا دليل على أنّ جميع الحوادث والوقائع الّتي جاءت في الرّواية؛ مثل: نفوذ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) وصعوده إلى السّماوات بواسطة الوسائل الفضائيّة و... تقع في زمن المستقبل في عصر الظّهور المتألّق، وهذا الأمر لا يقبل أيّ شكّ أو تردّد.
٥ - النّقطة الأخرى الّتي يمكن استخراجها من هذه الرّواية والاستفادة منها هي: أنّ تسخير جميع الأسباب والسّحاب الصّعاب وبقيّة الوسائل الفضائيّة دليل على أنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) لا يستفيد وحده منها باعتبار كثرتها؛ بل أنّ أصحابه وأعوانه وكلّ شخص يرغب فيه الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) ويقع مورداً لرضاه يمكنه الاستفادة منها؛ كما فعل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما اصطحب بعض أصحابه الخلّص من أمثال سلمان و... إلى السّماء بواسطة السّحاب، وكان صعودهم وعروجهم إلى مقدار حيث أصبحت الأرض في أعينهم كحبّة جوزة(٢٤٢).
ومن الطّبيعي فإنّ مسافة الصعود إلى السّماوات هو أكثر من المسافة الموجودة بين القمر والأرض؛ يعني أنّهم عرجوا إلى مسافة أعلى من القمر، لأنّه ومع أنّ القمر أصغر من الأرض فإنّه يرى أكبر من الجوزة، إذن؛ فقد كانت المسافة الّتي قطعوها أكثر من المسافة الموجودة بين القمر والأرض.
٦ - ويمكن الاستدلال ممّا قلناه على أنّ حكومة الإمام بقيّة الله الأعظم (عجّل الله تعالى فرجه) هي أرقى حكومة عالميّة عادلة، لأنّ الله سبحانه وتعالى - وبعد بيان أنّ المشرق والمغرب سيكون تحت سيطرة وقدرة وولاية الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) في عصر الظّهور - يذكر الرّحلات الفضائيّة والوسائل الفضائيّة المختلفة في ذلك الزّمان.
ومن هنا فإنّه بالإضافة إلى وضع عالم ملكوت السّماوات تحت تصرّف الإمام الهمام (عجّل الله تعالى فرجه) في عصر الظّهور المشرق، فإنّ من ناحية عالم الملك السّماء أيضاً ستكون ضمن دائرته واختياراته (عجّل الله تعالى فرجه).
٧ - النّقطة المهمّة الأخرى الّتي يمكن الاستفادة منها في هذه الرّواية هي: أنّه نظراً لعظمة عالم الخلق ووسعة الفضاء والسّماوات، فإنّ استعمال لفظة «أسباب السّماوات» في الرّواية دليل صريح على أنّ السّفن والوسائل الفضائيّة الأخرى الّتي تجول في السّماء الكبيرة في ذلك العصر لابدّ لها أن تكون من الوسائل الّتي تفوق سرعتها سرعة الضّوء.
إذن؛ فإنّ التعبير ب«أسباب السّماوات» يثبت أنّ هناك وسائل فضائيّة أسرع بكثير من سرعة الضّوء؛ بحيث لا تقع في جاذبيّة المادّة والمكان السّابق وحدود الزّمان، وهذه واحدة من الأصول والقواعد الثّابتة في تطوير علم الفضاء.
التعرّف على الموجودات الفضائيّة
من الواضح في أنّ من لوازم وضروريّات الرّحلات الفضائيّة هي التّعرّف على الموجودات الفضائيّة، باعتبار أنّ هناك موجودات أخرى تعيش في بقيّة الكواكب والسّماوات الأخرى.
وهذه الحقيقة جاءت على لسان الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) في أحاديثهم حول الموجودات الفضائيّة، وهنا نذكر واحدة من الرّوايات الّتي تتحدّث في هذا الخصوص: قال الإمام الصّادق (عليه السلام):
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لهذه النّجوم الّتي في السّماء مدائن مثل المدائن الّتي في الأرض(٢٤٣).
وتوضح هذه الرّواية بشكل لا غبار عليه أنّ هناك كواكب عديدة موجودة في السّماء يعيش فيها موجودات فضائيّة، ولهم مدن مبنيّة ومشيّدة كما بنى الإنسان مدنه على الأرض.
ويقول أبو بصير في رواية أخرى:
سألته عن السّماوات السّبع، فقال: سبع سماوات ليس منها سماء إلّا وفيها خلق، وبينها وبين الاُخرى خلق حتّى ينتهي إلى السّابعة.
قلت: والأرض.
قال: سبع، منهنّ خمس فيهنّ خلق من خلق الربّ، واثنتان هواء ليس فيهما شيء(٢٤٤).
إنّ الدّول العظمى ووسائلها الإعلاميّة المختلفة والّتي تتحدّث دوماً عن التّطوّر والتّكامل، فإنّها لا تملك إلى الآن ولم تتوصّل وتخترع أيّة وسيلة تفوق سرعتها سرعة الضّوء. وإذا فرضنا أنّها حصلت على هكذا وسيلة فماذا تفعل للوصول إلى الكواكب الّتي تبعد عنّا مليارات السّنين الضّوئيّة؟! وكيف لها تأمين عمر طوله عدّة مليارات من السنوات؟
وهذا هو دليل قويّ آخر على أنّ الرّحلات الفضائيّة إلى الكواكب البعيدة تحتاج إلى قدرات ما وراء المادّة، وهذه هي النّقطة الّتي أشار إليها أهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام) منذ قرون بعيدة.
الاستفادة من القدرات الّتي هي ما وراء المادّة
إنّ ما بين الآيات القرآنية والرّوايات الواصلة إلينا من الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هناك الكثير الّذي صرّح بوجود قدرات ما فوق ووراء المادّة، وحسب النّظريّة القرآنيّة والرّوايات فإنّه تمّ الاستفادة من تلك القدرات، وإنّ هناك موارد عديدة حدثت بشكل عملي.
إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام) لم يصرّحوا من خلال تعاليمهم وعلومهم المتعالي والمشروع الحياتي الكامل والمتطوّرة الّذي قدموه إلى الإنسانيّة عن إمكانيّة الاستفادة من قوى ما وراء المادّة، وإنّما بيّنوا مراراً وقوعها في الكثير من المجتمعات الإنسانيّة.
وهناك نقاط صريحة في القرآن الكريم والرّوايات الكثيرة تؤكّد على الاستفادة منها بل وحتميّة وقوعها أيضاً.
بالطبع فقد حصلت في الفترات السّابقة حوادث تم الاستفادة فيها من القدرات الكامنة ما وراء المادّة، وتحدّث القرآن عن نماذج منها، وصرّحت أيضاً روايات عديدة عن الكثير منها.
وانطلاقاً من هذا، فسوف تصل الاستفادة من تلك القوى والقدرات إلى أعلى مراتبها في عصر الظّهور المشرق، بعدما يتمتّع المجتمع الإنساني بالتّكامل الفكري والمعنوي.
والحقيقة هي أنّ عصر الظّهور، هو عصر الاستفادة من القوى والقدرات الّتي تكمن ما وراء المادّة.

 

مصادر الكتاب

 

