الإجابة: بسم الله الرحمن الرحيم
النيابة العامة للمراجع عندنا بمعنى أن الإمام (عجّل الله فرجه) حدد وصفاً عاماً إذا توفر في شخص يصدق عليه أنه نائب عنه ومرجع تعود إليه الأمة لأخذ أحكام الدين والشريعة منه، وضرورة هذا المقام في عصر الغيبة الكبرى تفرضه الحقيقة التي يؤمن بها جميع المسلمين، وهي أن الشريعة والدين لا يموت بموت المعصوم (عليه السلام) ولا يغيب بغيبته عن الناس، وهذا معنى ما ورد في الحديث الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام): حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره. [الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص٥٨]، ومن هنا لا يناقش أحد من المسلمين في أن التكاليف الشرعية والالتزام بها ضرورة دينية على جميع الناس وأن الحساب يوم القيامة وترتب الثواب والعقاب مبني على الالتزام أو عدم الالتزام بذلك، ولا يُعذر أحد بتضييع تلك المسؤولية، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير معنى قوله تعالى: ﴿فَللّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ﴾ قوله: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه، وذلك الحجة البالغة. [الأمالي للشيخ المفيد: ص٢٢٨]
وللخلاص من عهدة هذه التكاليف وإبراء المكلف ذمته أمام الله تعالى، أمامه طريقان:
إمّا أن يكون عالماً بنفسه (كالمجتهد أو المحتاط) ويعرف ما يجب عليه وما يحرم عليه.
وإمّا أن يرجع إلى أهل الاختصاص وأهل الخبرة من علماء الدين ممن قضوا أعمارهم وأجهدوا أنفسهم في تحصيل ذلك، ليأخذ عنهم العلم والمعرفة، ولما كان الأمر الأول يتطلب جهوداً خاصة وتفرغاً تاماً للدرس والتحصيل قد يمتد لعشرات السنين، وهو بطبيعة الحال أمر لا يُتاح لكل أحد من الناس ويعسر عليهم الوصول إليه بسبب انشغالهم بطلب المعاش وكسب الرزق، فكان من الحكمة التي يفرضها الواقع الاجتماعي وتسالم العقلاء أن تختص فئة معينة بذلك دون الناس جميعاً، وقد أقر القرآن الكريم هذه الحقيقة وأمر بها كما في قوله تعالى: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وهذه الآيات وغيرها إنما تبتني على ذلك الأصل العقلائي العام والذي مؤداه رجوع غير العالم إلى العالم وهي حقيقة ماثلة نراها في جميع مجالات الحياة، وعليها ابتنت الحضارة الإنسانية التي أقرها الشارع المقدس وأمضاها، فالمريض يرجع إلى الطبيب، والتلميذ يتعلم من أستاذه، وهكذا كانت سيرة شيعة أهل البيت (عليهم السلام) مستقرة وثابتة حتى في زمن حضور المعصومين (عليهم السلام) في رجوعهم إلى الفقهاء والعلماء من أصحابهم، وهذه السيرة إنما أخذوها والتزموا بها بناء على توصيات الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم، فقد روى المفضل بن عمر: أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال للفيض بن المختار في حديث: فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس. وأومأ إلى رجل من أصحابه، فسألت أصحابنا عنه، فقالوا: زرارة بن أعين. [رجال الكشي لمحمد بن عمر الكشي: ج١، ص٣٤٧].
ونفس هذا المعنى رواه عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) فقلت: إني لا ألقاك في كل وقت، فعمن آخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن. [رجال الكشي لمحمد بن عمر الكشي: ج٢، ص٧٧٩].
وكذلك ما رواه أحمد بن إسحاق عن الإمام الهادي (عليه السلام) قال: سألته وقلت: مَن أعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي، فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع؛ فإنه الثقة المأمون. قال: وسألت الإمام العسكري (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال: العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثقتان المأمونان. [الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص٣٣٠].
