الإجابة: بسم الله الرحمن الرحيم
الدعاء من قِبَلْ المؤمنين سواء في حق النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يرتبط بقضية لها ارتباط عميق بعقيدة التوحيد والمشيئة الإلهية قد يغفل عنها البعض أو لا يلتفت إليها، ومؤداها بإيجاز هو التأكيد على حقيقة مضمونها يحكي أنه ليس هناك في عالم الإمكان أمر يجب على الله تعالى أن يفعله أو هو مجبور عليه، وإنما تصدر عنه تعالى أفعاله بمقتضى مشيئته تعالى وإرادته فهي الحاكمة على كل عالم الوجود، فإن شاء أن يفعل فعل وإن شاء لم يفعل، وهذا المعنى سيّال في كل مقتضيات أسمائه تعالى وصفاته، كالرحمة والعذاب والقبض والبسط والعطاء والمنع، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وهذا معنى دقيق وعميق في باب التوحيد وحاكميته تعالى على خلقه، فإن كل الحوادث التي تقع هي بحاجة إلى المدد والعطاء الإلهي في كل آن آن.
وهذه الحقيقة أكد عليها القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة التي حكت لنا أن المشيئة الإلهية حاضرة وفاعلة وهي السبب في بقاء الوجود على ما هو عليه، ولأجل ذلك نجد أن الله تعالى مع أنه يسدد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويؤيده بالوحي دائماً ولكن في آية ثانية يقول له تعالى: ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إلّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً﴾.
فالآية الكريمة تبين أن الله تعالى إذا لم يأخذ ما يعطي فإنما ذلك رحمة منه تعالى، ولا يعني ذلك أن الأمر خرج من يده فصار مجبوراً عليه، ومن هنا نفهم لماذا لعن الله اليهود في القرآن الكريم عندما قالوا أن الله تعالى يعجز أن يغيّر الأشياء، لأنهم اعتقدوا أن الأمور خرجت عن قدرته ويده ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾، فلاحظ كيف تؤكد الآية الكريمة على فعالية المشيئة الإلهية وحاكميتها، وإن كل الحوادث إنما هي مناطة ومعلقة بإرادته تعالى ومشيئته، ونفس هذا المعنى نجده أيضاً حينما يتحدث القرآن الكريم عن أهل الجنة، فمن جهة تؤكد الآيات الكريمة أن الله تعالى قد كتب للمؤمنين الخلود والأبدية فيها، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أبداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، ولكن في آية أخرى يعلق الله تعالى هذا الوعد بالخلود على المشيئة الإلهية ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾، وعليه فكل هذه الآيات الكريمة بصدد توضيح أن الأمور لم تخرج عن الإحاطة الإلهية ومشيئتها، لا كما قد يتوهمه البعض.
وفي إثبات هذا المعنى والتأكيد عليه جانب تربوي عظيم لنا جميعاً حتى نستمر بالدعاء وطلب العون من الله تعالى في كل حين، فإن الإنسان إذا أيقن بمصيره وأنه لا يخضع للتغيير أبداً أو المحو والإثبات أقعده ذلك عن الدعاء والتوسل والاستغاثة بالله تعالى.
وبعد هذا البيان نأتي إلى سؤالكم فنقول: إن دعاءنا له (عجّل الله فرجه) فيه جهتان:
الأولى: أن دعاءنا للإمام (عجّل الله فرجه) بطلب التأييد الإلهي له وحفظه إنما هو تكليفنا الشرعي الخاص بنا تجاه الإمام (عجّل الله فرجه)، لنعيش حقيقة أن جميع الخلق حتى المعصومين (عليهم السلام) هم بحاجة لله تعالى، ولا يستغني أحد عنه طرفة عين مع غض النظر عن الوعد الإلهي وطبيعة فعله تعالى، ولذلك تجد أن الله تعالى أوجب علينا أن ندعوه، أن نصلي على نبيه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، مع أن الله تعالى هو يصلّي عليه فعلاً وواقعاً في كل وقت، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾، وكذلك نجد أن الله تعالى في عين الوقت الذي تكفل بنصرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾، أوجب علينا تكليفاً شرعياً أن نقدم نصرتنا له أيضاً بل ويمدح المنتصرين له والمدافعين عنه، يقول تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، والحكمة في ذلك كما لا يخفى فيها فائدة تعود علينا تأتي من جهة اتحاد أفعالنا نحن مع فعل الله تعالى، فننال بذلك الكمال والقرب منه تعالى، ولذلك ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): تخلّقوا بأخلاق الله. [بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج٥٨، ص١٢٩]، فيكون دعاؤنا للإمام (عجّل الله فرجه) في طول الفعل الإلهي وامتداده.