القرآن الكريم
الف) الكتب:
١ - آية الكرسي، رسالة التوحيد السماويّة: محمّد تقي الفلسفي، دفتر نشر الثقافة الإسلاميّة - طهران، الطبعة الرابعة، سنة ١٣٨٢
٢ - الإرشاد: الشيخ المفيد رحمه الله، منشورات مكتبة بصيرتي - قم
٣ - إثباة الهداة: الشيخ الحر العاملي، دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثالثة، خريف ١٣٦٤
٤ - الأسئلة العجيبة الأجوبة الأعجب: ا.جى. أرمسترانك، ترجمة بريسا همايون روز، نشر كتب قاصدك التّابعة لمؤسّسة النّشر والتحقيقات ذكر - طهران، الطبعة الثانية، ربيع ١٣٨٠
٥ - إثنا عشر ألف مثل فارسيّاً: الدكتور إبراهيم شكور زاده بلورى، انتشارات الرّوضة المقدّسة - مشهد المقدّس، الطبعة الأولى، سنة ١٣٨٠
٦ - الإحصائيات تكشف: أصغر جدائي، نشر نور السجاد (عليه السلام) - قم، الطبعة الأولى، ربيع ١٣٨٣
٧ - إحقاق الحق: القاضي نور الله التستري، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي - قم
٨ - أستاذ العشق: إيرج حسابي، نشر وزارة الإرشاد - طهران، الطبعة الثانية والعشرين، سنة ١٣٨٣
٩ - أصول الكافي: للمرحوم الكليني، دار الكتب الإسلامية - طهران
١٠ - أعجب من الرؤيا: فرانك أدواردز - اريك نورمن، ترجمة: سيروس كنجوي، نشر رسول الثقافة - طهران، الطبعة الأولى، ربيع ١٣٧٢
١١ - إعلام الورى: الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) - قم، الطبعة الأولى، ربيع الأول ١٤١٧ ه
١٢ - العودة إلى النجوم: اريك فون دنيكن، المترجم مسعود نوده فراهاني، نشر برهمند، الطبعة الأولى
١٣ - ألفا عالم يبحثون عن وجود الله: رايموند روايه، ترجمة: فرامرز برزكر، انتشارات جاويد - طهران، الطبعة الرابعة، سنة ١٣٥٨
١٤ - آينشتاين: حبيبة جعفريان، نشر سروش - طهران، الطبعة الثانية، سنة ١٣٨٣
١٥ - بحار الأنوار: العلاّمة محمّد باقر المجلسي رحمه الله، منشورات المكتبة الإسلاميّة - طهران، طبعة رمضان المبارك سنة ١٣٩٣ ه
١٦ - بصائر الدرجات: محمّد صفار القمي، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي - قم ١٤٠٤ه
١٧ - البحث عن عجائب العالم: جون ميكنتاش، ترجمة نياز يعقوب شاهي، نشر زمانه - طهران، الطبعة الأولى، سنة ١٣٧٤
١٨ - تاريخ الإنسان المجهول: روبر شارو، المترجم: هوشيار رزم آرا، نشر سبنج - طهران، الطبعة الأولى، شتاء ١٣٦٨
١٩ - تاريخ الكوفة: السيد حسين براقي النجفي، المترجم: سعيد راد رحيمي، مركز التحقيقات الإسلامية للرّوضة الرّضويّة المقدّسة - مشهد، الطبعة الأولى سنة ١٣٨١ ه
٢٠ - تحليل عن آراء جابر بن حيان: الدكتور زكي نجيب محمود، المترجم: حميد رضا شيخي، مركز التحقيقات الإسلاميّة للرّوضة الرضويّة المقدّسة - مشهد، سنة ١٣٦٨
٢١ - التشريف بالمنن في التعريف بالفتن، المعروف بالملاحم والفتن: السيّد ابن طاووس، نشر مؤسّسة صاحب الأمر (عليه السلام) - قم، الطبعة الأولى، ١٥ شعبان ١٤١٦
٢٢ - الخرائج والجرائح: قطب الدّين الراوندي، مؤسّسة الإمام المهدي (عليه السلام) - قم، الطبعة الأولى، سنة ١٤٠٩ ه
٢٣ - دائرة المعارف (ألف ونقطة مثيرة): مهدي وفائي، نشر وفائي - قم، الطبعة الأولى، سنة ١٣٨٢
٢٤ - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير بن رستم الطبري، مؤسسة البعثة - قم، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٣ ه ق
٢٥ - سنة ٢١٠٠ وصف القرن القادم: تييري كدن، المترجم: الدكتور عباس أكاهي، دفتر نشر الثقافة الإسلاميّة - طهران، الطبعة الأولى، ١٣٧٩
٢٦ - شخّص مقدار قدرتك: فيكتور بكلس، ترجمة: محمد تقي فرامرزي، نشر بارسا - طهران، الطبعة الأولى، سنة ١٣٧٣
٢٧ - شرح دعاء السمات: المرحوم السيّد علي قاضي الطباطبائي، مؤسسة شمس الشموس للثقافة والمطالعات - طهران، الطبعة الأولى ١٣٤٨
٢٨ - شرح غرر الحكم ودرر الكلم: المرحوم جمال الدّين محمد الخوانساري، انتشارات جامعة - طهران الطبعة الثالثة، بهمن ١٣٦٦
٢٩ - الصحن الطّائر: ترجمة وتنظيم: ب - زرنكار، انتشارات زرين، طهران
٣٠ - الصحيفة المهديّة: السيّد مرتضى المجتهدي السيستاني، نشر حاذق - قم، الطبعة الثامنة، مرداد سنة ١٣٨٤
٣١ - الصحيفة المباركة المهديّة: السيّد مرتضى المجتهدي السيستاني، نشر حاذق - قم، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٩ ه
٣٢ - طريق التّكامل: الأستاذ أحمد أمين، المترجم: الدكتور أحمد بهشتي، أديب لايري، وإمامي الشيرازي، نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة السابعة، بهمن سنة ١٣٦١
٣٣ - العالم في ٥٠٠ سنة مقبلة: آدريان بري، المترجم: الدكتور كوشيار كريمي طاري، نشر الجيل المتنوّر - طهران، الطبعة الأولى، شتاء ١٣٧٨
٣٤ - عجائب الحاسّة السّادسة: غلام رضا أربابي، نشر مجموعة اربابي للثّقافة - طهران، أبان ١٣٧٢
٣٥ - عجائب الخلق: قديري فرد، نشر لون السّماء - قم، الطبعة الأولى ١٣٨٣
٣٦ - عقد الدّرر في أخبار المنتظر (عليه السلام): يوسف بن يحيى، تحقيق: عبدالفتّاح محمّد الحلو، انتشارات نصايح - قم، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٦ ه
٣٧ - العقل المفكّر للعالم الشّيعي: ترجمة واقتباس: ذبيح الله المنصوري، انتشارات جاويدان - طهران، الطبعة الثالثة، فروردين ٢٥٣٦
٣٨ - العلم، شبيه العلم، والعلم المزيف: هانري زري إرس، ترجمة: الدكتور عبّاس باقري، نشر ني - طهران، الطبعة الأولى، سنة ١٣٧٩
٣٩ - علم النّفس والضمير اللاّواعي: كارل كوستاويونك، ترجمة: محمّد علي أميري، شركة انتشارات العلميّة الثقافيّة - طهران، الطبعة الأولى، سنة ١٣٧٢
٤٠ - الغيبة: شيخ الطائفة الطوسي، منشورات بصيرتي - قم، الطبعة الثانية، سنة ١٣٨٥ ه ق
٤١ - الغيبة: الشيخ النعماني، تحقيق: علي أكبر غفاري، مكتبة صدوق - طهران
٤٢ - كلزار أكبري: الشيخ علي أكبر نهاوندي رحمه الله، انتشارات العلمي - طهران، طبعة اُفست سنة ١٣٣٦ ه ق
٤٣ - كمال الدّين: الشيخ الصدوق رحمه الله، منشورات دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثانية، سنة ١٣٩٥ ه ش
٤٤ - ما وراء الطبيعة: ليال واتسن: ترجمة: شهريار بحراني وأحمد أرزمند، مؤسسة انتشارات أمير كبير - طهران، الطبعة الثالثة، سنة ١٣٦٩
٤٥ - مختصر البصائر: الشيخ حسن بن سليمان الحلي، تحقيق: مشتاق المظفر، مؤسّسة نشر الإسلامي - قم، الطبعة الأولى، سنة ١٤٢١ ه ق
٤٦ - مستدرك الوسائل: المرحوم المحدّث النّوري، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) - قم، الطبعة الأولى، شوال ١٤١٤ ه ق
٤٧ - مستقبل العالم (مجموعة العالم في القرن الواحد والعشرين): سارا أنجليس، وكولين آتلي، المترجم: داود شعباني دارياني، نشر بيدايش - طهران، الطبعة الأولى، شتاء ١٣٨١
٤٨ - مصباح الزائر: السيد ابن طاووس رحمه الله، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) - قم، الطبعة الأولى، محرّم الحرام سنة ١٤١٧ ه ق
٤٩ - مصباح الشّريعة: المنسوب إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، منشورات مؤسّسة الأعلمي - بيروت، الطبعة الأولى، سنة ١٤٠٠ ه ق
٥٠ - نسخة عطّار: محمّد تقي عطّار نجاد، طهران، سنة ١٤٥٨
٥١ - المفقودون في مثلث برمودا: جارلز برليتز، المترجم: سيروس كنجوي، انتشارات خواجو - طهران، الطبعة الأولى، أبان سنة ١٣٨٢
٥٢ - نظرة إلى مصير العالم، الإنسان، التاريخ: الدكتور محمّد كريمي، انتشارات موحّد - مشهد، الطبعة الأولى، صيف ١٣٧٤
٥٣ - نهج البلاغة: السيّد رضي رحمه الله، بقلم فيض الإسلام، انتشارات فقيه - طهران، الطبعة الأولى، سنة ١٣٧٥
٥٤ - نوادر الأخبار: محسن بن فيض الكاشاني رحمه الله، تحقيق: مهدي أنصاري القمي، مؤسّسة المطالعات والتحقيقات الثقافيّة - طهران، سنة ١٣٧١
٥٥ - وسائل الشيعة: الشيخ الحرّ العاملي، إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الرابعة، سنة ١٣٩١ ه ق
ب) الصّحف والمجلاّت:
١ - أسبوعية خبر (٢٥ ارديبهشت ١٣٧٦).
٢ - جريدة عالم الاقتصاد (٤ آبان ١٣٨٣).
٣ - جريدة المال (٤ آبان ١٣٨٣).
٤ - جريدة كيهان (٥ شهريور ١٣٦٠).
٥ - حكيم رقم ٥٩ (الملحق رقم ١٣٢٧ جريدة جام جم).
٦ - كتاب الأسبوع (١٧ بهمن ١٣٨٣ رقم ٦١١).
٧ - كليك رقم ١٣ (ملحق جريدة جم جم).
٨ - مجلة الزراعة (شهريور ١٣٨٣ رقم ٢٩٧).
٩ - مجلة العالم (مهرماه ١٣٨٣ رقم ٤٩٢).
١٠ - مجلة المعلومات (سنة ٢٦، مهرماه ١٣٨٣، رقم ٣٦٠).
١١ - مجلة المعلومات العلميّة (سنة ١٩ رقم ٣ دي ماه ١٣٨٣).