وكذلك ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتعة؟ فقال: القَ عبد الملك بن جريح، فسله عنها، فإن عنده منها علماً. [الكافي للشيخ الكليني: ج٥، ص٤٥١]، والملاحظ في الرواية الأخيرة أن سبب إرجاع الإمام الصادق (عليه السلام) إلى عبد الملك بن جريح لا لشيء إلّا لتوفره على صفة العلم والفقاهة في تلك المسألة التي سأل عنها السائل.
ولما كانت الروايات السابقة جاءت كلها في سياق النيابة الخاصة والتي هي بمعنى إرجاع المعصومين (عليهم السلام) شيعتهم إلى أشخاص معينين وهي نفس الظاهرة التي اعتمدها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في تواصله مع الشيعة أيام غيبته الصغرى من خلال السفراء الأربعة، إذ كانت الأجوبة والاستفتاءات والتي عُرِفت في مصطلح الدراية (بالتوقيعات الشريفة) على يد هؤلاء النواب والناطقين باسمه الشريف، وهم: عثمان بن سعيد العمري، ثمّ ولده محمّد، ثمّ الحسين بن روح النوبختي، ثمّ علي بن محمّد السمري، وبموت السمري انقطعت النيابة الخاصّة بالتوقيع الصادر عن الإمام (عجّل الله فرجه): بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُريَّ أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أيام، فَاَجْمعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إلى أحد يَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الغَيْبَةُ الثانِيَةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْن اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأَمَدِ وَقَسْوَةِ القُلُوبِ وَامْتِلَاءِ الأرض جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي المُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَن ادَّعَى المُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص٣٩٥]
ولا يخفى أن الحكمة من النيابة الخاصة والغيبة الصغرى التي اعتمدها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) إنما كانت كمقدمة تمهد وتوطئ لغيبته الكبرى والتي سوف ينقطع فيها الاتصال المباشر بالإمام (عجّل الله فرجه)، وفي خلال ذلك تربى الشيعة عملياً واستوعبوا فكرة الغيبة التامة، ولم يؤثر ذلك سلباً في بقاء المذهب وديمومته، وفي خلال هذه الفترة كان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يُعدّ شيعته ويهيئهم للانتقال من مرحلة النيابة الخاصة إلى مرحلة النيابة العامة، وهذا في واقع الأمر كان من مصاديق لطف الإمام (عجّل الله فرجه) وعنايته بشيعته، فلولا ذلك لعانى المؤمنون من الصدمة والحيرة التي تؤدي إلى التيه والضياع التام، ويمكننا بوضوح أن نرصد عملية الإعداد والتحضير هذه من خلال الروايات والتوقيعات التي صدرت من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أو حتى من خلال ما صدر من آبائه الطاهرين، فقد جاء في التوقيع الشريف: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص٢٩١]
وكذلك ما ورد عنه (عجّل الله فرجه): فإنَّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا. [رجال الكشي لمحمد بن عمر الكشي: ج٢، ص٨١٦].
وبالجمع بين الروايتين نفهم أن ارتفاع العذر عن تأدية التكاليف الشرعية وانعدامه في حق الموالين والشيعة إنما لوجود من يحتج بهم الإمام (عجّل الله فرجه) على شيعته، وهم الفقهاء والمراجع الذين ينيبون عن الإمام (عجّل الله فرجه) في توضيح معالم الدين وأحكامه، ولولاهم لضاع الدين واندثر، وهو المعنى الذي أكده أيضاً الإمام الهادي (عليه السلام) في استشرافه لما ستكون عليه الأمور في زمن الغيبة الكبرى بقوله: لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلّا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله (عزَّ وجل). [الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج٢، ص٢٦٠]
وهو ذات المعنى المروي عن الأئمة المتقدمين، فقد روى الحارث بن المغيرة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يكون فترة لا يعرف المسلمون فيها إمامهم؟ فقال: يقال ذلك. قلت: فكيف نصنع؟ قال: إذا كان ذلك فتمسكوا بالأمر الأول حتى يبين لكم الآخر.
ولا يخفى أن التمسك بالأمر الأول لا يتعدى حقيقة الالتزام بما صدر عن نفس الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في إيجاب الرجوع إلى العلماء والفقهاء الذين جعلهم الحجة والطريق بينه وبين شيعته، وهو الأمر الذي استمروا عليه لأكثر من ألف عام.
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)