الثانية: الذي يفهم من الروايات والأخبار أن (روح القدس) ليس هو ملكاً من الملائكة أو مخلوقاً مستقلاً عنهم (عليهم السلام)، بل هو مقام وكينونة ملكوتية يؤيد الله تعالى به الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى خلق الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) على خمسة أرواح روح الايمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح الحياة، وروح القدس. [ بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص٤٧٤]، وورد أيضاً عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله (عزَّ وجل): ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾. قال: الروح من أمر ربي. قال: خلقٌ أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو مع الأئمة وهو من الملكوت. [الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص٢٧٣]، ووظيفة هذه الروح بلحاظ كونها قوة غيبية إلهية فهي التي تؤيد وتسدد من تكون فيه، فقد ورد عن عمّار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بما تحكمون إذا حكمتم؟ فقال: بحكم الله وحكم داود، فإذا ورد علينا شيء ليس عندنا تلقانا به روح القدس. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص٤٧١]
ويفهم أيضاً من الروايات أن هذه الروح ليست على درجة واحدة أو مرتبة واحدة، فمع أنها مع جميع الأنبياء والرسل كما دلت الروايات التي ذكرناها سابقاً نجد أيضاً أن بعض الروايات تصرّح أن الله تعالى قد يؤيد بها حتى بعض المؤمنين، كما ورد في حق الكميت فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): لا تزال مؤيداً بروح القدس ما دمت تقول فينا. [رجال الكشي لمحمد بن عمر الكشي: ج٢، ص٤٦٧]، وورد كذلك في حق هشام بن الحكم: يا هشام لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. [الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص٤٩]، وكما هو واضح من الروايتين أن التأييد بها إنما هو تأييد مشروط ومقيد بمدى الالتزام والطاعة لله تعالى، وكلما اقترب العبد في التزامه مع الله تعالى أكثر ازداد التأييد الإلهي له بذلك، ضرورة أن الطاعة والانقياد له تعالى ليس على درجة أو وتيرة، واحدة ولذلك كانت المرتبة التي نالها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه المعصومين (عليهم السلام) لم تحصل عند غيرهم فيما سبق، ولذلك ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): إن الله (عزَّ وجل) أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك لم تكن مع أحد ممن مضى إلّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهي مع الأئمة منا تسددهم وتوفقهم وهو عمود من نور بيننا وبين الله. [عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق: ج٢، ص٢١٧]، فنفي وجودها وحصولها عند غير النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ليس هو نفي لحصولها مطلقاً وإنما هو نفي لدرجاتها العليا ومراتبها الرفيعة التي لم ينلها أحد ممن سبقهم (عليهم السلام)، وإذا ثبت تعدد درجاتها ومراتبها فيصح الدعاء منا للإمام (عجّل الله فرجه) بأن يفيض الله تعالى عليه تلك الدرجات العالية ليزيده كمالاً وشأناً في قربه من الله تعالى، فإن تكامل المعصومين (عليهم السلام) ليس له حد محدود أو نقطة يتوقفون عندها، فقد ورد عند الإمام الصادق (عليه السلام): فلولا أنا نزداد لأنفدنا. [الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص٢٥٤]، وورد أيضاً عنه (عليه السلام): إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) العرش ووافى الأئمة (عليهم السلام) ووافيت معهم، فما أرجع إلّا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لنفد ما عندي. [الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص٢٥٤]
نعم يبقى هنا إشكال قد يتبادر للبعض، وهو هل أن دعاءنا للإمام (عجّل الله فرجه) قد يجعلنا أصحاب فضل عليه؟!
والجواب عن السؤال بطبيعة الحال هو النفي لأن كل ما نملكه ونحققه في طاعتنا وعبادتنا ودعائنا إنما هو من بركاتهم وارشادهم لنا (عليهم السلام)، ولولاهم لم نوفق لذلك، فيكون دعاؤنا وتوسلنا مصداق لتجلي هدايتهم لنا وحسن صنعهم فينا، كالزارع الذي يستفيد من ثمار بستانه الذي زرعه بنفسه، ولولاه لم يكن هناك بستان ولا ثمار، وهكذا الأئمة (عليهم السلام) مع أنهم يتكاملون جسدياً بطعام الأرض ومائها إلّا أن كل ما عليها إنما هو بفضل وجودهم وبركات عطائهم، ولذا نقرأ في الزيارة التي يرويها الشيخ الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حق جده الإمام الحسين (عليه السلام): وبكم تنبت الأرض أشجارها، وبكم تخرج الأشجار أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها ورزقها. [الكافي للشيخ الكليني: ج٤، ص٥٧٦]، وبنفس هذا المعنى نفهم أن تكاملهم وزيادة الفيوض الإلهية عليهم بدعاء المؤمنين إنما هو رشحة من فضل عطاياهم علينا لا منّاً عليهم (عليهم السلام).
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)