 

الهوامش:

 

ــــــــــــــــــــــ

 

(١) شرح غرر الحكم: ٤٧٦/٢.
(٢) الصحيفة المباركة المهديّة (الطبعة الاُولى): ١٦٦.
(٣) ورد الكثير من التكريم والتجليل للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) على ألسنة أئمّة الهدى (عليهم السلام)، نقلناها في مقدّمة كتاب «الصحيفة المهديّة»، يرجى الرجوع إليه.
(٤) عقد الدرر: ١٨٨، ٦٩ و٢١٢.
(٥) بحار الأنوار: ٣٦٦/٥٢ ح ١٤٩.
(٦) بحار الأنوار: ١٤٣/٧٧.
(٧) بحار الأنوار: ١٥٦/٥١.
(٨) نظراً لوصف الإمام صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه ب«المستور عن عوالمهمّ» - في بعض نسخ الأدعية -، لذا فإنّ ظهوره (عجّل الله تعالى فرجه) مثل غيبته لا تختصّ بعالمنا أيضاً.
(٩) إنّ الموارد والأسماء الّتي تمّ تشخيصها بواسطة العلامة «×»، فإنّها تعود إلى الأسماء المقدّسة لاُمّ الإمام (عليهما السلام)؛ تلك المرأة العظيمة والجليلة.
(١٠) سورة الحديد، آية ٢٥.
(١١) في زمن حكومة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عمل الأعداء بكلّ ما استطاعوا من قوّة على وضع الصعوبات والمشاكل، للحيلولة دون تطبيق العدل والقسط، ولم تزل الحقوق مغصوبة من أهلها مثل فدك وغيرها.
(١٢) الصحيفة المهديّة: ٦٣٦.
(١٣) سورة الحجّ، الآية ٤١.
(١٤) إحقاق الحقّ: ٣٤١/١٣.
(١٥) الغيبة المرحوم النعماني: ٢٩٧.
(١٦) الصحيفة المهديّة: ٦١٨.
(١٧) بحار الأنوار: ٣٧٨/٥٢ ح ١٨٤.
(١٨) الصحيفة المهديّة: ٦٢٠.
(١٩) الغيبة المرحوم النعماني: ١٥٠.
(٢٠) الغيبة الشيخ الطوسي رحمه الله: ١١١.
(٢١) إحقاق الحقّ: ١٥٢/١٣.
(٢٢) بحار الأنوار: ٣٧٤/٥٢.
(٢٣) التشريف بالمنن: ٢٩٩.
(٢٤) الغيبة الشيخ الطوسي رحمه الله: ١١٥.
(٢٥) بحار الأنوار: ٢٨٠/٥٢.
(٢٦) بحار الأنوار: ٣١٦/٥٢.
(٢٧) عجائب الحاسّة السادسة: ٥٤.
(٢٨) عجائب الحاسّة السادسة: ٥٨.
(٢٩) عجائب الحاسّة السادسة: ٦٥.
(٣٠) التشريف بالمنن: ٢٠٣.
(٣١) البحث حول نور الله، والمقام النّوراني لأهل الوحي والرّسالة (عليهم السلام)، من البحوث المهمّة ولكن مع الأسف الشّديد فإنّ مجتمعاتنا غافلة عن ذلك، وبعيدة كلّ البُعد عنه، ولابدّ من القيام ببحوث واسعة وشاملة الغرض والهدف منها التعريف به.
(٣٢) سورة الشّورى، الآية ٢٩.
(٣٣) سورة الجاثية، الآية ٤.
(٣٤) سورة الأنعام، الآية ٣٨.
(٣٥) الأسئلة العجيبة، والأجوبة الأعجب: ٩٨/٢.
(٣٦) يحصل هذا في بداية الظّهور وبعد استقرار الحكومة الإلهيّة وتشكيل المجتمع الموصوف بالعدالة والإنصاف، فلا مجال للاختلاف والحاجة إلى القضاء.
(٣٧) اثنا عشر مثلاً فارسياً: ٦٠.
(٣٨) نهج البلاغة، قصار الحكم ٢١١ ص ١١٨٤.
(٣٩) مستدرك الوسائل: ٣٦٦/١٧.
(٤٠) بحار الأنوار: ١١/١٤.
(٤١) «خميس» تأتي بمعنى الحرب، و«شرطة الخميس» يقال إلى أشخاص معيّنين، والأصبغ بن نباتة كان من هؤلاء. وسأل منه: لماذا يقال لكم «شرطة الخميس»؟ فقال: لقد شرط علينا أمير المؤمنين (عليه السلام) أن نقاتل في مقدّمة الجيش ووعدنا بالفتح والنصر. (بحار الأنوار: ١١/١٤)
(٤٢) بحار الأنوار: ٢٥٩/٤٠.
(٤٣) سورة النمل، الآية ١٥.
(٤٤) سورة الأنبياء، الآية ٧٩.
(٤٥) سورة ص، الآية ٢٦.
(٤٦) بحار الأنوار: ١٠/١٤، وشبيه هذا موجود في وسائل الشيعة: ١٦٧/١٨.
(٤٧) يمكن الرّجوع إلى: «بحار الأنوار: ٦/١٤».
(٤٨) يمكن الرّجوع إلى: بحار الأنوار ٧/١٤، ونقلت في «مستدرك الوسائل: ٣٦١/١٧» هذه الموارد على شكل رواية واحدة.
(٤٩) بحار الأنوار: ٥٦/٥٢.
(٥٠) بحار الأنوار: ٥٧/٢٥.
(٥١) بحار الأنوار: ٥٦/٢٥.
(٥٢) بحار الأنوار: ٢٦٥/٢٦.
(٥٣) بحار الأنوار: ٣٢٠/٥٢.
(٥٤) بحار الأنوار: ٢٥٦/٤٦.
(٥٥) بحار الأنوار: ٣٢٠/٥٢ و٢٦٤/٥٠ و٣١/٩٥ و٦٦، مستدرك الوسائل: ٣٦٤/١٧.
(٥٦) بحار الأنوار: ٨٦/٢٣ و١٧٧/٢٦ و٣٢٠/٥٢، مستدرك الوسائل: ٣٦٤/١٧. نقلت هذه الرّواية في «وسائل الشيعة» عن أبي عبيدة عن الإمام الباقر (عليه السلام).
(٥٧) بحار الأنوار: ٣٢٠/٥٢، وسائل الشيعة: ١٦٨/١٨، مستدرك الوسائل: ٣٦٤/١٧.
(٥٨) بحار الأنوار: ٢٨٦/٥٢ و٣٦٩، وجاء قسم منها في «مستدرك الوسائل: ٣٦٥/١٧».
(٥٩) بحار الأنوار: ٣١٩/٥٢.
(٦٠) سورة الحجر، الآية ٧٥ و٧٦.
(٦١) بحار الأنوار: ٣٣٩/٥٢، وجاء قسم منها في «ج: ١٤/١٤».
(٦٢) سورة آل عمران، الآية ٣٤.
(٦٣) بحار الأنوار: ٣١٣/٣٦.
(٦٤) كمال الدّين: ٦٧١.
(٦٥) بحار الأنوار: ١٧٧/٢٦.
(٦٦) الغيبة المرحوم النعماني: ٣١٩.
(٦٧) بحار الأنوار: ٣٤٥/٥٢.
(٦٨) أظهر البعض أنّ مجموع أصحاب الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) من النّساء والرّجال هم ثلاث مائة وثلاثة عشر شخصاً. وهذا الرّأي عار عن الصحّة؛ حيث أنّ هناك عدد من النّساء من بين أصحابه (عجّل الله تعالى فرجه)، ولكنّهنّ لا يدخلن ضمن دائرة الثلاث مائة وثلاثة عشر الّذين يحكمون العالم بعد استقرار الحكومة الإلهيّة العادلة.
إنّ الّذي يوجب وقوع هؤلاء في هذا الخطأ، هو أنّ أكثر الرّوايات الّتي جاءت حول أصحاب الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) لم تأت ولم تقيّد بلفظ «رجلاً»؛ بل هي مطلقة، ولكن هناك قرائن في بعض الرّوايات الأخرى - مثل الرّواية الّتي نقلناها - توضح أنّ جميع هؤلاء هم من الرّجال، ومع ذلك فإنّ هناك نساء في نفس المرتبة المعنويّة لبعض من أصحاب الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) الثلاث مائة وثلاثة عشر.
(٦٩) يجب الالتفات بدقّة إلى أنّ التّكاثر وطلب الزّيادة ليس منحصراً في الأموال؛ بل يشمل جميع مظاهر طلب الزّيادات، والّتي هي عوامل مهمّة في حدوث مختلف الجرائم والخيانات، وتتضمّن الزّيادات في المناصب والشّهرة والشّهوات و....
(٧٠) اثنا عشر ألف مثل فارسيّاً: ٤٣٢.
(٧١) بحار الأنوار: ٣٤٥/٥٢.
(٧٢) جاء جزء من هذه الرّواية في كتاب «عقد الدرر: ٢٢٦»، ونُسبت إلى الإمام الحسين (عليه السلام) كما أنّ غيرها من روايات الإمام الصادق (عليه السلام) نسبت إلى الإمام الحسين (عليه السلام). مثل الرّواية المعروفة: «لو أدركته لخدمته أيام حياتي». والسبب وراء ذلك هو اشتراك كنية الإمام الصادق (عليه السلام) مع كنية الإمام الحسين (عليه السلام) والّتي هي «أبو عبد الله»، وظنّ مؤلّف كتاب «عقد الدرر» أنّ المقصود من «أبي عبد الله» هو الإمام الحسين (عليه السلام).
(٧٣) الغيبة المرحوم النعماني: ١٥٠.
(٧٤) الإحصائيّات تكشف: ١٩٠.
(٧٥) الأمم المتّحدة: وصل عدد العاطلين عن العمل في العالم إلى مليار و٨٠٠ مليون نسمة، وازداد العدد إلى ٢٠ مليون شخصاً قياساً إلى السّنة الماضية، وطبقاً للإحصائيّة الّتي نشرها البنك العالمي فإنّ عدد العاطلين في منطقة الشّرق الأوسط وحدها وصل إلى ٤٧ مليون شخص. (الإحصائيّات تكشف: ١٨٧).
(٧٦) مجلّة الزراعة: ص ٣٦، شهريور ٨٣، رقم ٢٩٧.
(٧٧) تضاعف الخرج المعيشي في إيران ليصبح في العشرين سنة الأخيرة إلى ١٠٠ مرّة في الوقت الّذي ازدادت الأجرة إلى ٥٥ ضعفاً.
وعلى هذا الأساس والخطّ البياني الّذي أعلنه البنك المركزي لخطّ الفقر (فإنّ شخص دخله الشّهري أقلّ من ١٨٥ ألف تومان فهو فقير) ويعاني ١٥% من المواطنين في إيران من الفقر المطلق، و٤٥% من الفقر النّسبي، وكذلك فإنّ المصاريف الواقعيّة للغذاء الّذي تحصل عليه العوائل الّتي تسكن في المدن قد قلّ أكثر من ٤٣% في العقدين الأخيرين. (الإحصائيّات تكشف: ٨٢)
(٧٨) يمكن الرّجوع إلى جريدة عالم الاقتصاد: ٤ آبان سنة ١٣٨٣ ص ٤، وجريدة المال: ٤ آبان ١٣٨٣ ص ٤.
(٧٩) الإحصائيّات تكشف: ١٩٠.
(٨٠) التشريف بالمنن: ١٤٩.
(٨١) سورة الأعراف، الآية ٩٦.
(٨٢) بحار الأنوار: ٦٣/٥٣.
(٨٣) إنّ واحدة من المعطيات والنّتائج المترتّبة على عدم وجود التّقوى في المجتمع، هي حالة الإسراف والبذخ الّتي من شأنها منع أو تقليل البركات الإلهيّة، ومع الأسف فإنّ هذه الحالة متفشيّة في جميع أنحاء العالم، وليس هناك أيّ حلّ لاستئصالها.
اُنظر إلى هذا الخبر والّذي أخذناه كصورة مصغّرة:
رئيس مركز التّحقيقات للصناعات الغذائيّة في إيران: مع رمي أكثر من ٢٠ مليون طن من المحصولات الغذائيّة، يكون سبباً في ضياع طعام أكثر من ١٥ مليون شخص.
معاون وزير التّجارة الإيراني: يهدر سنويّاً ما يقارب مليوني طن من الحنطة بقيمة ٣٠٠ مليون دولار (ما يعادل ٢٤٠٠ مليون تومان).
معاون التخطيط الإداري والمالي لمحافظة «كيلان» (إحدى محافظات إيران الشّماليّة): يرمى من الخبز سنويّاً ما يعادل ميزانيّة بناء ٨٠ مكتبة قرويّة في المحافظة.
ويتلف في كلّ سنة الفرد الإيراني ٥٠ كيلو غراماً من الخبز، في الوقت الّذي يكون هذا المقدار كافياً لسدّ الحاجة الغذائيّة لأكثر من دولة في العالم.
وهل تعلم أنّ الخبز الّذي يرمى يوميّاً في بلدنا يكفي لإشباع ١٥ مليون جائع؟! وهل تعلم أنّنا إذا استطعنا بالفعل من إيجاد نوع من التّوازن في تناول الخبز فهذا يغنينا من استيراد الحنطة وشراءها من الدّول الأجنبيّة؟! وهل تعلم أنّ إيران هي الدّولة الثّانية في العالم من ناحية تناولها الخبز والثالثة من ناحية الإسراف به؟! حيث تجمع بلديّة طهران العاصمة وحدها ما يقرّب يوميّاً ٨٥ طن منه. (الإحصائيّات تكشف: ٨٣)
وهذا كلّه يحصل بسبب هيمنة التّقوى وسريانها في جميع مفاصل الحياة، وزوال عوامل الإسراف واختفاء المعاصي وتقسيم البركة الإلهيّة على الجميع من دون استثناء يذكر، ويذهب الفقر والعوز والحاجة بدون رجعة، وتصبح تلك الاُمور أثر بعد عين.
(٨٤) سورة الشّورى، الآية ٢٣.
(٨٥) بحار الأنوار: ١٦٥/٧٤.
(٨٦) التشريف بالمنن: ٣٢٢، عقد الدرر: ٢١٩، إحقاق الحقّ: ١٤٦/١٣، وجاء نظيرها في بحار الأنوار: ٩٢/٥١.
(٨٧) التشريف بالمنن: ١٤٧.
(٨٨) التشريف بالمنن: ١٤٦.
(٨٩) بحار الأنوار: ٣٠٤/٥٢.
(٩٠) بحار الأنوار: ٣٤/٥٣.
(٩١) الغيبة المرحوم النعماني: ٢٣٧ الباب ١٣ ح ٢٦، نوادر الأخبار: ٢٧٥، ونظيره في بحار الأنوار: ٢٩/٥١.
(٩٢) بحار الأنوار: ٣٣٥/٥٢.
(٩٣) الغيبة المرحوم النعماني: ٣١٧.
(٩٤) منظمة الصّحّة العالميّة: يعيش في الوقت الحاضر أكثر من ٤٥ مليون شخص أعمى يتوزّعون في مختلف أنحاء العالم، ويضاف إليهم سنويّاً مليون إلى مليونين شخص آخر. (الإحصائيّات تكشف: ٢٠٢)
(٩٥) بحار الأنوار: ٦٢/٥٣.
(٩٦) العقل المفكّر للعالم الشيعي: ٣٨٧.
(٩٧) أعلن صندوق البنك العالمي للبيئة ونقلته وكالة أنباء «إيسنا» أنّ حدود ٨٠٠ ألف شخص في العالم يموتون جراء تعرّضهم للأمراض التّنفّسية وتلوث البيئة، وأنّ ٥٠٠ ألف منهم يسكنون في القارّة الأسيويّة.
مدير التلوث البيئي في وزارة الصّحّة: يموت سنويّاً ٨/٢ مليون شخص في العالم نتيجة تلوّث البيئة والعيش في أماكن مغلقة.
تقرير صادر عن منظمة الصّحّة العالميّة: أنّ ٢٠٠ ألف حالة من ٣ ملايين حالة وفاة تحصل بسبب الأمراض النّاشئة من تلوث البيئة في الهواء الطلق. وأنّ ٩٠% من حالات الموت الحاصلة في الدّول النّامية نتيجة التّلوث البيئي في الأماكن المغلقة. (الإحصائيّات تكشف: ٢٠١)
(٩٨) تمّ الإعلان مؤخّراً أنّ في إيران وحدها يحدث فيها سنويّاً ٥٥ خطأ طبّياً فادحاً، حيث أنّ عشرة آلاف وخمس مائة منها تؤدّي إلى الموت، و٢٣ ألفاً منها تنجر إلى حدوث نقص في الأعضاء. (الإحصائيّات تكشف: ٧٢)
(٩٩) أحد أساتذة جامعة مون بليه (فرنسا): عرف إلى الآن حدود ٣٥٠٠ مرض يصيب الإنسان بقى الطبّ الغربي الجديد عاجزاً عن تقديم العلاج المناسب لها. (الإحصائيّات تكشف: ٢٠٥)
(١٠٠) مجلّة العالم: سنة ١٣٨٣ العدد ٤٩٢ صفحة ٢٥.
(١٠١) كليك رقم ٣١: صفحة ٨، الضميمة الملحقة في جريدة «جام جم»، عدد ١٣٣٥، الصّادرة في يوم الأحد، ١٣ شهر دي، سنة ١٣٨٣.
(١٠٢) حكيم رقم ٥٩: صفحة ٢، الضميمة الملحقة في جريدة «جام جم» الإيرانيّة الصادرة في يوم الثلاثاء ١٥ شهر دي سنة ١٣٨٣.
(١٠٣) الثقوب السوداء Black hole هي أجسام موجودة في الفضاء لشدّة كثافتها تمتلك جاذبيّة عالية تمتصّ بها كلّ شيء حتّى النّور والضّوء، وتدور الثّقوب السّوداء حول نفسها بسرعة كبيرة جدّاً تعمل فيها كعمل النّفق الفضائي وعند الدخول فيه (من النّاحية النّظريّة طبعاً)، فإنّها ستنقله من نقطة إلى أيّ نقطة أخرى بالعالم سواء كان إلى الماضي السّحيق أم إلى المستقبل البعيد. (العالم في ٥٠٠ سنة مقبلة: ٦٠١)
(١٠٤) بعد كشف الإكوازرات ظهرت نظريّة جديدة تقول: أنّ كلّ المجرّات الّتي تراها العين البشريّة هي أجرام خارجة عن حدود العالم، وأنّ حدود العالم تبدأ من الإكوازرات الّتي أشرنا إليها بفاصلة عن الأرض تقدر بتسع آلاف مليون سنة ضوئيّة، وبما أنّ تلسكوباتنا البشريّة لا تستطيع أن تصل إلى أبعد من تلك المسافة وهي التسعة آلاف سنة ضوئيّة، لذلك فإنّنا لانعرف ما يدور في ما وراء تلك الحدود.
وطبقاً لهذه النّظريّة فإنّه يوجد هناك ألف مليون مجرّة وكلّ واحدة منها تحتوي على عشرات الألوف المليونيّة من الشّموس الّتي ترصدها تلسكوبات البشر هي ليست في حدود عالمنا هذه وإنّما هي أجرام منتشرة هنا وهناك واقعة خارج العالم، وأنّ العالم الحقيقي يبدأ من تلك الإكوازرات؛ حيث أنّ تلك الإكوازرات لو لم تكن هي الأساس لما كان نورها أكثر من شمسنا بعشرة آلاف ملياردات المرّات.
ففي شمسنا هذه فإنّها ولأجل أن تنتج لنا النّور الّذي تحتاجه حياتنا في الأربعة وعشرين ساعة يتفكّك أو يتركّب ما يقارب الأربع مائة مليارات طن من الهيدروجين، وأنّ احتياج الإكوازرات لاستهلاك الطاقة عشرة آلاف مليار طن في مقابل نور الشّمس، (هذا طبعاً إن لم يكن إنتاج الطّاقة في الإكوازرات ناتج عن تفكّك وانفجار المادّة ونقيضها).
وفي عمليّة حسابيّة بسيطة، علينا أن نضرب الأربعة مائة ملياردات في عشرة آلاف مليار، ليتبيّن لنا كم هو مقدار الطّاقة الّتي تستهلك من الهيدروجين في أربعة وعشرين في الإكوازرات، فنحصل على العدد الأربعة وعلى يمينه سبعة وعشرين صفر، حيث لا يمكن لنا لفظ مقدار ذلك العدد.
ولكن يمكننا القول أنّ الإكوازرات قاعدتها تكون كالتالي: أنّ كلّ إكوازار يصرف في الأربعة وعشرين ساعة ما يعادل عشرة آلاف مليار مرّة أكثر من استهلاك الطّاقة في الشّمس.
وعليه فإنّ الدّنيا الحقيقيّة تبدأ حدودها من تلك الإكوازرات، وبما أنّ التلسكوبات البشريّة لا يمكنها الوصول أو معرفة حقيقة ما وراء تلك الإكوازرات، فإنّ المنجّمين وعلماء الفلك لا يعرفون سعة ذلك العالم الّذي يبدأ من إكوازار، ولا يمكنهم حتّى تقدير وتخمين الأمر وكم يتملّك من الشموس، فضلاً عن تقليد أرخميدس وإدينكتون في محاولاتهم لحساب ذرّات المادّة الموجودة في العالم أجمع. (العقل المفكّر للعالم الشيعي: ٣٦٧)
فهل أنّ هذه الإكوازرات الّتي تبعد عن الأرض بمقدار تسعة آلاف مليون سنة ضوئيّة، هل هي بداية العالم أم أنّها واقعة في وسطه أم أنّها نهايته؟
وشمسنا هذه الّتي تعتبر كمصباح خاوٍ بالنسبة إلى تلك الإكوازرات فإنّها، ولأجل أن تؤمن الضّوء والدفء والحرارة لسيّارتنا تحتاج إلى أربعة مائة مليار طن من الهيدروجين في أربعة وعشرين ساعة لكي تبدّله إلى الهليوم وأنّها لن تنطفئ قبل عشرة مليارات سنة.
فإن كان عمر هذه الشّمس بهذا المقدار، فهل يمكن لنا أن نستطيع تقدير عمر تلك الإكوازرات بحسب التخمين. وفي مقايسة بسيطة لعمر الإكوازرات الّتي تبعد عن شمسنا بتسعة آلاف مليون سنة ضوئيّة عن الأرض، يمكن القول بأنّها كانت موجودة من ألف مليارد سنة، فهو أكثر بألف مليار، وبما أنّ العالم يحتوي على شموس أخرى كشموسنا الّتي سوف تنطفئ بعد عشرة مليارات سنة، لابدّ لنا وبحكم العقل والمنطق أن نصدق بأنّنا لا نعيش في دنيا واحدة بمفردنا، بل يوجد هناك عوالم أخرى في هذا الكون الواسع الرّحيب. (العقل المفكّر للعالم الشيعي: ٣٦٥)
(١٠٥) بحار الأنوار: ٣٣٦/٥٢.
(١٠٦) بحار الأنوار: ٣٥٠/٦٧.
(١٠٧) بحار الأنوار: ٣٧٢/٥٢.
(١٠٨) أصول الكافي: ١٧٣/١، بحار الأنوار: ٢٥٤/٧٤.
(١٠٩) بحار الأنوار: ٦/٧٨.
(١١٠) بحار الأنوار: ٦/٧٨.
(١١١) بحار الأنوار: ٦/٧٨.
(١١٢) سورة الزّمر، الآية ٢٢.
(١١٣) بحار الأنوار: ٥١/٧٠.
(١١٤) كان «هالو» في الظّاهر شخصاً عاديّاً يعمل في مدينة أصفهان، ولكنّه في الحقيقة أحد أتباع الإمام صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه، حيث كان الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) يكلّفه للقيام ببعض الأعمال والوظائف.
(١١٥) بحار الأنوار: ٥٣/٧٠.
(١١٦) سورة البقرة، الآية ٣.
(١١٧) كلزار أكبري: ٣٥٨.
(١١٨) تاريخ الكوفة: ٧٢.
(١١٩) تاريخ الكوفة: ٧٣.
(١٢٠) تاريخ الكوفة: ١١٢.
(١٢١) إنّ السّبب وراء تلك الأمور غير الطبيعيّة الّتي كانت تشاهد عند المرحوم السيّد بحر العلوم، جاءت نتيجة التّحوّل الحاصل من أثر تشرّفه بلقاء صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه). ففي ذلك اللّقاء حضن الإمام أرواحنا فداه السيّد وأخذه بأحضانه الأبويّة، فتولّدت تلك الحالات العظيمة فيه.
غير أنّ المرحوم المحدّث النّوري (ينقل غير ذلك) يقول: حدث بعض الثّقات: إنّ المرحوم قال: حصلت هذا المكاشفات بسبب تناولي ذلك الأكل القليل الباقي من صحن خمسة أهل الكساء صلوات الله عليهم أجمعين.
وبنى السيّد ذلك من خلال الرّؤية الّتي شاهدها وخلاصتها: إنّني رأيت هؤلاء الأطهار (عليهم السلام) في المنام، وشاهدت أمامهم صحناً فيه حساء يحوي جميع الحبوبات، فدخلت وسلّمت وبعد ردّهم السّلام قالت جدّتي: ولدي مهدي؛ هل لك رغبة في تناول هذا الحساء؟
فقلت: بلى؛ فقربت الصّحن ووضعته أمامي فلم أشاهد شئياً فيه، فجمعت بقيّة الأكل الموجود فيه وأكلته، والّذي تشاهدوه منّي عائد لذلك الموضوع. (كلزار أكبري: ٣٥٨)
(١٢٢) بناءً على الرّوايات والأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) إنّ الله سبحانه وتعالى يخفي أولياءه بين عباده، ولكن حينما يصل عصر الظّهور العظيم ويُعرف الأتباع والأصحاب الخلّص للإمام صاحب العصر والزّمان أرواحنا فداه وتظهر قدراتهم العظيمة إلى الأمّة حتّى في زمان الغيبة، فسيعلم الجميع حينها كيف أنّ قادة ذلك العصر المتألّق ومع وجود كلّ تلك الطاقات والقدرات بقوا مجهولين وغير معروفين في أوساط النّاس.
(١٢٣) جريدة خبر الاُسبوعيّة، ٢٥ ارديبهشت سنة ١٣٧٦ ش.
(١٢٤) أصول الكافي: ٢٠/١.
(١٢٥) إنّ المقصود من الجهل الوارد في الرّواية، هو النّفس لا الجهل المتعارف؛ باعتبار أنّ الجهل الّذي معناه عدم المعرفة والاطّلاع هو واحد من جنود النّفس الوارد في الرّواية.
(١٢٦) تعرّف على قدراتك: ١٤.
(١٢٧) تعرّف على قدراتك: ٣٢.
(١٢٨) تعرّف على قدراتك: ١٧.
(١٢٩) نسخة عطّار: ١٣٤.
(١٣٠) تعرّف على قدراتك: ٣٤٧.
(١٣١) العودة إلى النّجوم: ٧٦.
(١٣٢) عندما حرّك الباحث المشهور في دماغ الإنسان «و.ج بنفيلد» منطقة من المخّ بواسطة الكهرباء، فقد تذكّر المريض جميع الجزئيّات المتعلّقة بالحقبة الماضية. (تعرّف على قدراتك: ١٢١)
(١٣٣) في السّنوات الماضية أحدث العالم الرّياضي والسّبراني المعاصر «يوهان فون نيومن» ضجّة كبيرة بين أوساط النّاس حين ذكر أنّ دماغ الإنسان يتمكن عملاً من حفظ ١٠٢٠ خليّة معلوماتيّة. وهذا الرّقم إذا ترجمناه بلسان بسيط سيكون معناه: إنّ كلّ واحد منّا يستطيع حفظ جميع المعلومات الموجودة في ملايين الكتب المحفوظة في أكبر مكتبة في العالم والواقعة في العاصمة الروسيّة موسكو. (تعرّف على قدراتك: ٤٤)
(١٣٤) تعرّف على قدراتك: ٤٥.
(١٣٥) تعرّف على قدراتك: ٤٦.
(١٣٦) تعرّف على قدراتك: ٥٣.
(١٣٧) تعرّف على قدراتك: ٥٤.
(١٣٨) تعرّف على قدراتك: ٥٦.
(١٣٩) كليك رقم ٣١ (ملحق جريدة جام جم): صفحة ٩.
(١٤٠) كليك رقم ٣١ (ملحق جريدة جام جم): صفحة ٩.
(١٤١) كليك رقم ٣١ (ملحق جريدة جام جم): صفحة ٩.
(١٤٢) يجب الدّقّة في قضيّة وهي: إنّ عصر الظّهور والخلاص هو عصر أتباع الإنسانيّة جمعاء أهل البيت (عليهم السلام) والانصياع الكامل إليهم.
(١٤٣) بحار الأنوار: ٦٣/٥٣.
(١٤٤) الغيبة الشيخ الطوسي رحمه الله: ٢٧٥.
(١٤٥) إحقاق الحقّ: ٣٤٩/١٣، من ينابيع المودّة: ٤٢٢.
(١٤٦) سورة النصر، الآية ١ و٢.
(١٤٧) بحار الأنوار: ٣٠/٥١، الإرشاد: ٣٤٤، أعلام الورى: ٤٦١، نوادر الأخبار: ٢٧٢.
(١٤٨) مصباح الزائر: ٤١٠، بحار الأنوار: ٦٧/١٠٢، الصحيفة المباركة المهديّة: ٦١٤.
(١٤٩) بحار الأنوار: ٣٠/٥١.
(١٥٠) بحار الأنوار: ٣٣٨/٥٢.
(١٥١) بحار الأنوار: ٢٤٢/٢.
(١٥٢) بحار الأنوار: ١٨٤/٢.
(١٥٣) إشارة إلى الحديث الشّريف: «النّاس معادن كمعادن الذّهب والفضّة».
(١٥٤) بصائر الدرجات: ٢٨، بحار الأنوار: ١٩٦/٢.
(١٥٥) الغيبة الشيخ الطوسي رحمه الله: ١٧٦.
(١٥٦) كمال الدّين: ٦٤٧.
(١٥٧) سورة الذّاريات، الآية ٥٦.
(١٥٨) بحار الأنوار: ٣١١/٥٢.
(١٥٩) إن النّبيّ إلياس هو واحد من الأنبياء الأربعة الموجودين على قيد الحياة، وهو من أنصار وأعوان الإمام المهدي أرواحنا فداه في عصر الغيبة وعصر الظّهور.
(١٦٠) بحار الأنوار: ٣٦٤/٤٦.
(١٦١) الصحيفة المهديّة: ٥٧١.
(١٦٢) سورة الأنبياء، الآية ١٠٥.
(١٦٣) بحار الأنوار: ٤٦٥/٩٥.
(١٦٤) مصباح الشّريعة: ٩.
(١٦٥) بحار الأنوار: ٥٩/٧٠.
(١٦٦) الصحيفة المهديّة: ٩٣.
(١٦٧) سورة الرّعد، الآية ٢٨.
(١٦٨) مصباح الشّريعة: ٩.
(١٦٩) بحار الأنوار: ٣٣٦/٥٢، مختصر البصائر: ٣٢٠، نوادر الأخبار: ٢٧٨، وفي الخرائج: ٨٤١/٢ مع اختلاف قليل.
(١٧٠) إذا عملنا بظاهر الرّواية سيكون تطوّر العلم محصور بالمقدار الّذي قلناه، ولكن إذا وجّهنا الرّواية ودعمناها، فلا يمكن مقارنة ومقايسة مجموع العلوم والمعرفة في عصر الغيبة وحتّى انتهاءها مع العلم والمعرفة في عصر الظّهور.
(١٧١) يمكن الرّجوع إلى: «شرح دعاء السّمات: ٤١» للمرحوم آية الله السيّد علي القاضي.
(١٧٢) سورة لقمان، الآية ٢٧.
(١٧٣) بحار الأنوار: ١٦٦/٥٠.
(١٧٤) بحار الأنوار: ٢٢/٦ و٢٧٨/٩٣.
(١٧٥) مصباح الزائر: ٤٣٧، الصحيفة المهديّة: ٦٣٠.
(١٧٦) بحار الأنوار: ٣٧/٩٤، الصحيفة المهديّة: ٥٧١.
(١٧٧) سورة يونس، الآية ٣٥.
(١٧٨) كمال الدّين: ٦٨٠، أصول الكافي: ٢٠٢/١.
(١٧٩) الغيبة الشيخ الطوسي رحمه الله: ١٤٧.
(١٨٠) بحار الأنوار: ٢١/٤٤ و٢٨٠/٥٢.
(١٨١) لا شكّ في أنّ من بين ٨٦٠٠٠ ألفاً من الطّيور فإنّ النّعامة الإفريقيّة هي أكبرها وأطولها، ولكن هذا الحيوان لا يستطيع الطيران، لأنّ وزنه المتوسّط هو ١٣٥ كيلو وطوله ٢/٤٠ م.
وحسب المعلومات الدقيقة فإنّ الغراب هو أطول الطّيور عمراً على وجه الأرض، ومن بعده الغراب البحري. وأطول غراب أهلي عاش لمدّة ١٠٨ سنوات، وأطول غراب بحري عاش لمدّة ٤٤ سنة. «دائرة المعارف (١٠٠١ نقطة جذّابة): ٢٦٣»
(١٨٢) كتاب الأسبوع: ص ٢٢، السّبت ١٧ شهر بهمن ١٣٨٣ ش، الرقم المتسلسل ٦١١.
يكتب أحد المحقّقين الّذي حقّق وبحث عن الفراشات: إنّني عملت على كتابي هذا تسع سنوات، حيث أخذت كامرتي في يدي منذ سنة ١٣٧٣، وتجوّلت في الأنحاء المختلفة من إيران، وكان أكثر سنواتي هي إكتشافيّة وكان معي طلبتي الجامعيين، وتمكّنت من إصطياد الأنواع والأشكال المختلفة منها في البساتين والمزارع والحقول والجبال، والتّعرّف عليها وبالضّمن إستفدت من المتاحف الّتي جمعت هذه الفراشات والمصادر الأجنبيّة لأجل تكميل موضوع هذا الكتاب.
إنّ الفراشات ومع كلّ الجمال الّذي تحمله، فإنّها تحسب وخلافاً لما نعتقده نحن إنّها مظلومة فهي من أكثر الحيوانات ضرراً، فإنّها ومن خلال طيرانها تتلف الكثير من المحاصيل الزّراعيّة، وبالتّالي تؤدّي إلى إيجاد المجاعة والقحط وانتشار مختلف الأمراض، وبالنتيجة قتلها آلاف بشر.
(١٨٣) كلزار أكبري: ٦٢٦.
(١٨٤) عجائب الخلق: ٢٠.
(١٨٥) إذا تمّ التّطرّق والبحث عن الخصائص الكثيرة للإمام (عجّل الله تعالى فرجه) بالشّكل الصحيح والمطلوب، فستظهر على السّاحة الكثير من الكتب القيّمة والمفيدة في هذا المضمار.
(١٨٦) الصحيفة المهديّة: ٥٦٧.
(١٨٧) سنة ٢١٠٠ وصف القرن المقبل: ١٩/٢.
(١٨٨) تاريخ الإنسان المجهول: ١١.
(١٨٩) سورة المؤمنون، الآية ١٤.
(١٩٠) بحار الأنوار: ٣٩١/٥٢.
(١٩١) الصحيفة المهديّة: ٩٨.
(١٩٢) لا شكّ في أنّ هناك تغيّرات وتحوّلات ستطرأ على جسم وروح الإنسان في عصر الظّهور المتنوّر، وهذا الموضوع يضع تأثيراته بشكل مباشر على حاسّة النّظر عند الإنسان، وهذا الأمر ليس بغريب؛ فإنّ التاريخ يحدثنا عن أشخاص كانوا يتمتّعون بقوّة باصرة عظيمة.
ومن تلك الشّخصيّات هو أبو علي سينا. وينقل عنه أنّه قال: «حينما شاهدت عطارد كان الوقت مقارناً للشّمس على الشّمس مثل الشّامّة الّتي هي على وجه شخص، فعلى الرّغم من أنّ عطارد كان في الفلك الثّاني والشّمس في الفلك الرّابع، ولكن بما أنّه حصلت مقارنة، أيّ أنّهم إجتمعا في برج واحد في دقيقة واحدة، لذا فإنّ الحالة أصبحت مثل النّقطة السّوداء على الشّمس». (كلزار أكبري: ٣٨٣)
وجاء في كتاب «قصص العلماء» عن قوّة باصرته: لقد كانت قدرته على النّظر حادّة وكبيرة بحيث أنّه كان يرى الذّبابة من بعد أربعة فراسخ، فمثلاً ينقل عنه أنّه دخل يوماً في مجلس السّلطان فرأى ناظوراً، فسأل الشّيخ: لماذا هذا النّاظور هنا؟
فقال السّلطان: أنّ هناك شخصاً يبعد عنّي أربعة فراسخ أريد أن أعرفه؟
فقال الشيخ: إنّ هذه المسافة لا تحتاج إلى ناظور. فوجّه الشّيخ نظره إلى صوب الجهة الّتي كان يتواجد فيه ذلك الرّجل فقال: إنّ الرّاكب القادم هو على الهيئة الكذائيّة، وله ملابس بلون كذا، وحصانه هو كذا، وأنّه يقوم في الوقت الحاضر بأكل بعض الحلويّات.
فقال السّلطان: إنّ الحلويّات هي من المطعومات وليست المرئيّات فكيف علمت ذلك؟
فقال أبو علي: إنّني أشاهد الكثير من الذّباب تطير حول فمه، وهذا دليل على أنّه يأكل الحلويّات. ولمّا وصل الشّخص سألوه فأجاب كما قال الشّيخ، وجاءت جميع الأوصاف الّتي ذكرها مطابقة للوصف من حيث الهيئة والثّياب ولون الحصان.
وأيضاً حسب قول الشّيخ: إنّ الراكب كان يأكل الخبز اليابس وكانت قطعات منه عالقة بين لحيته وشاربه، وبعد التّحقيق والسّؤال من الشّخص كان صحيحاً ما قاله الشّيخ أبو على. (كلزار أكبري: ٣٨٢)
ولم يخل زماننا الحاضر من هكذا الأشخاص الّذين قدرة نظرهم قويّة حادّة، وإليك نموذجاً منهم:
هناك امرأة تسمّى «هيجمن» قادرة على رؤية أقمار المشتري من مسافة ٢٦٨ مليون كيلومتراً وبوضوح تامّ وبالعين المجرّدة، وأنّ كلّ ما تراه فإنّه يقع مورداً لقبول العلماء والفلكيّين، وأنّها قادرة كذلك على تعيين مقدار الخطوط البارزة على وجه حفيدها من مسافة ١٦٠٩ متراً، وأيضاً تقرأ الحروف الصّغيرة جدّاً من مسافة ثلاثة أمتار.
وانطلاقاً من هذا كلّه نقول: إنّ وجود هكذا أشخاص دليل على إمكانيّة تمتّع العين الإنسانيّة بقوّة باصرة قويّة وكبيرة، ولكن مع كلّ هذه الأوصاف فإنّ الّذي يقع في عصر الظّهور هو أكثر بكثير من هذا الكلام.
(١٩٣) بحار الأنوار: ٣٣٦/٥٢ ح ٧٢.
(١٩٤) مستقبل العالم: ٥.
(١٩٥) يمكن الرجوع في معرفة الآثار العجيبة للقمر إلى الكتب:
من الكتب القديمة: «كلزار أكبري»، تأليف المرحوم آية الله الشّيخ على أكبر النّهاوندي.
وأمّا الكتب الحديثة: فهو كتاب «فوق الطبيعة»، تأليف «ليال واتسن»، ترجمة شهريار البحراني وأحمد أرزمند.
(١٩٦) إشارة إلى الرّواية الّتي وردت عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والّتي قال فيها: «ما من علم إلاّ وأنا أفتحه والقائم يختمه».
(١٩٧) تاريخ الإنسان المجهول: ١٠٥.
(١٩٨) آية الكرسي، رسالة التّوحيد السماويّة: ٢١٣.
(١٩٩) جريدة كيهان: صفحة ٥ ٥ شهر شهريور ١٣٦٠ ش.
(٢٠٠) معالم الإنسان الكامل من وجهة نظر المذاهب: ٤٦٥.
(٢٠١) العلم، القدرة، العنف: ٨٧.
(٢٠٢) الضّمير اللاّواعي في علم النّفس: ٧٣.
(٢٠٣) الضّمير اللاّواعي في علم النّفس: ٧٩.
(٢٠٤) تاريخ الإنسان المجهول: ١٦٩.
(٢٠٥) تاريخ الإنسان المجهول: ١٧١.
(٢٠٦) يمكن الرّجوع إلى: الفكر، التنظيم، العمل: ٩٣.
(٢٠٧) العمل والجهل: ١٠٣.
(٢٠٨) يمكن الرّجوع إلى: العقل المفكّر للعالم الشيعي: ٣٠٢.
(٢٠٩) العقل المفكّر للعالم الشيعي: ٣٠٣.
(٢١٠) العالم في ٥٠٠ سنة مقبلة: ٢٤٠.
(٢١١) يمكن الرّجوع إلى: العقل المفكّر للعالم الشيعي: ٣٦٧.
(٢١٢) يمكن الرّجوع إلى: العقل المفكّر للعالم الشيعي: ٣٦٧.
(٢١٣) العقل المفكّر للعالم الشّيعي: ٣٦٢. لأجل المزيد من التعرف على الكويزارزات يمكن الرجوع إلى هامش ص ١١٠ من هذا الكتاب.
(٢١٤) مجلّة المعلومات العلميّة: سنة ١٩، رقم ٣، شهر دي ١٣٨٣ ش.
(٢١٥) مقدّمة علم النّفس والضّمير اللاّواعي: ٨٧، منقول عن العلم والتركيب: ٢٩.
(٢١٦) آينشتاين: ٢٧.
(٢١٧) آينشتاين: ٢٥.
(٢١٨) سورة الأسراء، الآية ٨٥.
(٢١٩) العلم، شبيه العلم والعلم المزيف: ٤٥.
(٢٢٠) طريق التّكامل: ٨٩/٥.
(٢٢١) العقل المفكّر للعالم الشيعي: ٣٤٤.
(٢٢٢) العقل المفكّر للعالم الشيعي: ١١٢.
(٢٢٣) لقد شكل الأعلام الّذي روّجه هؤلاء حول هذا الموضوع نقطة انعطاف كبيرة في حياة بعض الأشخاص، وأخذ بتأثيره السّاحر عليهم. فمن جملة الأشخاص الّذي خدعتهم جذابيّته هو الدكتور حسابي (وهو أحد أكبر العلماء الإيرانيين في القرن الحالي)، فقام وحجز غرفة له في أحد فنادق القمر. (ارجع إلى كتاب: أستاذ العشق)
في سنة ١٩٦٩ م وضع أوّل إنسان قدمه على القمر، واعتقد العلماء أنّه في غضون عدّة سنوات يستطيع من العيش فيه مثلما يعيش على الكرة الأرضيّة، ولكن بقي هذا الأمر حلماً وردياً يراوده، لما له من صعوبات جمة، فهو يحتاج إلى وقت طويل وشاقّ؛ حيث أنّ الحياة هناك مستحيلة، باعتبار عدم وجود الماء والهواء، واللّذان هما عاملان مساعدان على استمراريّة الحياة للحيوانات والنّباتات والبقاء حيّة فيه.
فعند النّهار يكون للقمر حرارة أكثر من حرارة الماء في درجة الغليان، وفي اللّيل يصبح حرارته أقلّ من ١٠٠ درجة مئويّة، يعني يصل إلى أكثر من نقطة الانجماد. والأنكأ من ذلك كلّه إنّ اللّيل والنّهار في القمر يعادل خمسة عشر يوماً من أيّام الأرض، فإذا وفق الإنسان في العيش على سطح القمر فيجب عليه ارتداء الملابس المخصوصة بالفضاء كي يحافظ على نفسه في مقابل الحرارة الشّديدة، ويجب عليه أيضاً أن يتّخذ بيوتاً مسقّفة ومغلقة المنافذ، والإتيان بكلّ شيء من الأرض حتّى الهواء. (عجائب الخلق: ٧٤)
ونظراً لوجود هذه الظروف الصّعبة على القمر، إذن؛ ما هي الأهداف المتوخاة من التّطبيل والتّزمير هذا لغرض حجز غرفة فيه؟!
(٢٢٤) لا شكّ في أنّ المظاهر والحوادث الغيبيّة للإمام بقيّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء في عصر الغيبة، لها جذابّيتها وبإمكانها أن تهدي وترشد النّاس إلى الثّقافة المهديّة، ولكن للأسف لم يؤلّف كتاب جامع وكامل حول هذا الموضوع كي يستفيد النّاس منه.
(٢٢٥) أعجب من الرّؤيا: ٣٥٦.
(٢٢٦) وبما أنّ شرح هذه الحادثة يطول ويبعدنا عن بحثنا الأصلي، لذا سوف نبيّنه في فرصة أخرى، وعلى شبابنا أن يعلموا جيّداً أنّ الدّول العظمى حينما تطرح خطط وأساليب وأعمال ومشاريع بواسطة عمّلائها، الغاية منها التّسلّط على رقاب الشعوب! ونهب ثرواتها، وعلى أيّ حال وبعد الفشل الّذي أصاب «آينشتاين» والدكتور «جساب» وعملائها الآخرين في هذا المشروع لم يتمكّنوا من تقديم المساعدة المطلوبة للولايات المتّحدة الأمريكيّة للحصول على القدرات فوق المادّيّة.
(٢٢٧) البحث عن عجائب العالم: ٢٣٠.
(٢٢٨) ألفان عالم يبحثون عن وجود الله: ١٣.
(٢٢٩) العالم في ٥٠٠ سنة مقبلة: ٤٩٤.
(٢٣٠) العالم في ٥٠٠ سنة مقبلة: ٥٢٠.
(٢٣١) نظرة على مصير العالم، الإنسان، التاريخ: ٢٧.
(٢٣٢) المفقودون في مثلّث برمودا: ١٩٢.
(٢٣٣) الصحن الطائر: ٢١٢.
(٢٣٤) العودة إلى النّجوم: ٤.
(٢٣٥) العالم في ٥٠٠ سنة مقبلة: ٤٢٦.
(٢٣٦) البحث عن عجائب العالم: ٢٧٩.
(٢٣٧) العالم في ٥٠٠ سنة مقبلة: ٢٧٩.
(٢٣٨) مجلة المعارف: صفحة ٤٢، سنة ٢٦، شهر مهر ١٣٨٣ ش، رقم التسلسل ٣٦٠.
(٢٣٩) تحليل حول آراء جابر بن حيّان: ٥٩.
(٢٤٠) بحار الأنوار: ١٦٥/٥٠ وشبيها في ج: ٢١٠/١٧.
(٢٤١) بحار الأنوار: ٣١٢/٥٢.
(٢٤٢) وكذلك فقد كان النّبيّ سليمان (عليه السلام) يجلس أصحابه على البساط ثمّ يصدر أوامره إلى الرّيح فيطير البساط مع جميع أفراده إلى السّماء، وهذه القصّة جاء ذكرها في القرآن الكريم.
(٢٤٣) بحار الأنوار: ٩١/٥٨.
(٢٤٤) بحار الأنوار: ٩٧/٥٨.

 

 

 

 

التحميلات التحميلات:
التقييم التقييم:
  ٢ / ٤.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016